حين أتأمل ما لدي من آثار الرحالة العرب, بالفخر والغيرة والحيرة. فخر بإنجازهم, وغيرة منهم, وحيرة كان يمكن أن تنتهي لو أجابوا عن سؤال يخص فلسفة كتابتهم هذا النوع الأدبي. كتبوا كثيرا, ولم يهتموا بتنظير ماتركوه لأجيال لاحقة المقارنة بين ما تركوه وما يمكن أن أكتبه ظالمة, هذا يفسر لي سر تهربي من الكتابة, متعللا بأعذار لا تقنعني, كلما زرت بلدا, قلت لنفسي إن كثيرين سبقوا ورأوا, اندهشوا أو صنعوا الدهشة لم يتركوا شيئا, حتي أصبح العالم مكشوفا بل منتهكا, فما الذي بقي لنا؟ لا شيء سوي العين البكر, عين آدم حين خرج من الجنة إلي أرض عليه مهمة اكتشافها, الاكتشاف فضيلة تكفر عن خطيئة. العالم رغم السكون الظاهر متجدد ينتظر من يراه بعين لم تسأم التكرار, ويتواصل مع روح البشر والأماكن. أدب الرحلة فائض محبة, علاقة مراوغة للقبض علي معني هارب, والصدق هو ما يمنح الكتابة معني. لم أضبط نفسي مضطرا لقول ما لا أريد. أستبق الزمن ناظرا إلي الأمام مئة عام, وأضع نفسي مكان قارئ لم يولد بعد, سيكون قاسيا في حكمه, وأتفادي أن يصفني بالكذب حين يقرأ لي شيئا عن بلد لم أحبه بقدر كاف يحملني إلي الكتابة عنه. زرت بلادا جميلة, أو تبدو كذلك, ولم تلتقط نفسي الإشارة, تلك الذبذبة الخاصة بروح المكان, وتأجلت الكتابة, إلي حين أو إلي الأبد. كما تكررت زيارتي لبلاد لم تتجاوز العين إلي قلب يجب أن يفيض بمحبتها أولا. في السفر ابحث عن مصر التي أحلم بها. من حق أي إنسان أن يري بلده الأجمل. لا أبالغ إذا قلت إن مصر هي الأبهي. دائما أقول لأصدقائي من غير المصريين إن القاهرة بصرف النظر عن أي اسم تحمله عبر العصور خلقها الله علي مهل, في هذا المكان, ثم خلق مصر بحدودها التي لم تتغير منذ عام3100 قبل الميلاد, ثم خلق الدنيا. أقسو علي مصر لأنني أغار عليها, وقسوة المحب واجبة دائما. أكاد أتشاجر مع عبد الرحمن الكواكبي(1854 1902), وأصرخ فيه: نحن شعب طيب, راق, فمن أين يأتي الجهلاء المستبدون إلي سدة الحكم؟ أستحلفك بكل غال عشت وقتلت من أجله, أن تراجع بعض أفكارك, خصوصا تلك التي تنبش عن مستبد بداخل كل منا, كما تقول في كتابك( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد): وإذا سأل سائل, لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مسكت هو: إن الله عادل مطلق لا يظلم أحدا, فلا يولي المستبد إلا علي المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء المستبدين مستبدا في نفسه, ولو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم, حتي ربه الذي خلقه تابعين لرأيه. فالمستبدون يتولاهم مستبد, والأحرار يتولاهم الأحرار, وهذا صريح معني: كما تكونون يولي عليكم. الآن, حين أعيد قراءة ما سجلته عقب رحلاتي, أكتشف أنني كنت أبحث عن المدينة, عن الرصيف, عن الدولة. تخلو القرية من الرصيف, تختلط السيارات والعربات الخشبية والدراجات والمشاة والدواب, تسهل السيطرة علي القرية, يمكن تطويقها لخلو تضاريسها من التعقيد, ويسعي الاستعمار أولا لترييف المدينة, وتخريبها