التمدن هو التحول من الحالة الريفية إلي الحالة المدينية, وهو ليس مجرد انتقال من الريف إلي المدينة, بل إنه تشبع بروح المدينة وأخلاقها وقيمها وثقافتها. والمدينة فضاء اجتماعي يحدد روح العصر ومركز قوته, ويمكن تعريفها بأنها مراكز تجمع السكان وأدوات العمل والقدرة الثقافية القادرة علي تنفيذ وظائف خاصة تنعكس علي عمارتها وأخلاق سكانها. وللمدينة في منطقتنا العربية تاريخ طويل, فأول المدن في التاريخ الإنساني كانت في العراق تلك التي تجدها في العبيد وجمدة نصر, وأيضا في فلسطين حيث تعتبر مدينة أريحا أقدم المدن في التاريخ. في مصر القديمة يبدو أكثر المدن إثارة هي مدينة' أخت أتون' التي بناها الفرعون إخناتون في منطقة تل العمارنة الحالية, والتي هجرت بعد موته مباشرة لتعطينا صورة واضحة للمدينة المصرية القديمة, تلك المدينة التي تتكون بالأساس من الإدارة المركزية للدولة المصرية القديمة, فالمدينة بشوارعها المستقيمة ومنازلها المتسعة والمنظمة تتمحور حول قصر الفرعون والمعبد الكبير, لم تكن هذه المدينة وحدة الإنتاج الرئيسة للمجتمع المصري القديم بل الريف, وكانت مهمة المدينة إدارة هذا الانتاج. وأول صدمات التغيير التي أصابت المجتمع المصري تلك التي صاحبت تغلغل الإغريق في النسيج الاجتماعي المصري منذ القرن السادس قبل الميلاد, فقد جاء الإغريق إلي مصر تجارا ومحاربين مرتزقة في الجيش المصري وأسسوا أول المدن الإغريقية في مصر, وفي الدلتا أسسوا مدينة نقراتيس' نقراش الحالية' لتتوالي بعدها المدن ذات الطابع الإغريقي علي طول النهر, من الأسكندرية إلي أنتينوبوليس في الشيخ عبادة بسوهاج. هذه المدن الإغريقية حملت ثقافة مغايرة ووظائف جديدة, فالمدينة الإغريقية تتمحور حول المسرح والجيمانزيوم والسوق' الأجورا' وهي تتكون من السادة المواطنين الأحرار وتتحلي بأخلاقهم التحررية. غير أن هذه المدن كانت تمثل كل ما هو سلبي بالنسبة للمصريين فهي مدن الأرستقراطية الأجنبية التي أذلت الفلاح المصري علي مدي الأعوام والقرون ومن ثم كان الانتقام المصري من المدينة الإغريقية عنيفا, فقد اتخذ الصراع الاجتماعي/ الوطني بعدا دينيا بعد أن اعتنق المصريون المسيحية, والمطالع للصراع الديني ثم المذهبي بين المصريين وحكامهم الرومان يستطيع أن يري بوضوح كيف أن رفض المدينة الأغريقية وثقافتها كانت في قلب المعركة. تغيرت المدينة مرة أخري عندما دخل العرب مصر, فالمدينة في العصور الإسلامية وظيفتها الأساسية التواصل مع مختلف أرجاء المحيط الإسلامي, فهي مركز التجارة بوكالاتها وخاناتها وخانقواتها, وهي مركز تجمع الجنود بقلاعها وقصورها وساحاتها, وهي في النهاية مركز التبادل الثقافي الإسلامي بجوامعها ومدارسها. ومن ثم كانت مركز حركة منفصلا بالكامل عن الريف. ونقطة الاتصال الوحيدة تمثلت في قدرة بعض أفراد من العائلات القوية في الريف التي كانت لها القدرة علي الدفع ببعض أبنائها إلي مركز الحياة الثقافية والدينية في المدن وبالتحديد الأزهر الشريف. غير أن حالة الازدهار التي شملت العديد من المدن المصرية في الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية والمماليك التي ازدهرت فيها مدن مثل الفسطاط والقاهرة وتانيس ورشيد ودمياط وقوص وجرجا وغيرها, سرعان ما ذهبت في سبات عميق مع الخلافة العثمانية, فعلي مدي أربعة قرون تراجعت الحياة المدينية في الثقافة المصرية, بل إن بعض المدن اختفت من التاريخ, وبعضها اختفي من التاريخ والجغرافية معا مثل مدينة تانيس.وأكثر الصور بلاغة لتدهور المدينة المصرية في العصر الاسلامي تلك الدراسة الهامة التي كتبها جومار الفرنسي وأحد علماء الحملة الفرنسية علي مصر, ففي دراسته تكاد تستشف قوة واصالة المدينة الهائلة القاهرة, ومدي الانحطاط الذي وصلت إليه عندما كتب هو عنها. وعندما بدأت مصر رحلة النهضة كان عليها أن تبدأ من جديد حضارة مدينية, ولكن هذه المرة بشروط الحداثة الأوروبية, فقد تغير شكل العالم وأدوات انتاجه ومنتجاته و وتغيرت معه وظيفة المدينة التي أصبحت نقطة ارتكاز الطبقة الوسطي وإبداعاتها في مختلف المجالات. وعلي مدي القرن التاسع عشر و النصف الأول من القرن العشرين, أعيد بناء القاهرةوالإسكندرية ومدن القناة وعواصم المحافظات الكبري في مصر طبقا للنموذج الحداثي لتشكل نقطة إنطلاق للتطور والتقدم, وتكاثرت بها المدارس والعمارات والشوارع المستقيمة والأرصفة وأعمدة الإنارة والميادين وإشارات المرور, لتشكل كلها نقاط جذب ترفع الطلب علي المدينة وأخلاقها, غير أن الذي حدث جاء علي النقيض, فقد تراجعت قيم التمدن وتدهورت المدن كلها بشكل غير مسبوق. كل هذا التاريخ مع المدينة والمدنية و التمدن المصري والأغريقي والإسلامي والحديث انهار في الأعوام الخمسين الماضية تحت وقع ضربات التزييف المتتالية وإعلاء أخلاق الفوضي والانحطاط, فكيف حدث هذا ؟