طلاب جامعة حلوان يشاركون في ورشة عمل بأكاديمية الشرطة    للراغبين لمسابقة ال 18 ألف معلم، إحذر الوقوع في تلك الأخطاء أثناء التقديم    رئيس الوفد: نرفض أي عدوان إسرائيلي على رفح الفلسطينية    «بحوث القوات المسلحة» توقع بروتوكولًا مع «المراكز والمعاهد والهيئات البحثية بالتعليم العالي»    وزير الري: إنفاق 10 مليارات دولار لتعزيز كفاءة المنظومة المائية خلال 5 سنوات    وزارة العمل تعلن الأحد والإثنين المقبلين عطلة رسمية بمناسبة شم النسيم وعيد العمال    عضو التصديري للحاصلات الزراعية يطالب بتبني الدولة استراتيجية للتصنيع من أجل التصنيع    «التموين» تدرس تحفيز التجار عند نقل القمح من مواقع الحصاد البعيدة    أرخص 40 جنيها عن السوق.. صرف الرنجة على بطاقة التموين بسعر مخفض    اعتقال نتنياهو!    رئيس وزراء الأردن يحذر: أي عملية عسكرية في رفح الفلسطينية ستؤدي إلى تفاقم معاناة غزة    "شكري" يشارك في فعالية القادة الاقتصاديين العالميين حول تعزيز الأمن والنمو العالميين    وزير الخارجية يناقش مستجدات أحداث غزة مع ممثل الإتحاد الأوروبي    تعادل بولونيا وأودينيزي 1/1 في الدوري الإيطالي    الدوري الإنجليزي، تعادل سلبي بين مانشستر سيتي ونوتنجهام بعد 15 دقيقة    حصيلة منتخب الجودو في البطولة الأفريقية القاهرة 2024    نشوب حريق داخل مصنع فى مدينة 6 أكتوبر    أسباب منع عرض مسلسل الحشاشين في إيران    أغلى 5 فساتين ارتدتها فنانات على الشاشة.. إطلالة ياسمين عبد العزيز تخطت 125 ألف جنيه    بحضور محافظ مطروح.. قصور الثقافة تختتم ملتقى "أهل مصر" للفتيات    «أبو الهول» شاهد على زواج أثرياء العالم.. 4 حفلات أسطورية في حضن الأهرامات    انعقاد المجلس التنفيذى لفرع الشرقية للتأمين الصحى    «الرعاية الصحية» تستعرض أهمية الشراكة مع القطاع الخاص وخارطة طريق الفترة المقبلة    وكيل «صحة الشرقية» يتفقد مستوى الخدمات المقدمة للمرضى بمستشفى أبوكبير    بشار الأسد يؤكد ضرورة تعزيز التضامن العربي والعمل المشترك لتحقيق الاستقرار في المنطقة    جون أنطوي يقود هجوم دريمز الغاني لمواجهة الزمالك بالكونفدرالية    الإعدام لعامل قتل شابا من ذوي الاحتياجات الخاصة بواسطة كمبروسر هواء    وزير بريطاني يقدر 450 ألف ضحية روسية في صراع أوكرانيا    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    إيقاف تشابي ألونسو مباراة واحدة    منتخب مصر يرفع رصيده ل 8 ميداليات في ختام بطولة مراكش الدولية لألعاب القوى البارالمبي    نشرة في دقيقة | الرئيس السيسي يتوسط صورة تذكارية عقب افتتاحه مركز الحوسبة السحابية الحكومية    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    عاجل| البيت الأبيض: إسرائيل طمأنت واشنطن