بنزع روحها, وتنميط علاقاتها لتصير قرية. في القرية, تحدد الأفق والخيال أعراف العشائر, وفي المدينة تمتد الأحلام باتساع الأخيلة, والرغبة في المشاركة في دولة دينها دستور يصنعه المواطنون. تبدو العاصمة الجزائرية جنة رعوية, غابة تضم هضابا وأودية وسهولا وأشجارا, ثم نبتت فيها مدينة صنعها الله علي عينه, ثم قال لها كوني فكانت لوحة تلخص التاريخ, ضد فكرة الاستقامة والبعد الأحادي. شيء من التعقيد يمنحها غموضا, يجعلها أقرب إلي فكرة العناد والاستعصاء, فما الذي أوقعها تحت الاحتلال أكثر من130 عاما؟ كيف ينام مستعمر قرير العين في مثل هذه الجغرافيا؟ كتاب( الأولمب الإفريقي: الجزائر بعيون عربية1900 2005) يقدم إجابة كتبها الزعيم المصري محمد فريد(1868-1919), وقد زار الجزائر عام1901, وسجل عنصرية المستعمر الفرنسي في تغيير معالم المدينة, فما يباح للفرنسيين أو المتفرنسين, ممنوع علي الجزائريين فلا يجوز لهم أن يؤلفوا أي جمعية ولو لفتح المدارس ونشر التعليم.. أما ما اتفق علي تسميته بالتعليم العصري, فلا وجود له بالنسبة للمسلمين بالمرة, كما حولوا بعض المساجد إلي كنائس, واستبدلوا بأسماء المدن أسماء إفرنجية محضة, ومنعوا الجزائريين أن يختلطوا بمسلمين أجانب, وبخاصة الأتراك والمصريون.. فالمصري تخشي مخالطته للجزائريين لما تعوده في بلاده علي حرية التكلم والكتابة والانتقاد العلني. ولذلك فكل مسلم يطأ البلاد الجزائرية مراقب أشد المراقبة بكيفية غير محسوسة. المدنية التي أبحث عنها بنت الزمن, تحمل من كل عصر رائحته وبقايا لونه وآثار أرواح أهله, تمتد جذورها في الأرض, ثابتة يصعب علي الريح أن تذروها, لا يكفي التنظيم وحسن التنسيق, وجمال السطح الفاقع في فقرة, لابد من شيء آخر, لعله العمق, لعلها الروح. في كتابه عن أسمهان, يسجل محمد التابعي أنه ذهب إلي تل أبيب عام1941, قائلا: والأثر الذي تركته هذه المدينة أنها أشبه بالمدن التي تشيدها ستوديوهات السينما في هوليود ليلتقطوا فيها حوادث فيلم سينمائي معين فإذا ما انتهوا من التقاط المناظر, هدموا المدينة وما فيها! اي انها مدينة ولكنها لا توحي إلي النفس بشعور الثبات والاستقرار. أتحدث عن القاهرة, احاول متمنيا ان أقبض علي بقايا المدينة وهي تتسرب امام الأعين, تنجرف من دون رحمة إلي ترييف عمراني, وترييف نفسي أكثر خطرا, لانه يحتمي بالدين, في نفاق جماعي لم تشهد له مصر مثيلا, تتجاور مظاهر التدين الشكلي مع كل انواع الجرائم, تتعانق اقامة الصلوات الخمس من مكبرات الصوت في مساجد وزوايا مع اغان قبيحة تنطلق من سيارات لا تكف عن ضخ نفيرها, التزييف والترييف في سباق محموم, تتصالح فيه الرشوة والفساد مع الحرص علي إقامة الصلوات في اماكن العمل, يسهل ان تري اكوام القمامة في الشوارع بجوار مساجد تقام فيها دروس الوعظ يوميا لحث الناس علي الإيمام بدين هم مؤمنون به. أبحث عن مدينة حقيقية, فضاؤها يؤهل الناس للتسامح, القرية تعود سكانها علي نمط يكاد يكون وحيدا, لا يقبلون الغريب, ويرتابون في القادم, ولا تتلاقح