للمتقدمين لمسابقة شغل 243 وظيفة بوزارة العدل.. رابط الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني    التعليم العالي: إدراج 15 جامعة مصرية في تصنيف QS العالمي لعام 2025    «الأطباء» تكشف تفاصيل إدراج «الدراسات العليا للطفولة» ضمن التخصصات الطبية    «الإسكان»: تنفيذ 11 مشروعا لمياه الشرب والصرف الصحي بمطروح    «المالية»: التأمين الصحي الشامل يخلق بيئة تنافسية بين الحكومة والقطاع الخاص    هشام آمنة: تنفيذ 5130 مشروعا ضمن برنامج التنمية المحلية بصعيد مصر    محافظ أسوان: طرح كميات من الخراف والعجول البلدية بأسعار مناسبة بمقر الإرشاد الزراعي    مراسل «القاهرة الإخبارية»: إسرائيل تواصل قصف قطاع غزة    غواصة روسية تعمل بالطاقة النووية تزور كوبا.. وهافانا: لا تهدد المنطقة    خلاف داخل الناتو بشأن تسمية مشروع دعم جديد لأوكرانيا    ماكرون يرحب بزيلينسكي في قصر الإليزيه    المتحدة للخدمات الإعلامية تعلن تضامنها الكامل مع الإعلامية قصواء الخلالي    واشنطن تطالب إسرائيل بالشفافية عقب غارة على مدرسة الأونروا    سيناريو ثلاثي يبشر ألمانيا بالتتويج على أرضها    لوكاكو يكشف إمكانية إنتقاله للدوري السعودي في الموسم الجديد    ضبط سيدة أدارت كيان تعليمي وهمي للنصب على المواطنين في المنوفية    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الدائري بالقليوبية    تعليم البحر الأحمر تنهي استعداداتها لامتحانات الثانوية العامة    ضبط 136 مخالفة فى المخابز والأسواق بتموين الدقهلية    الموقع الرسمي ل نتيجة الشهادة الإعدادية محافظة القليوبية 2024 الترم الثاني (تظهر خلال ساعات)    رئيس بعثة الحج: انتهاء تفويج الحجاج من القاهرة إلى المدينة المنورة    السيطرة على حريق محل أدوات منزلية شهير بمركز بلبيس فى الشرقية    مسار العائلة المقدسة فى أرض مصر.. الطريق من سيناء إلى أسيوط.. صور    خالد جلال ناعيًا محمد لبيب: ترك أثرًا طيبًا    حسين حمودة بعد حصوله على جائزة الدولة في الأدب: «حاسس إن في حاجة أقدر أقدمها لبنتي»    وزيرة الثقافة وسفير اليونان لدى القاهرة يشهدان عرض "الباليه الوطني اليوناني"    فريق كايروكي يحيي حفلاً غنائيًا في تونس 3 يوليو    تعرف على فضل صيام التسعة أيام الأوائل من ذي الحجة    صيام العشر الأول من ذي الحجة 2024.. حكمها وفضلها والأعمال المستحبة بها    رئيس «الرقابة والاعتماد»: معايير الجودة تؤسس لنظام صحي تقل فيه الأخطاء الطبية    خبراء عسكريون: الجمهورية الجديدة حاربت الإرهاب فكريًا وعسكريًا ونجحت فى مشروعات التنمية الشاملة    إشادات صينية بتطور النقل البحري والسكك الحديدية في مصر    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 7 يونيو 2024.. ترقيه جديدة ل«الحمل» و«السرطان»يستقبل مولودًا جديدًا    مرسى جميل عزيز l ملك الحروف .. و موسيقار الكلمات    مداهمات واقتحامات ليلية من الاحتلال الإسرائيلي لمختلف مناطق الضفة الغربية    الإسكان: تم وجارٍ تنفيذ 11 مشروعًا لمياه الشرب وصرف صحى الحضر لخدمة أهالى محافظة مطروح    ارتفاع حجم التجارة الخارجية للصين بواقع 6.3% في أول 5 أشهر من 2024    منتخب السودان يتصدر مجموعة تصفيات كأس العالم على حساب السنغال    الأخضر بكامِ ؟.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري في تعاملات اليوم الجمعة 7 يونيو 2024    تفشي سلالة من إنفلونزا الطيور في مزرعة دواجن خامسة بأستراليا    مفاجأة.. دولة عربية تعلن إجازة عيد الأضحى يومين فقط    افتتاح المهرجان الختامي لفرق الأقاليم ال46 بمسرح السامر بالعجوزة غدًا    الأوقاف تفتتح 25 مساجد.. اليوم الجمعة    سيد معوض: هناك لاعبين لعبوا المباراة بقوة وبعد نصف ساعة كانوا بعيدين تمامًا    رغم الفوز.. نبيل الحلفاوي ينتقد مبارة مصر وبوركينا فاسو .. ماذا قال؟    