بأنها لن تدخل رفح الفلسطينية حتى يتسنى لنا طرح رؤانا ومخاوفنا    لحيازتهما كمية من الهيروين.. التحقيق مع تاجري الكيف في الشروق    رضا حجازي: زيادة الإقبال على مدارس التعليم الفني بمجاميع أكبر من العام    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    مساعد وزير الصحة: انخفاض نسب اكتشاف الحالات المتأخرة بسرطان الكبد إلى 14%    تأجيل محاكمة المتهمين في عملية استبدال أحد أحراز قضية    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    الليلة .. سامى مغاورى مع لميس الحديدى للحديث عن آخر أعماله الفنية فى رمضان    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    الأرصاد الجوية تعلن حالة الطقس المتوقعة اليوم وحتى الجمعة 3 مايو 2024    أعاني التقطيع في الصلاة ولا أعرف كم عليا لأقضيه فما الحكم؟.. اجبرها بهذا الأمر    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    أفضل أوقات الصلاة على النبي وصيغتها لتفريج الكرب.. 10 مواطن لا تغفل عنها    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    مطران دشنا يترأس قداس أحد الشعانين (صور)    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال؟.. "الإفتاء" تُجيب    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    غدًا.. تطوير أسطول النقل البحري وصناعة السفن على مائدة لجان الشيوخ    سعر الدولار الأحد 28 أبريل 2024 في البنوك    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    حسام البدري: أنا أفضل من موسيماني وفايلر.. وكيروش فشل مع مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سادة العالم فواكه قصرالشمع
نشر في الأهرام المسائي يوم 31 - 07 - 2010

تسمو الدول وتتطور بالعلم والمعلومات الصحيحة‏,‏ ولما رأيت أن جهل معظم المصريين بتاريخهم سوف يؤدي الي مفاهيم خاطئة‏,‏ قد تتفاقم وتتحول إلي سلوك متطرف يعوق التقدم‏,‏ تفرغت أكثر من أربع سنوات لانجاز هذا الكتاب‏.‏ لأن بعض المتصدين للكتابة إلي الناس أو المتحدثين اليهم ينطقون عن جهل أو سوء نية‏,‏ ويخلطون بين العقائد الخالدة وبين الأشخاص الفانين‏,‏ وهدفهم تأخر هذا الشعب العريق‏,‏ ففي تأخره رواج لبضاعتهم الفاسدة‏!‏ والتاريخ ذاكرة الأمة‏.
‏ وكانت لمصر امبراطورية فرعونية قوية ثرية‏,‏ ضعفت بفساد الحكام‏,‏ وركونهم الي حياة الدعة والترف‏,‏ حتي تكون الجيش المصري من المرتزقة الأجانب‏,‏ الذين سيطروا علي البلاد بحكم السلاح‏,‏ فتمزقت البلاد إلي دويلات‏,‏ وكشف الأعداء سرها‏,‏ أي عرفوا الطريق الي احتلالها‏,‏ ووقعت مصر تحت استعمار طويل متعاقب لدول أقل منها حضارة‏,‏ من الفرس واليونان والرومان والعرب والفاطميين والأكراد الأيوبيين‏,‏ ثم المماليك فالأتراك العثمانيين وأخيرا الانجليز‏!‏
