عندما خرجت من الغرفة، كان الوجه الأبيض قد اصطبغ باللون الأصفر، والعينان انطفأتا فى محجريهما، لحظتها خفق قلبى بعنف، نبت العرق وفاض على مسامي، ورأسى أوشك الصداع أن يشطرها نصفين، الخوف استوطن، مادت الأرض من تحتى "والخطى أصبحت كبندول ساعة فقد مداره" وبدا الأمر جد خطير، وطوقتنى حيرة كمن فقد الدرب فحديثها ونحن بالعربة يوصينى بالأولاد، رغم ذلك لم أعط الأمر أدنى اهتمام ناظرا فى الاتجاه المعاكس، بل تظاهرت بابتسامة فمن يدرى لمن تحن له ساعة الغياب أولا، حتى لو كانت كل الدلائل والشواهد توحى بذلك، الصور تتراءي، الخطوات لاهثة، فتيات بزيهن الابيض، تحملن مستلزمات طبية وأخريات تدفعن الترولى باتجاه حجرة العمليات القابعة عند نهاية الممر الحلزوني، الذهن مكدود شارد غير مستقر عبر المكان المرتجف بحضن الليل البارد فالسماء حبلى بالغيوم والضوء المنبعث شحيح، وفوق السرير الجسد مسجى وبجواره علب الأدوية، جهاز نبضات القلب، اسطوانة الأكسجين، وتتململ الذكريات، تخترق جدران الماضي، يطل وجهها الصبوح، حاملا أعوام الحب والنماء "لحظة تمازحت روحانا" حيث نسمات الهواء عبر فضاء الحقول، تراقص النخيل، ورائحة زهور الحدائق المتاخمة والقمر بدر. منشدا لزمان الوصل بالأندلس، نسهر حتى الصباح ننتظر الشقيق العائد من الجبهة (بالروح بالدم هنكمل المشوار) دبيب الخطوات تتناهى لسمعي، أفقت من شرودي، ارتعشت أوصالي، اصطكت اسناني، خارت قدماى "كأن الدم قد فر منها جلست متوجسا خيفة ضياع الممكن" فى هذا الليل الذى يسدل ستائره الداكنة مترقبا خلاصه كى تبزغ الشمس، وينبت الأمل الذى مازالت بذرته باقية. نعاود الجلوس وسط الزهور المتفتحة، نتعانق خلف الأشجار، والعصافير فوقها فرحة بعودتها إلى أعشاشها فالمطر قد شرع فى الهطول، تتوه العينان بين الحبيبات والزداد يتكاثف على الزجاج، وتأخذنى الرؤية حيث ولج الباب لأرى ذات الرداء الأبيض فى حالة بحث عن الوريد، واجهنى الطبيب بنظرة عجزت عن تفسيرها، فقط مد يده بورقة آمر اياى باحضار ما فيها من الخارج. لم ينطق ببنت شفه تركنى حائرا "كملاح تائه فى لجة بحر متلاطم" هرعت أهبط درجات السلم وسط شعاع ضوء مخنوق وظل ممدود، متحسسا موضع أقدامى بجوار الرصيف، فالمطر يسقط بغزارة، والريح تزمجر، ونباح الكلاب يتصاعد، المحلات، المقاهي، والنوافذ مغلقة، داخلنى شعور متأرجح بين الخوف والرجاء فصورتها تغدو امامي، تقترب، تبتعد، وأشعل سيجارة وأخرى لحظات دوت صرخة مدوية حادة، زلزلتنى وبخطوات ملسوعة عدوت كالمجنون نظرت برهبة. الدموع تجمدت، الآهات مكتومة، نمت مساحة العطش، اتسعت مسافات انكساراتى فلحظة أن طواها الغياب. راودتنى الأفكار والهواجس، تململت داخلي، وشعرت بأنى اسقط فى قاع الغربة وحدي، والحيرة تفرش ساحتى رغم محاولاتى اليائسة فى التحرر، فكلما أحاول نسيانها، تطاردنى تتجول فى أرجاء الغرفة