في الخامس عشر من أكتوبر سنة 1801 ، وفي مدينة طهطا بصعيد مصر، ولد رفاعة رافع الطهطاوي، العلامة البارزة المؤثرة في تاريخ الثقافة المصرية، لا جدال أن الصعيدي الأزهري المسكون بأحلام التقدم، والمتطلع إلي مصر الجديدة المتحضرة العصرية، هو الأب الروحي لكتائب المثقفين المصريين عبر ما يزيد علي القرنين. سافر رفاعة إلي باريس إماماً دينياً للبعثة التعليمية التي أرسلها محمد علي إلي فرنسا، لكنه لم يقنع بالأطر المحددة المحدودة لوظيفته، ونهل من علوم الغرب ومعارفه، وتميز منذ البدء بالقدرة علي المزج والإبداع: المزج بين ثقافتين وعالمين، وإبداع التصور الجديد المستقل الذي يتوافق مع معطيات الواقع المصري ودرجة تطوره. كان رفاعة الطهطاوي حالماً عظيماً، لكن أحلامه من ذلك الطراز القابل للتنفيذ، فهو لا يبالغ ولا يندفع، ولا يقفز قفزاً دون نظر إلي ما يمتلئ به الدرب من مطبات وعراقيل وبخاصة أن المناخ السياسي والاجتماعي لم يكن مواتياً. مصر تتثاءب وقد استيقظت لتوها من سبات طويل، واليقظة الكاملة تتطلب وقتاً وجهداً، ولا متسع لأحلام بلا ضوابط، وتطلعات لاتنبع من الواقع وتقود إليه. أحفاد أحفاد رفاعة هم المثقفون المعاصرون المطالبون الآن بالتكاتف والاتحاد، فالعد المشترك علي الصعيد الداخلي هو ذلك المعسكر الرجعي المتخلف الذي يتنكر لبديهات لم تعد عندهم إلا نوعاً من التبعية والإذعان للغرب الكافر! ثقافة العصور الوسطي، التي يبشرون بها، تمثل تهديداً حقيقياًَ لمستقبل الوطن، وما أكثر الذين يزعمون العصرية ويقفون موضوعياً في خندق الردة الحضارية، فكل حساباتهم ذاتية ضيقة الأفق، وتبدو أحياناً أقرب إلي العناد. أهي صدفة أن يتعرض رفاعة الطهطاوي نفسه لهجوم عنيف من جبهة الظلاميين أعداء الحياة؟!. إنهم يأخذون عليه فكرة الوطنية المصرية، ويرفضون إيمانه بالإفادة من الثقافة الغربية، ولا يتورعون عن إدانته لأنه بشر بالمصالحة بين الدين والدنيا، وبين الأصالة والمعاصرة.