ومع استمرار المذلة والقمع‏,‏ فقد المصريون احساسهم بالعزة القومية والاستقلالية‏.‏ قاوموا بعض الأحيان بإيجابية‏,‏ ومعظم الأحايين بسلبية‏,‏ من منطق أنهم باقون في بلادهم‏,‏ أما الطغاة فإلي زوال‏!‏
هذا الكتاب بجزئية خلاصة آلاف الصفحات‏,‏ جميعها من المراجع الأمهات‏,‏ وحصيلة عشرات من الدراسات الحديثة الممتازة لبعض دراسينا الذين رجعوا إلي مصادر ومخطوطات ليست تحت يدي‏.‏ وقد انشأت هذا الكتاب من مقتطفات متتابعة من هذه المراجع النفيسة‏,‏ ولم انتقل منها إلي كتابات المعاصرين إلا لإيضاح ما خفي فهمه علي مؤرخي العصور الوسطي ولم أتدخل أنا إلا في القليل لربط أحداث أو إزالة غموض‏.‏
وجميع معلومات هذا الكتاب مسندة إلي مصادرها الأصلية المذكورة في نهاية كل جزء‏.‏ وقاريء مؤرخي العصور الوسطي يعاني من المغالاة والتعميم‏,‏كأن يقول أحدهم مثلا‏:‏ ثم حاربهم وقضي عليهم جميعا‏,‏ ويكون قصده أن قتل الكثيرين منهم‏!..‏ ويعاني أيضا من اللغة المكتوبة بمفردات فصيحة وتركيبات عامية‏,‏ وقد تركت بعضها للحفاظ علي مذاق روح العصر‏.‏
وبسبب كثرة الألفاظ البائدة والأعجمية‏,‏ وغرابة الأسماء‏,‏ مثل‏:‏ طرنطاي‏,‏ يلبغا‏,‏ أشلون خوند‏,‏ أقجماس‏,‏ صرغتمش‏,‏ طشتمر‏,‏ وهو عينات سهلة‏,‏ اقتصدت في ذكر الشخصيات الهامشية بما لا يخل بالحقيقة التاريخية‏.‏
كما يكابد قاريء هؤلاء المؤرخين العظماء من جنوحهم الي صياغة التاريخ بأسلوب اليوميات‏.‏ فكان المؤرخ يبدأ الحادثة التاريخية المهمة‏,‏ ثم يترك إلي أحداث أخري منها ما هو خطير ومنها ما هو تافه‏,‏ ثم يعود إلي إكمال الحادثة التي بدأ بها‏,‏ بعد عشرات الصفحات أو في المجلد التالي‏!‏
ومن أمثلة المراجع الأساسية‏:‏ كتاب السلوك للمقريزي وهو أربعة أجزاء في اثني عشر مجلدا ضخما‏,‏ وخطط المقريزي في جزءين كبيرين‏,‏ والنجوم الزاهرة لإبن تغري بردي ومكون من ستة عشر جزءا تضمها عشرة مجلدات ضخمة‏,‏ وبدائع الزهور لإبن إياس وهو خمسة أجزاء في ستة مجلدات‏,‏ إلي جانب تاريخ الجبرتي ومراجع أخري عديدة‏.‏
ولا يقل أهمية عنهم العلماء الذين أفنوا حياتهم في تحقيق هذه المراجع وكتابة الهوامش الموضحة للأسماء والمهن والأزياء المنقرضة‏,‏ حتي أن الهوامش تشغل نصف المساحة تقريبا‏,‏ من هؤلاء الأساتذة الدكاترة‏:‏ محمد مصطفي زيادة‏,‏ محمد مصطفي‏,‏ سعيد عبدالفتاح عاشور‏,‏ سيدة اسماعيل كاشف‏,‏ حسن حبشي‏,‏ فهيم محمد شلتوت‏,‏ ابراهيم علي طرخان‏,‏ سعاد ماهر‏,‏ جمال الدين الشيال‏,‏ مصطفي السقا‏,‏ حسن ابراهيم حسن‏,‏ محمد كمال‏,‏ السيد محمد‏,‏ أحمد أمين‏,‏ علي مبارك‏,‏ فيليب حتي‏,‏ عبداللطيف حمزة‏,‏ حكيم أمين عبدالسيد‏,‏ محمد قنديل البقلي‏,‏ السيد محمد العزاوي وآخرون‏.‏