الصيادلة: الدواء المصري حتى بعد الزيادة الأرخص في العالم    ما قانونية المكالمات الهاتفية لشركات التسويق العقاري؟ خبير يجيب (فيديو)    ساتر لجميع جسدها.. الإفتاء توضح الزي الشرعي للمرأة أثناء الحج    أمين الفتوى: إعداد الزوجة للطعام فضل منها وليس واجبا    «صلاة الجمعة».. مواقيت الصلاة اليوم في محافظات مصر    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    عيد الأضحى 2024| أحكام الأضحية في 17 سؤال    في عيد تأسيسها الأول.. الأنبا مرقس يكرس إيبارشية القوصية لقلب يسوع الأقدس    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    حظ عاثر للأهلي.. إصابة ثنائي دولي في ساعات    إبراهيم حسن: الحكم تحامل على المنتخب واطمئنان اللاعبين سبب تراجع المستوى    بمكون سحري وفي دقيقة واحدة .. طريقة تنظيف الممبار استعدادًا ل عيد الأضحى    نجاح أول تجربة لعلاج جيني يعمل على إعادة السمع للأطفال.. النتائج مبشرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبحث عن الرصيف
ما يشبه الشهادة
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 01 - 2011

في الطريق إلي الدوحة، لحضور مؤتمر (العرب بين البحر والصحراء)، مرتحلا في السحاب أو فوقه، خيل إلي أنني شخص آخر عاش مئة عام. كأنني لا أعرف هذا الشخص الذي تلبي طلباته، قبل أن يهم بالإشارة، هل هو نفسه الطفل في رحلته الأولي، إلي »سمنود«، أقرب مدينة إلي القرية؟ كان ذلك في نحو الخامسة، محشورا في سيارة غير آدمية، لم يشعر بالبرد، قبل الشروق، إلا بعد الهبوط علي الأسفلت، حافي القدم. وقف أبي أمام رجل يفترش الأرض، وطلب لي حذاء من البلاستيك. مددت قدمي اليمني، وقال الرجل بصبر جميل: »يا ابني الجزمة مخلوفة«، شعرت بالخزي، وقلت في نفسي: متي يا إلهي أكبر بقدر يجعلني أميز الفردة اليمني من اليسري؟
فيما بعد، اكتشفت أن المكان الذي احتله الرجل اسمه »الرصيف«، وأنني سأتخذه معيارا للحكم علي رقي المكان والإنسان، الآن وفيما كتبه الرحالة العرب. وحين أتأمل ما لدي من آثارهم، أشعر بالفخر والغيرة والحيرة. فخر بإنجازهم، وغيرة منهم، وحيرة كان يمكن أن تنتهي لو أجابوا عن سؤال يخص فلسفة كتابتهم هذا النوع الأدبي. كتبوا كثيرا، ولم يهتموا بتنظير تركوه لأجيال لاحقة.
المقارنة بين ما تركوه وما يمكن أن أكتبه ظالمة، هذا يفسر لي سر تهربي من الكتابة، متعللا بأعذار لا تقنعني، كلما زرت بلدا، قلت لنفسي إن كثيرين سبقوا ورأوا، اندهشوا أو صنعوا الدهشة، لم يتركوا شيئا، حتي أصبح العالم مكشوفا بل منتهكا، فما الذي بقي لنا؟
لا شيء سوي العين البكر، عين آدم حين خرج من الجنة إلي أرض عليه مهمة اكتشافها، الاكتشاف فضيلة تكفر عن خطيئة. العالم رغم السكون الظاهر متجدد، ينتظر من يراه بعين لم تسأم التكرار، ويتواصل مع روح البشر والأماكن. أدب الرحلة فائض محبة، علاقة مراوغة للقبض علي معني هارب، والصدق هو ما يمنح الكتابة معني. لم أضبط نفسي مضطرا لقول ما لا أريد. أستبق الزمن ناظرا إلي الأمام مائة عام، وأضع نفسي مكان قارئ لم يولد بعد، سيكون قاسيا في حكمه، وأتفادي أن يصفني بالكذب حين يقرأ لي شيئا عن بلد لم أحبه بقدر كاف يحملني إلي الكتابة عنه. زرت بلادا جميلة، أو تبدو كذلك، ولم تلتقط نفسي الإشارة، تلك الذبذبة الخاصة بروح المكان، وتأجلت الكتابة، إلي حين أو إلي الأبد.
