قامت من نومها مفزوعة.. احتضنت صغيرها.. دفنته فى صدرها كيانًا حيًّا نابضًا «فى الليل على فراشى طلبت مَن تحبه نفسى، طلبته فما وجدته».. كان هو وطنى، وكنت نخلته السامقة، منه أرتوى ومن ثمره أُطعم الأرامل والفقراء. كان يقف هناك، على شاطئه الغامض ينادينى، ينادى روحى وجسدى والمستحيل، أمد له يدى، أضع رأسى على صدره -وسادتى اللينة- أود أن يزورنى النعاس إلى جواره فى النور. قامتْ من نومها مفزوعة، احتضنتْ صغيرها، دفنتْه فى صدرها كيانا حيا نابضا يشيع فى أطرافها وأعماقها رغبة البقاء.. مسحت بكفها على رأسه، قَبَّلت جبينه.. هذا الكائن الدقيق الحجم، الراجف بالحنان كالقلب، تود لو تستوعبه داخل كيانها، وتلجأ إلى صدره كطفل خائف. الليل مهيب، ملتحف بعباءة الصمت والوحشة، نجومه تتوارى كقناديل معتمة، ونصف قمر مخنوق معلق فى شرفة السماء. إحساس حارق بأنها صارت منسية فى أرض لم يعد يعبرها أحد. أجهشت فى بكاء مُرّ.. مالت تتسمع صوت الصدأ الزاحف فى الليل.. تغمض عينيها مستندة بظهرها إلى الحائط تنتظر أصابع نور الصبح الطالع عندما تتسلق الحيطان وتتعلق بحديد النافذة فوق رأسها. ■ ■ ■ مال عليها بجسده النحيل، لبد فى جوارها كقطة ودودة، تشبَّث بها، بَكَى.. ضمَّته إلى صدرها، جاهدت أن لا تنزل دموعها.. هدَّأت من روعه، قادته إلى المدرسة. عشرات الأيدى لأمهات ممسكات بأطفالهن.. يتجاوزها.. يقفز فوقها.. يتجاهلها.. وتستقر العينان الصغيرتان على يد خشنة، مشعرة، قوية، لأب ممسك بيد طفل.. يقف أمامها طويلا مبهورا.. تتسارع أنفاسه.. يتأملها.. يحس نبضها دافئا، يتلمس بأصابعه الصغيرة خشونتها المحببة.. يشعر بالأمان فى ظلها.. ويسير. فناء كبير يموج بالعيال لا يألف فيه أحدا ولا يأبه إليه فيه أحد.. اعتادوا على صمته وحضوره الأخرس.. زحام الأطفال وخشيش الثياب المغسولة والضحك.. وجوه مزدهية بالسرور، ووجوه مسكونة بالخوف والرهبة.. أفلتته من يدها مخنوقا بالدموع.. مأخوذا غاب فى الزحام.. عيناها معلقتان به، بينما يده الصغيرة الممدودة تلوح لها.. تحدرت الدموع، نهر ساخن يغسل خديها، لم تمسحها.. تركتها تسحّ، تنزل على قلبها تواسيه.. ليس ما هو أكثر حنانا من الدموع.. أقفلت عائدة وشفتاها ترتجفان بما يشبه الابتسامة. ■ ■ ■ شمس لَيّنة حميمة تزحف صاعدة تتسلق أسوار المدرسة، تفرد جسمها الدافئ على الأسطح والحيطان والناس وكل شىء.. تبعث الدفء فى الأجساد الغَضَّة الصغيرة.. يتثاءب كلب متناوم، وتموء فوق الجدار قطة تتدلى للوثوب.. معلمات بدينات مشغولات عنهم بالثرثرة وحَبْك غطاء الرأس.. يتقافزون.. يتراكضون خفافا.. تتطاير أصواتهم الصغيرة العذبة.. يتخاطفون أشياء.. يصرخون.. يضحكون حتى يسقطوا مضروبين بالتعب.. يلهثون، ويبتسمون.. يتحلقون حول بعضهم وتجرى أحاديثهم هادئة حينا وصاخبة أحيانا: عندنا كمبيوتر عليه أفلام كرتون. عندنا حوض سمك فيه سمك ملون. عندنا عصافير ملونة فى قفص. عندنا أتارى عليه ألعاب كتييييييييير. وحده يراقبهم فى صمت، على استحياء يتأمل وجوههم.. فى عينيه يسكن طائر يتنفس هلعًا.. يقترب منهم محاذرًا.. نبت السؤال مخنوقا على شفتيه بينما تستجدى حنجرته ظل الأشجار ورائحة التراب. متحسسا كلماته كمن يخوض فى أرض زلقة يسألهم: عندكم أب؟