إلي هؤلاء الأفاضل وكثيرين أدين بالفضل‏.‏
والتاريخ في هذا الكتاب للسلاطين والملوك‏,‏ وقبل ذلك لحياة الناس وآثارهم المعمارية والأدبية والفنية وأزيائهم‏,‏ وارتباطهم بالمنطقة المحيطة‏,‏ ثم علاقتهم بأوربا بعد أن تخلصت من المتاجرين بالدين‏,‏ وجعلت المسيحية للحياة الروحية‏,‏ وشئون الحياة العملية لأهل العلم والإدارة‏,‏ فقفز الغرب من الانحطاط والتخلف إلي ما هو عليه الآن من سيادة علي العالم‏.‏ فسادة الدنيا دائما هم سادة العلوم والابتكارات‏.‏ والمبدع لا يبتكر إلا في مناخ من الحرية الكاملة واحترام الرأي الآخر ويقدس المبادرة الفردية واحترام الملكات الشخصية‏.‏
‏(1)‏ فواكه قصر الشمع
منذ أقدم عصور الفراعنة ومصر تزرع الحبوب بوفرة وخاصة القمح‏,‏ وتنتج الخضر والفاكهة بأنواعها‏,‏ والكتان وقصب السكر ومحصولات أخري مهمة‏.‏
ومنذ الفراعنة وحتي القرن التاسع عشر لم يتغير أسلوب الزراعة‏,‏ إلا قليلا في حقبة حكم الرومان ظل أسلوب ري الحياض هو الشائع باستثناء بعض الجهات‏,‏ ولم تتحول الزراعة جميعها إلي الري الدائم إلا بعد انشاء خزان أسوان وإقامة السد العالي‏.‏ وكانت الزراعة تقاس بالفدان‏.‏
وقد جاء العرب إلي مصر وهم يعلمون بثرواتها وخيراتها‏..‏ وعلي حد قول إبن ظهيرة أن‏:‏ أرضا لم تكن أعظم من مصر‏,‏ وجميع أهل مصر يحتاجون اليها‏.‏ وكانت الأنهار بقناطر وجسور وتدبير‏,‏ حتي أن الماء يجري تحت منازلهم وأفنيتهم‏,‏ يحبسونه متي شاءوا ويرسلونه متي شاءوا‏..‏ وكانت البساتين بحافتي النيل من أولة إلي آخره ما بين أسوان إلي رشيد‏,‏ متصلة لا تنقطع‏.‏
وينقل المؤرخ ابن إياس مبالغات قديمة طريفة‏,‏ من أنه لما غرست الأشجار بمصر كانت ثمارها عظيمة جدا‏...‏ بحيث كان طول البلحة الواحدة شبرا‏,‏ ووزن الموزة الواحدة رطلا‏,‏ وحبة القمح قدر كلية البقرة‏..‏ وكان عنقود العنب إذا قطف يحمل علي بعير من عظمه‏..‏ والرمانة إذا قشرت يقعد في قشرها ثلاثة أنفار‏..‏ والوردة الواحدة تحمل ألف ورقة‏..‏ وكل هذا بدعوة آدم عليه السلام حيث دعا لها بالبركة‏..‏
‏..‏ قلت والكلام مازال للمؤرخ ابن إياس ومصداق هذه الأخبار ما قاله الشيخ حسام الدين الشهر زودي‏,‏ قال‏:‏ كانت بالواحات الداخلة شجرة نارنج يقطف منها في كل سنة أربعة عشرة ألف نارنج‏.‏
هكذا تخيلوا خيرات مصر‏,‏ حبة القمح في حجم كلية البقرة‏,‏ والوردة الواحدة لها ألف ورقة‏,‏ وكل هذا بدعوات آدم‏!‏
المكان والناس
كذلك كتب ابن ظهيرة مؤكدا أن مصر خزائن الأرض كلها‏,‏ وسلطان مصر سلطان الأرض كلها‏.‏
وقال بعض الحكماء‏:‏ مصر نيلها عجب‏,‏ وأرضا ذهب‏,‏ ونساؤها لعب‏,‏ وهي لمن غلب‏,‏ وهلكها سلب‏(‏ أي تؤخذ غلابا‏)..‏ ومالها رغب‏,‏ وخيرها طلب‏,‏ وفي أهلها صخب‏,‏ وفي طاعتهم رهب‏(‏ خوف‏).‏ وسلمهم شغب‏(‏ لا يخلو من عداوة‏).‏ وحربهم حرب‏(‏ هلاك‏).‏ ونهرها النيل من سادات الأنهار وأشراف البحار لأنه يخرج من الجنة‏.‏