في السفر أبحث عن مصر التي أحلم بها. من حق أي إنسان أن يري بلده الأجمل. لا أبالغ إذ قلت إن مصر هي الأبهي. دائما أقول لأصدقائي من غير المصريين إن القاهرة، بصرف النظر عن أي اسم تحمله عبر العصور، خلقها الله علي مهل، في هذا المكان، ثم خلق مصر بحدودها التي لم تتغير منذ عام 3100 قبل الميلاد، ثم خلق الدنيا.
الآن، حين أعيد قراءة ما سجلته عقب رحلاتي، أكتشف أنني كنت أبحث عن »المدينة«، عن الرصيف، عن الدولة. تخلو القرية من الرصيف، تختلط السيارات والعربات الخشبية والدراجات والمشاة والدواب، تسهل السيطرة علي القرية، يمكن تطويقها لخلو تضاريسها من التعقيد، ويسعي الاستعمار أولا لترييف المدينة، وتخريبها بنزع روحها، وتنميط علاقاتها لتصير قرية. في القرية، تحدد الأفق والخيال أعراف العشائر، وفي المدينة تمتد الأحلام باتساع الأخيلة، والرغبة في المشاركة، في دولة دينها دستور يصنعه المواطنون.
تبدو العاصمة الجزائرية جنة رعوية، غابة تضم هضابا وأودية وسهولا وأشجارا، ثم نبتت فيها مدينة صنعها الله علي عينه، ثم قال لها: »كوني«، فكانت لوحة تلخص التاريخ، ضد فكرة الاستقامة والبعد الأحادي. شيء من التعقيد يمنحها غموضا، يجعلها أقرب إلي فكرة العناد والاستعصاء، فما الذي أوقعها تحت الاحتلال أكثر من 130 عاما؟ كيف ينام مستعمر قرير العين في مثل هذه الجغرافيا؟
كتاب (الأولمب الإفريقي: الجزائر بعيون عربية 1900-2005) يقدم إجابة كتبها الزعيم محمد فريد (1868-1919)، وقد زار الجزائر عام 1901، وسجل عنصرية المستعمر الفرنسي في تغيير معالم المدينة، فما يباح للفرنسيين أو المتفرنسين، ممنوع علي الجزائريين »فلا يجوز لهم أن يؤلفوا أي جمعية ولو لفتح المدارس ونشر التعليم... أما ما اتفق علي تسميته بالتعليم العصري، فلا وجود له بالنسبة للمسلمين بالمرة«، كما حولوا بعض المساجد إلي كنائس، واستبدلوا بأسماء المدن »أسماء إفرنجية محضة«، ومنعوا الجزائريين أن يختلطوا بمسلمين أجانب، وبخاصة الأتراك والمصريون.. فالمصري »تخشي مخالطته للجزائريين لما تعوده في بلاده علي حرية التكلم والكتابة والانتقاد العلني. ولذلك فكل مسلم يطأ البلاد الجزائرية مراقب أشد المراقبة بكيفية غير محسوسة«.
المدينة التي أبحث عنها بنت الزمن، تحمل من كل عصر رائحته وبقايا لونه وآثار أرواح أهله، تمتد جذورها في الأرض، ثابتة يصعب علي الريح أن تذروها، لا يكفي التنظيم وحسن التنسيق، وجمال السطح الفاقع في فقره، لا بد من شيء آخر، لعله العمق، لعلها الروح. في كتابه عن أسمهان، يسجل محمد التابعي أنه ذهب إلي تل أبيب عام 1941، قائلا: »والأثر الذي تركته هذه المدينة أنها أشبه بالمدن التي تشيدها ستوديوهات السينما في هوليود ليلتقطوا فيها حوادث فيلم سينمائي معين فإذا ما انتهوا من التقاط المناظر.. هدموا المدينة وما فيها! أي أنها مدينة ولكنها لا توحي إلي النفس بشعور الثبات والاستقرار«.
