عندما سافر رفاعة الطهطاوي, وهو صعيدي, درس في مؤسسة الأزهر,, وانفتح علي الثقافة الفرنسية, عاد إلينا كأحد رواد التنوير, وهكذا كان طه حسين وآخرون, أما محمد عطا الذي تخرج من هندسة القاهرة, ويحمل درجة الماجستير, فقد سافر الي ألمانيا, وتحول الي عضو بتنظيم القاعدة, وشارك في هجمات11 سبتمبر. نموذجان متعارضان تماما, فالطهطاوي خريج مؤسسة كانت بعيدة عن مناهج العلم, في ذلك الوقت لا تحتمل نقاشا أو اجتهادا أو حتي التفكير, وتعتمد علي تلقين مقاطع من كتابات سلفية, ويعتبرون من يحفظها ويرددها من العلماء, لكنه وجد العلم الحقيقي, بل والاسلام الحقيقي في باريس, فعاد ليبشر بعالم جديد, محاولا ازالة بعض غبار الكتب القديمة, محاولا إعادة أنسنة الاسلام, ليكون ملائما للعصر, بدلا عن الاستمرار في جر الحاضر الي ماض لا يمكن استعادته, ونصوص اعتراها التحريف تلو التحريف, لتلائم مصالح السلاطين والأثرياء, فلم يعودوا قادرين علي الوصول إلي جوهر الدين, من شدة صلابة قشرة صماء, عكف فقهاء وأدعياء علي تقويتها, لتحول دون الوصول الي الجوهر, وتقدم لنا مسخا مشوها, أقنعوا به الناس أنه الإسلام. أما محمد عطا الذي تخرج من مؤسسة علمية عريقة, تدرس علوم الرياضيات والهندسة, فكان مؤهلا ليكون عالما حقيقيا, لكن جامعة القاهرة, خاصة كلية الهندسة, كانت قد امتلأت بالطلاب والأساتذة السلفيين, منذ مكنهم السادات من السيطرة علي الجامعات في السبعينيات, وخرج محمد عطا وهو محمل بصورة سلبية للغرب, فهم كفار, يمارسون الرذيلة, ويرتكبون الفواحش, ولهذا سافر لينضم الي أحد الكانتونات المغلقة, مع بعض اخوة في الله منفصلون عن العالم الكافر, ويذهبون فقط الي جامعاتها من باب اعرف عدوك واستفيد بعلومهم لتعرف كيف تحاربهم. هكذا عاش أيضا الرئيس المخلوع محمد مرسي في أمريكا, وعندما سمعنا لغته الانجليزية, أدركنا أنه لم يحتك بالمجتمع الأمريكي, خرج من قريته, يحمل قفة من الطعام, وقفة أخري من الأفكار, شكلت قشرة سميكة علي مخه, لم تفلح معها كل العلوم الغربية من مجرد تهذيبها. محمد عطا ومحمد مرسي خرجا من مؤسسات علمية, لا يحترمون علومها, في هجرة جديدة إلي عالم كافر, يريدون محاربته, من أجل إعادة الحاضر ليكون علي شاكلة الماضي, انهما كافران بالعلم, ويرونه مجرد أداة للحرب, بينما الطهطاوي وطه حسين كانا يتوقان الي العلم, من أجل المعرفة والخير لكل الإنسانية, ولا يحملان أي بغض لأصحاب الديانات الأخري, بل يرونهم أكثر إسلاما من المسلمين. ومثلما كان السادات قد أعاد الجامعات المصرية إلي الظلام, بتمكين الإخوان والسلفيين, ظنا منه أنهم أفضل من الناصريين والشيوعيين الذين كانوا يهاجمون سياساته, وينظمون المظاهرات المزعجة, فإذا به يضع خميرة جماعات تكفر المجتمع, بل كفرت نظامه, ونجحت في قتله. الغرب ليس بريئا من هذه الفاجعة, فهو أيضا قد تغير, وأصبح أكثر عدوانية وعنصرية, وتراجعت فيه الفلسفة, وخفتت أنوار باريس وغيرها من مدن العلم, وبدأت تشهد نوعا أكثر شراسة من الرأسمالية, ومعها تراجعت قيم الديمقراطية عن فترات صعود الرأسمالية, والتي ظلت صامدة خلال الحرب الباردة مع الشيوعية, باعتبار الديمقراطية هي أفضل انجازات الغرب, وما يميزها ويفضلها عن الدول الاشتراكية, ثم أخذت تتواري شيئا فشيئا, إلي أن تحولت الانتخابات الي مجرد احتفالات كرنفالية, بين أحزاب تمثل جميعها الشركات متعددة الجنسيات, فتقولبت الثقافة الغربية, وأصبح هدف العلم تخريج تخصصات دقيقة جدا, تكفي لأن يكون العالم ترسا صغيرا, لكن فعالا, في آلة رأسمالية ضخمة, حتي إنك قد تجلس مع عالم له انجازات مهمة في الكيمياء أو الفيزياء, لا يكاد يعرف الا القليل جدا عما يدور في العالم, وبصورة سطحية, تصنعها وسائل اعلام جبارة. ان تردي المعرفة بمعناها الواسع قد أصبح من سمات العقود الماضية, مع فارق كبير بين الماضوية التي نعيشها, بينما يعيش الغرب حالة من تشظي المعرفة أي المعرفة المفتتة, والتي تعتمد علي تخصصات دقيقة, من دون رؤية شمولية, بما يتلاءم مع مصالح الشركات العملاقة. انها أزمة مزدوجة, لم تنتج لنا أمثال محمد عطا ومحمد مرسي فقط, بل أنتجت دواعش تربوا في لندنوباريس وغيرها من مراكز الحضارة الغربية. [email protected]