وهذا القول منسوب إلي عبدالله بن عمرو بن العاص‏!‏
أما المؤرخ الكبير المقريزي فيذكر في خططه‏:‏ إعلم أن أرض مصر لما دخلها المسلمون كانت بأجمعها مشحونة بالنصاري‏,‏ وهم علي قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم‏,‏ إحدهما أهل الدولة وكلهم روم من جند ملك الروم صاحب القسطنطينية‏(‏ أسطنبول الآن‏)‏ وهم الملكية‏..‏ والقسم الآخر عامة أهل مصر‏,‏ ويقال لهم القبط وكلهم يعاقبه‏,‏ ومنهم كتاب المملكة والتجار والباعة والأساقفة والقسوس ونحوهم‏,‏ والفلاحة والمهنة‏.‏ ويبلغ عددهم عشرات آلاف كثيرة جدا‏,‏ فإنهم في الحقيقة أهل أرض مصر أعلاها وأسفلها‏.‏ وبينهم وبين طائفة الملكية أهل الدولة من العداوة ما يمنع مناكحتهم‏.‏
والمقريزي من أهم وأصدق المراجع العربية‏,‏ عاش في مستهل القرن الخامس عشر الميلادي‏,‏ وقد رجع إلي مؤلفات سابقة لعصره فقدت من بعده ولم نكن لنعرف عنها شيئا لو لم يتناولها هو بالبحث وعرض أطراف منها‏.‏
وعن أصل كلمة القبط أو الأقباط فقد ذهبت المراجع العربية القديمة في تفسيرها مذهبا أسطوريا‏,‏ فزعمت أنها مشتقة من أسم ملك لمصر القديمة كان يدعي قبطيم بن مصرايم بن مصر بن حام بن نوح‏..‏ أما المحدثون فبعضهم يري أنها مشتقة من مدينة‏Koptos(‏ قفط‏)..‏
أو أنها تحريف لكلمة‏Jacobito(‏ اليعاقبة‏)..‏ أو تحريف للكلمة اليونانية‏Koptoi‏ التي أطلقها اليونانيون علي المصريين لأنهم كانوا يجرون الختان لأولادهم‏..‏
والدكتور أحمد مختار عمر في كتابه القيم تاريخ اللغة العربية في مصر صفحة‏20‏ يذكر أن العرب أطلقوا علي أهل مصر القبط حتي من قبل الفتح الإسلامي‏..‏ وفي الحديث النبوي استوصوا بالقبط خيرا‏..‏ وقد اشتهر نوع من الثياب في الجاهلية باسم القبطية وجمعه العرب قباطي‏..‏
لكن د‏.‏ سيد كريم في مقال له بمجلة الهلال فبراير‏1987‏ يؤكد أن الاسم قديم ورد في متون عصر ما قبل الأسرات‏,‏ إذ وصفت مصر باسم ماسار أي حصن ابن الإله‏..‏ ويؤكد كذلك أن الاسم الأجنبي إيجيبت‏(‏ أو جبتوس‏)‏ نسبه المؤرخون إلي الاغريق بالخطأ‏,‏ لأنه اسم مصري قديم‏,‏ حيث كان يطلق علي أرض مصر اسم أرض الإله جبت بتاه‏..‏ وقد اتخذ ملوك الأسرة الأولي اسم جبتاه شعارا للتويج‏,‏ فقيل عند تتويج أول ملوك الفراعنة أن الملك توج علي عرش جبتاه‏..‏ وذلك قبل أن يصل أول اغريقي إلي مصر بأربعة آلاف سنة‏!‏
واستطرادا يؤكد د‏.‏ سيد كريم أن نسبة اسم النيل إلي الاغريق خطأ أيضا‏,‏ وأن هيرودوت استعمل تسمية نيلوس دون فهم معناها‏..‏ فمنذ أن سكن المصريون حول النهر أطلقوا عليه اسم أل نيل أي النهر الأزرق‏,‏ لأن أل معناها النهر‏,‏ ونيل معناها أزرق‏(‏ الصبغة الزرقاء اسمها حتي الآن نيلة‏)..‏ وكان النهر في الدلتا يتفرع إلي أنهار فأطلقوا عليه اسم نيلو أي الأنهار‏.‏