افكارهم إلا قليلا, والأفق محدود لا يتسع للجديد, ولا يرحب به, كانت رحلة الشيخ مصطفي عبدالرازق الاوروبية فرصة ليطلعنا علي أن الرقص مهما يكن من شأنه فهو من متاع المدينة, ونحن لا نزال نلمس من المدينة ما يسد الرمق.. لا تخلو الأمم من الرقص إلا فترات في عهود الانقلابات الخطيرة, او الفتن العاصفة هكذا كتب الشيخ الذي يصف ام كلثوم, عام1925 بأميرة الغناء في وادي النيل, وانها نعمة من نعم الدنيا ويري أنه من الغريب ان بعض سيداتنا يسدلن النقاب علي وجوه أذن الله ان تكشف. ترييف الناس بلغ حدا يدفع بعض خطباء الفضائيات إلي تكفير غير المسلمين, والصاق الصفات الكريهة بالاوروبيين وتقديم العزاء للمسلم المضطر للبقاء هناك في ديار الكفر ولكن وزير الاوقاف المصري, شيخ الأزهر عبدالرازق يطلعنا في كتاب( مذكرات مسافر.. رحلة شيخ الأزهر إلي أوروبة1909 1914) علي وجه سمح لعالم اكسبته الرحلة تحضرا حتي انه يعلن انه يحب باريس حبا جما.. باريس موجود حي, تنبعث الحياة من ارضه وسمائه, وصبحه ومسائه, ورجاله ونسائه, باريس عظيمة بكل ما تحتمله هذه العبارة من معاني الحياة والإجلال والجمال والذوق والانسجام والخلود, باريس عاصمة الدنيا, ولو ان للآخرة عاصمة لكانت باريس! وجه آخر للمدينة يقدمه شيخ الأزهر في أسي, فمرضي باريس متفائلون ومع كل واحد من اولئك المرضي مبصقة, يودعها في خفاء ما يفيض به صدره فلست تلمحهم حين يبصقون, ولست تري في سبيل اثرا لبصاق. اما قومنا عفا الله عنهم مرضي وأصحاء فيبصقون في كل مكان, تري آثار لعابهم ونفثات صدورهم وخياشيمهم في المتنزهات والطرقات, والمنازل وأماكن العمل, وفي عيادات الأطباء ايضا في عيادة طبيب, سعلت مريضة وبصقت علي الأرض, يصف الشيخ سلوكها بأنه إخلال بأبسط قواعد الصحة والآدب وأزعجة ان يقول زوج المريضة, مسوغا سلوكها, ليس علي المريض حرج, ويعلق الشيخ قائلا: اعلم يقينا ان الله لايريد ان يقول إنه لا لوم علي المريض ان يلوث ببصاقه حجرة طبيب, ومعاذ الله ان يكون الدين الذي جعل الطهارة من الإيمان مسوغا للناس ان ينشروا في الأرض اقذارهم وجراثيم امراضهم, ولقد سمعنا ان بعض علماء الأزهر كان إذا غضب من تلاميذه في الدرس بصق في وجوههم, ويقال إن الحال تغيرت في ما غير الدهر من شئون الأزهر ونرجو ان لا تكون قد انعكست الحال. من حقي أن أشعر بالأسي والحزن علي مدينة تتفتت ماذا يقول ابن خلدون لو رآها الآن؟ لم يقف طويلا امام الإسكندرية, وقد أقام بها شهرا بعد رحيله إليها من تونس, ولكنه رأي القاهرة حضرة الدنيا, وبستان العالم, ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر, وإيوان الإسلام.. بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء.. سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس, وكبير العلماء بالمغرب, ابا عبدالله المقري فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عزالإسلام وينقل ابن خلدون قول قاضي العسكر بفاس للسلطان في مجلسته: إن الذي يتخيله الإنسان, فإنما يراه دون الصورة