تقترب تندس تحت الغطاء تلمسنى بأطرافها الناعمة تلتصق بي، تفوح رائحتها أشعر بخدر يحتاج جسدي، وعندما أهم بتطويقها تنسل هاربة وظلها يسبقها، كانا يحثان الخطي. أحدث نفسى كمن يهذي، أقرأ شيئا مما حفظته، وأنا "أعبر المسافة بين وعيى وموتي" وسط الضوء الشاحب لأعمدة الإضاءة المائلة، ولافتات شوارع انطمست اسماؤها "وبيوت قديمة ترتمى متهالكة على الطريق" تفسح المجال لأصوات مبهمة تئن وأوراق أشجار تتهاوي. تذرف دموع الوجد تردد تراتيل الفراق بأنفاس محشرجة كأنها توشك أن تتوقف. والخطوات متعبة تنقب عن سنوات عمر مر، عبر ظلال رمادية لليل غير آبه ناسجة خيوطا واهية لأمنيات ضائعة أفقت من شرودى على دوامات من الغبار الكثيف الذى احاطنى خلفته السيارة المسرعة التى مرقت بجواري، تعثرت كطائر حائر ظل عشه تسمرت مكانى أتبين معالم الطريق وسيل من السباب يلاحقني. اعتليت الرصيف الموازى للبحر جلست على أول مقعد قابلني، حينها كانت أشعة ضوء القمر لا تزال ترسل نورها، على سطح البحر العاصف ومحاولات صياد يجاهد فى الرسو على الشاطئ وتراءى لى طيفها على صفحة المياه يحادثني. - ماذا أنت فاعل؟ - لاشيء. - حبيبى لاتكن عنيدا! - كيف؟ - تخلص من أحزانك و. أرمأت برأسى دون متابعة رد الفعل، فالدوار شرع يدق رأسي، وأشعة ضوء القمر بدأت فى التلاشي، ومازال البحر يهدر بصخب يفرغ ما فى جوفه، ورأيت طيفها يحلق بعيدا فى الفضاء حتى تواري، نهضت متحسسا خطواتى باتجاه البيت، عبر الإضاءة الخافتة، وهى تسحب ظلى المرعوش على الأرض. من دفتر الأحوال - سارت فى البلدة امرأة متشحة بالعباءة السوداء، تزعم أن أبى اغتصب ميراثها، وكلمات أخرى لم أعرف كنهها وقتئذ وكلما قابلتها ترمقنى بعيون مستنكرة، فصرت أتفرس ملامحها وشعور عميق تملكنى طوال الوقت أنها تسعى وراء غاية. - قلت وقالت كل الكلمات التى بيننا نفدت فذابت مشاعرى بحثا عن منفذ أو بصيص ضوء للخروج من دوائر الحاجة التى ارتضيت امتصاصها على مضض (لكن المسافة بين زمنى والذاكرة فراغ، وبين ما بداخلنا وغايتنا زمن يضيع) لذلك تمزقت الخيوط الموصلة بينى وبينها. فتضاءلت العلاقة مولدة شعورا بمفارقة الروح للجسد تضاءلت حتى صارت فى حجم النقطة. - بعد جهد جهيد تمكنت من فك طلاسم اللوحة الخشبية فقد تآكلت أغلب خطوطها دلفت إلى القاعة فى محاولة البحث عن كتاب أو رواية لكنى لم أتمكن، ألفيتنى محاصرا بالعنكبوت والذباب وذرات الأتربة تندفع نحوي. تصدمنى فشعرت بالاختناق. خرج الهواء وحل التراب وأنا ابحث فى لهفة ورائحة عطنة لم أعرف مصدر انبعاثها. انتحيت جانبا فى ركن قصى حيث الهواء. لكن الهواء تلاشى تماما، وفرض التراب سيطرته على كل شئ ووجوه بله تجلس والمناضد عليها بقايا طعام وأكواب فارغة وعلى أرضية القاعة ينام دستوفسكى والجبرتى فتولد الغضب داخلى علت الأصوات واختلطت ببعضها متداخلة بأنى لم آت لإصلاح ما فسد!