روم‏..‏ عرب
بشكل عام فإن غزو العرب لمصر غامض في كثير من النواحي‏,‏ وهذا يرجع إلي أنهم لم يبدأوا في تدوين تاريخهم إلا بعد قرنين أو أكثر‏,‏ علي أيدي أمثال ابن عبد الحكم‏.‏
عن هذه الحقبة يحدثنا المؤرخ لينبول في كتابه النفيس سيرة القاهرة من أنه بعد أن انتهي حكم الإغريق البطالسة لمصر بانتحار كليوباترا سنة‏30‏ ق‏.‏م‏.‏ صارت مصر ولاية رومانية‏..‏ ثم اعتنق المصريون المسيحية في القرن الأول الميلادي‏,‏ وظلوا ثابتين علي عقيدتهم رغم اضطهاد الحكم الروماني الوثني‏,‏ إلي أن جاء عام‏379‏ م‏.‏ فتحولت الامبراطورية الرومانية جميعها إلي المسيحية‏,‏ ثم وقع خلاف كبير بين مسيحيي مصر ومسيحيي الرومان سنة‏451‏ م‏.‏ أصبحت في مصر بعده كنيستين‏,‏ الأولي كنيسة دولة الروم البيزنطية وتؤيدها القسطنطينية‏,‏ ويطلق عليها الكنيسة الملكية‏(‏ وهم الروم الأرثوذكس‏).‏ والثانية الكنيسة القومية للمصريين وعرفت باسم الكنيسة القبطية‏.‏ فعاد اضطهاد الرومان للمصريين ولكنيستهم التي ظلت متمسكة بنفس عقيدتها وطقوسها
كان هذا الخلاف حول طبيعة المسيح‏,‏ عندما أصر المصريون علي أن له طبيعة واحدة‏,‏ بينما قال الملكيون أن له طبيعتين‏:‏ ناسوت ولاهوت‏,‏ أي بشرية وإلهية‏,‏ وقرروا حرمان بطرك الاسكندرية من الكنيسة‏,‏ ورفض المصريون ذلك وأطلقوا علي أنفسهم الأرثوذكسيين‏,‏ وهي كلمة يونانية معناها أتباع الديانة الصحيحة‏,‏ ومازال أقباط مصر يعرفون بذلك الاسم حتي الآن‏,‏ وكلمة قبطي هي نفس كلمة مصري‏,‏ والكنيسة القبطية هي الكنيسة المصرية‏..‏ ثم بعد الإسلام أطلقت علي غير المسلمين من المصريين‏.‏
مرجع مصري
في بحث ضخم وصفه الأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور بأنه خير مرجع في موضوعه‏,‏ وأعدته د‏.‏ سيدة إسماعيل كاشف عن مصر في عصر الولاة وحتي عصر الاخشيد بعد أن تمكنت من حل طلاسم برديات ذلك العصر‏..‏ في ذلك البحث تؤكد الدكتورة أنه إزاء الاضطهاد الروماني لجأت الغالبية من الشعب المصري إلي المقاومة السلبية‏,‏ وذلك بالفرار إلي المعابد والأديرة‏,‏ وبهجر مزارعهم وقراهم‏,‏ مما أدي إلي انتشار الفوضي في البلاد‏..‏ وفي وسط ذلك غزا الفرس مصر سنة‏616‏ م في عهد ملكهم كسري الثاني‏,‏ وظلوا يحتلون مصر إلي أن حاربهم هرقل أمبراطور الروم في بلادهم سنة‏629‏ م‏,‏ فاضطروا للجلاء عنها‏,‏ وقد رأي هرقل بعد أن أنقذ الدولة البيزنطية من الفرس أن ينقذها من الخلاف الديني‏,‏ فأصدر أمرا أو صورة توفيق تقتضي بأن يمتنع الناس عن الكلام في طبيعة المسيح وصفته‏,‏ وأسند الرئاسة الدينية والسياسية لشخص واحد هو قيرس ويعرف عند العرب باسم المقوقس‏,‏ وقبل أن يصل قيرس إلي الاسكندرية في سنة‏631‏ م هرب البطرك المصري بنيامين توقعا لما سيحل به وبطائفته من الشدائد‏,‏ وكان اضطهاد قيرس للمصريين عظيما‏,‏ وبذلك تمهد السبيل لفتح مصر علي يد دولة ناشئة قوية هي دولة العرب‏..‏