أتحدث عن القاهرة، أحاول متمنيا أن أقبض علي بقايا »المدينة«، وهي تتسرب أمام الأعين، تنجرف من دون رحمة إلي ترييف عمراني، وترييف نفسي أكثر خطرا، لأنه يحتمي بالدين، في نفاق جماعي لم تشهد له مصر مثيلا، تتجاور مظاهر التدين الشكلي مع كل أنواع الجرائم، تتعانق إقامة الصلوات الخمس من مكبرات الصوت في مساجد وزوايا مع أغان قبيحة تنطلق من سيارات لا تكف عن ضخ نفيرها. التزييف والترييف في سباق محموم، تتصالح فيه الرشوة والفساد مع الحرص علي إقامة الصلوات في أماكن العمل. يسهل أن تري أكوام القمامة في الشوارع بجوار مساجد تقام فيها دروس الوعظ يوميا لحث الناس علي الإيمان بدين هم مؤمنون به.
أبحث عن مدينة حقيقية، فضاؤها يؤهل الناس للتسامح. القرية تعود سكانها علي نمط يكاد يكون وحيداً، لا يقبلون الغريب، ويرتابون في القادم، ولا تتلاقي أفكارهم إلا قليلا، والأفق محدود لا يتسع للجديد، ولا يرحب به. كانت رحلة الشيخ مصطفي عبد الرازق الأوروبية فرصة ليطلعنا علي أن »الرقص مهما يكن من شأنه فهو من متاع المدينة، ونحن لا نزال نلمس من المدينة ما يسد الرمق... لا تخلو الأمم من الرقص إلا فترات في عهود الانقلابات الخطيرة، أو الفتن العاصفة« هكذا كتب الشيخ الذي يصف أم كلثوم، عام 1925، بأميرة الغناء في وادي النيل، وأنها »نعمة من نعم الدنيا«، ويري أنه »من الغريب أن بعض سيداتنا يسدلن النقاب علي وجوه أذن الله أن تكشف«.
ترييف الناس بلغ حدا يدفع بعض خطباء الفضائيات إلي تكفير غير المسلمين، وإلصاق الصفات الكريهة بالأوروبيين، وتقديم العزاء للمسلم المضطر للبقاء هناك »في ديار الكفر«، ولكن وزير الأوقاف المصري، شيخ الأزهر عبد الرازق يطلعنا في كتاب (مذكرات مسافر.. رحلة شيخ الأزهر إلي أوروبة 1909-1914) علي وجه سمح لعالم أكسبته الرحلة تحضرا حتي إنه يعلن أنه يحب باريس »حبا جما... باريس موجود حي، تنبعث الحياة من أرضه وسمائه، وصبحه ومسائه، ورجاله ونسائه. باريس عظيمة بكل ما تحتمله هذه العبارة من معاني الحياة والإجلال والجمال والذوق والانسجام والخلود... باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس!«.
وجه آخر للمدينة يقدمه شيخ الأزهر في أسي، فمرضي باريس متفائلون »ومع كل واحد من أولئك المرضي مبصقة، يودعها في خفاء ما يفيض به صدره فلست تلمحهم حين يبصقون. ولست تري في سبيل أثرا لبصاق. أما قومنا عفا الله عنهم مرضي وأصحاء فيبصقون في كل مكان، تري آثار لعابهم ونفثات صدورهم وخياشيمهم في المنتزهات والطرقات، والمنازل وأماكن العمل، وفي عيادات الأطباء أيضا«. في عيادة طبيب، سعلت مريضة وبصقت علي الأرض. يصف الشيخ سلوكها بأنه إخلال »بأبسط قواعد الصحة والأدب«، وأزعجه أن يقول زوج المريضة، مسوغا سلوكها: ليس علي المريض حرج. ويعلق الشيخ قائلا: »أعلم يقينا أن الله لا يريد أن يقول إنه لا لوم علي المريض أن يلوث ببصاقه حجرة طبيب، ومعاذ الله أن يكون الدين الذي جعل الطهارة من الإيمان مسوغا للناس أن ينشروا في الأرض أقذارهم وجراثيم أمراضهم«.