التي يتخيلها, اتساع الخيال عن كل محسوس, الا القاهرة, فإنها أوسع من كل ما يتخيله فيها وأعجب وصفة السلطان. من حقي ان أشعر بالأسي والحزن علي مدينة تتفتت اخجل من المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة(1907 2006) اشعر انني اخون ثقته, في سيرته, وتحت عنوان( هذه هي المدينة) يقول إنه في القاهرة, منتصف ثلاثينيات القرن العشرين, رأي مدينة لأول مرة, القدس ودمشق وحلب وبيروت بدت لي قري كبيرة جدا بالنسبة إلي هذه المدينة.. في القاهرة عرفت معني المتحف, باختصار بهرتني القاهرةالمدينة, وبهرتني القاهرة الجميلة بشوارعها العريضة بقصورها الفخمة بدار الأوبرا وبعد أن أصر علي تسلق الهرم, يقول: وقفت علي قمة هرم الجيزة الأكبر, والقيت بنظرة إلي ما انبسط امامي فرأيت دنيا تآمرت الطبيعة والإنسان علي إقامتها وتزويقها وزخرفتها, فقد حباها الله بماءالنيل الذي يحيي الأرض ويبعث فيها الروح والريحان, ورأيت يومها امامي علي شيء من البعد جبل المقطم الذي تسلقته إلي القمة ايضا بعد بضعة ايام, بين المقطم والأهرام نشر التاريخ أمجاده( حول العالم في76 عاما: رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشمال الإفريقي1916 1992). لا اشغل نفسي كثيرا بتأمل غرائب الأماكن, ولاتبهرني البنايات الفخمة, الا بقدر ما تحمل من ملامح لمن شيدوها, كأنني أراقبهم, أردد غناءهم, وأحنو عليهم فأحتمل بعض شقائهم, وأمسح عرقا يتصبب منهم, ويتشكل حجارة لها رائحة البشر. أتامل ذلك الطفل الذي كنته, وهو يقبض علي عصا يقود بها الحمار, وتتيبس يده من شدة البرد, وينفخ فيها ليدفئها, لكي يتمكن من القبض علي الشقرف, لحش البرسيم للبهائم, ويؤخره شغل الغيط عن حضور طابور المدرسة, وكيف تعلم مصادفة, من دون ان يبالي به أحد, رغم حرص امه, التي لا تقرأ علي أن يستمر في الدراسة, أتذكره في بداية المرحلة الثانوية, وكان الحضور إلي معرض القاهرة للكتاب حلما يتحقق بجنيه واحد, وتأجل الحلم, اتأمل ذلك الطفل, وانظر ورائي واتنهد بعمق, كأنني عشت مائة عام, ولا أصدق ان طفلا عاش حياة كدراما سيكون له عبر القارات اصدقاء من الأماكن والبشر. قبل أن تكون الرحلة ممكنة, تمنيت ان يتاح لي منطاد ثابت في الأفق, ولو بعيدا عن نطاق جاذبية الأرض, لأراقب حركة الناس من بعيد, ولكن التورط في أجواء الرحلة حقق لي متعة الرؤية والاستماع معا. وحين اصبحت الرحلة ممكنة, اكتشفت انني أزهد السفر, ولست مولعا به, قبيل كل سفر اتمني الغاءه, أشعر بالانقباض, ليس رهبة من الموت, لكنه احساس غامض لا أعرف له تفسيرا, قبل ثلاثة أيام من سفري إلي الهند للمرة الثانية(2008) اشتريت لأولادي سيارة ظللت استبعد فكرة اقتناء سيارة او قيادتها, لشغفي بالنظر إلي ما حولي وأنا راكب بحرية لا تتاح لسائق, فاجأت اولادي بالسيارة يقودها أخي أيوب, لم أخبرهم حتي بعد رجوعي من نيودلهي أنني كنت أشعر, قبل السفر, بملاك الموت ينتظرني في بلاد غاندي, وأردت اعفاءهم من عناء شوارع القاهرة, في تلك المرة اخطأني الملاك. [email protected]