والواقع أن فتح مصر أصبح ضرورة بعد فتح الشام وفلسطين‏,‏ وذلك لتأمين الفتوح الإسلامية في الشام‏,‏ ولتأمين المدينة مركز الخلافة نفسها‏,‏ لأنها قريبة من القلزم‏(‏ البحر الأحمر‏)‏ ولا يبعد أن يرسل الروم حملة من تلك الناحية تنتقم لما حل بممتلكاتهم في الشام‏.‏ وفي الواقع أن مصر والشام ربطتهما من أقدم العصور مصالح سياسية وحربية وتجارية واحدة‏..‏ ولم يكن العرب بغافلين حينئذ عن ثروة مصر الطبيعية‏,‏ ولا عن موقعها الجغرافي الممتاز‏,‏ فقد جاءها كثير منهم للاتجار في أيام الجاهلية‏,‏ منهم عمرو بن العاص وعثمان بن عفان‏..‏ وفد إلي الصعيد منذ أقدم العصور الكثير من التجار العرب‏,‏ وذلك عن طريق البحر الأحمر ثم وديان الصحراء الشرقية‏..‏
ونلاحظ أن مصر في القرن السادس الميلادي وأوائل السابع لم تعد اقليما بيزنطيا بالمعني الصحيح‏,‏ فقد كانت السلطة البيزنطية عليها ضعيفة‏,‏ والعلاقة مادية بحتة‏,‏ بمعني أن تؤدي مصر الخراج المفروض عليها سنويا قمحا وغلالا وأموالا ترسل من الاسكندرية إلي القسطنطينية‏..‏ وكانت الضرائب مصدر شكوي الفلاحين‏..‏ ولكي يهرب الفلاح من كثرتها كان يضع نفسه تحت حماية كبار الملاك‏,‏ فيتحول من مالك صغير إلي عامل أجير‏,‏ وبذلك وجدت الأبعاديات التي امتلكها ملاك كبار أشبه بأمراء اقطاعيين‏..‏ وكانت مصر مقسمة إداريا إلي خمسة أقسام كبري هي الاسكندرية العاصمة وشرقي الدلتا وغربي الدلتا ومصر الوسطي‏(‏ وفيها الفيوم‏)‏ ومصر العليا أي الصعيد‏,‏ ويحكم كل قسم دوق‏,‏ وكل دوق مستقل تقريبا بسبب ضعف سلطة الحاكم البيزنطي المقيم بالاسكندرية‏.‏
يضيف لينبول في كتاب سيرة القاهرة‏:‏ إن قيرس‏(‏ المقوقس‏)‏ استغل صفته كحاكم بيزنطي لدعم نفوذه كبطريق علي حساب كنيسة الأقباط‏,‏ فمن هنا كانت كراهية المصريين الزائدة للحكام الرومان ولمذهبهم هي التي ألقت بهم في أحضان المسلمين الغزاة‏,‏ وجعلتهم يعملون بنصيحة بطريقهم بنيامين الذي كان منفيا‏,‏ ويمدون يد المساعدة للعرب ومنذ اللحظة الأولي التي وطأت أقدامهم فيها مصر‏,‏ وأسدوا كل مساعدة للمسلمين وعاونوهم في بناء الجسور وأمدوهم بالمؤن‏...‏ ثم ما لبثوا أن أدركوا أنهم إنما غيروا سيدا بآخر
في الذمة