من حقي أن أشعر بالأسي والحزن علي مدينة تتفتت. ماذا يقول ابن خلدون لو رآها الآن؟ لم يقف طويلا أمام الإسكندرية، وقد أقام بها شهرا بعد رحيله إليها من تونس، ولكنه رأي القاهرة «حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام... بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء... سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس، وكبير العلماء بالمغرب، أبا عبد الله المقري فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام». وينقل ابن خلدون قول قاضي العسكر بفاس للسلطان في مجلسه: «إن الذي يتخيله الإنسان، فإنما يراه دون الصورة التي يتخيلها، اتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنها أوسع من كل ما يتخيله فيها» وأعجب وصفه السلطان.
من حقي أن أشعر بالأسي والحزن علي مدينة تتفتت، أخجل من المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة (1907-2006)، أشعر أنني أخون ثقته. في سيرته، وتحت عنوان (هذه هي المدينة) يقول إنه في القاهرة، منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، رأي »مدينة لأول مرة. القدس ودمشق وحلب وبيروت بدت لي قري كبيرة جدا بالنسبة إلي هذه المدينة... في القاهرة عرفت معني المتحف. باختصار بهرتني القاهرة المدينة، وبهرتني القاهرة الجميلة بشوارعها العريضة بقصورها الفخمة بدار الأوبرا«. وبعد أن أصر علي تسلق الهرم، يقول: »وقفت علي قمة هرم الجيزة الأكبر، وألقيت بنظرة إلي ما انبسط أمامي فرأيت دنيا تآمرت الطبيعة والإنسان علي إقامتها وتزويقها وزخرفتها، فقد حباها الله بماء النيل الذي يحيي الأرض، ويبعث فيها الروح والريحان. ورأيت يومها أمامي علي شيء من البعد جبل المقطم الذي تسلقته إلي القمة أيضا بعد بضعة أيام. بين المقطم والأهرام نشر التاريخ أمجاده« (حول العالم في 76 عاما: رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشمال الإفريقي 6191-2191).
لا أشغل نفسي كثيرا بتأمل غرائب الأماكن، ولا تبهرني البنايات الفخمة، إلا بقدر ما تحمل من ملامح لمن شيدوها، كأنني أراقبهم، أردد غناءهم، وأحنو عليهم فأحتمل بعض شقائهم، وأمسح عرقا يتصبب منهم، ويتشكل حجارة لها رائحة البشر.
أتأمل ذلك الطفل الذي كنته، وهو يقبض علي عصا يقود بها الحمار، وتتيبس يده من شدة البرد، وينفخ فيها ليدفئها، لكي يتمكن من القبض علي الشقرف، ويؤخره شغل الغيط عن حضور طابور المدرسة، وكيف تعلم مصادفة، من دون أن يبالي به أحد، رغم حرص أمه، التي لا تقرأ، علي أن يستمر في الدراسة. أتذكره في بداية المرحلة الثانوية، وكان الحضور إلي معرض القاهرة للكتاب حلما يتحقق بجنيه واحد، وتأجل الحلم. أتأمل ذلك الطفل، وأنظر ورائي وأتنهد بعمق، كأنني عشت مائة عام، ولا أصدق أن طفلاً عاش حياة كالدراما، سيكون له عبر القارات أصدقاء من الأماكن والبشر.
وحين أصبحت الرحلة ممكنة، اكتشفت أنني أزهد السفر، ولست مولعا به. قبيل كل سفر أتمني إلغاءه، أشعر بالانقباض، ليس رهبة من الموت، لكنه إحساس غامض لا أعرف له تفسيرا. قبل ثلاثة أيام من سفري إلي الهند للمرة الثانية (2008)، اشتريت لأولادي سيارة. ظللت أستبعد فكرة اقتناء سيارة أو قيادتها، لشغفي بالنظر إلي ما حولي وأنا راكب بحرية لا تتاح لسائق. فاجأت أولادي بالسيارة، يقودها أخي أيوب. لم أخبرهم حتي بعد رجوعي من نيودلهي أنني كنت أشعر، قبل السفر، بملاك الموت ينتظرني في بلاد غاندي، وأردت إعفاءهم من عناء شوارع القاهرة. في تلك المرة، أخطأني الملاك.
* من شهادة في المؤتمر الدولي لأدب الرحالة العرب والمسلمين (6-9 ديسمبر 2010)، بالتعاون بين المركز العربي للأدب الجغرافي (ارتياد الآفاق) والحي الثقافي (كتارا) بالدوحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.