تحرك عمرو بن العاص سنة‏639‏ م‏(18‏ ه‏.)‏ من قيسارية علي شاطيء فلسطين‏..‏ وتشرح د‏.‏ سيدة إسماعيل كاشف خطته بأنه سلك الطريق الذي سلكه أغلب غزاة مصر وفاتحيها‏,‏ وهو طريق الصحراء الشرقية مساحلا للبحر المتوسط‏,‏ ثم مبتعدا عن فروع النيل‏,‏ فوصل من العريش إلي الفرما‏(‏ شرقي بورسعيد‏).‏ وظل يواصل السير حتي أم دنين شمال حصن بابليون‏(‏ بمصر القديمة نواحي كنيسة ماري جرجس‏).‏ وهناك كان القتال عنيفا بين المسلمين وبين البيزنطيين الذين تحصنوا بالحصن‏,‏ مما اضطر عمرو إلي أن يستنجد بالخليفة عمر بن الخطاب الذي أمده بقوة كبيرة‏..‏ وبعد مفاوضات ومشقة في القتال عقد العرب مع المصريين معاهدة تعرف باسم معاهدة بابليون الأولي سنة‏19‏ ه ديسمبر‏639‏ م ولم تكن بابليون خاضرة مصر وإنما كانت بمثابة قلبها وعاصمتها الحقيقية‏..‏ وهذه المعاهدة حددت مركز المصريين‏,‏ أما البيزنطيون أو الروم فقد اشترط قيرس موافقة أمبراطوره هرقل‏..‏ وبمقتضاها أصبح المصريون أهل ذمة يؤدون الجزية
وأهل الذمة هم المسيحيون واليهود الذين يقطنون في ديار الإسلام‏.‏ وقد وافق الخليفة علي هذه المعاهدة‏,‏ أما هرقل فقد وبخ المقوقس علي قبولها‏,‏ واستعد للحرب لكنه مات قبل خروجه للقتال مما أضعف من موقف الروم‏.‏
وكان فتح الاسكندرية من الصعوبة بمكان‏,‏ لأن الروم مسيطرون علي البحر بأساطيلهم‏,‏ ولأن حصون الاسكندرية كانت منيعة‏,‏ حتي أن الخليفة عمر بن الخطاب استبطأ فتحها وكتب لعمرو بن العاص مؤنبا‏:‏ أما بعد‏,‏ فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر‏.‏ انكم تقاتلون منذ سنتين‏..‏ وكان النزاع بين البيزنطيين علي العرش قد اشتعل فجنحوا إلي إنهاء الحرب بعقد هدنة حتي تفرغوا لمشاكلهم الداخلية‏.‏ فذهب كيرس إلي حصن بابليون‏(‏ أو قصر الشمع‏)‏ وعقد معاهدة سنة‏20‏ ه‏641‏ م‏.‏ وعقب ذلك امتد نفوذ العرب إلي سائر الأقاليم المصرية وإلي برقة‏(‏ بليبيا‏).‏ كما أرسل عمرو بن العاص حملة إلي النوبة‏,‏ وكانت في ذلك الحين مملكة مسيحية مستقلة‏,‏ وعجزت الحملة عن أخذها وانتهي القتال العنيف إلي عقد هدنة كانت أشبه بمعاهدة سياسية وتجارية‏,‏ من نصوصها أن تمد النوبة العرب بعدد معين من الرقيق كل سنة في مقابل مقدار معين من القمح والعدس‏.‏
وقد وصف أحد من شاهدوا عمرو بن العاص يخطب الجمعة بأنه كان‏:‏ مربعا قصير القامة‏(‏ متوسطها‏)‏ وافر الهمة‏,‏ أدعج أبلج‏(‏ أي أسود متباعد الحاجبين‏).‏ وكان ينصح المصلين قائلا‏:‏ يا معشر الناس‏,‏ إياكم وكثرة العيال وإخفاض الحال وتضييع المال‏,‏ أو القيل والقال في غير ادراك ولا نوال‏.‏
وقيل‏:‏إنه لما فتح مصر سأل المقوقس عما يكون فيه خير مصر فقال المقوقس‏:‏ حفر خلجانها واصلاح جسورها وسد ترعها‏,‏ ولا يؤخذ خراجها إلا من غلالها‏,‏ ويمنع عمالها من أخذ الرشاء‏(‏ أي يمنع الموظفون من أخذ الرشوة‏)‏ ليكون ذلك قوة للزارعين‏.‏ فهل حدث ذلك؟
احلب البقر
بالفتح أصبح من ينوب عن الخليفة في حكم مصر واليا أو أميرا مقره دار الإمارة‏,‏ وهو مسئول عن عمله أمام الخليفة‏,‏ وعليه أن يؤم المسلمين ويرأس الجيش وأن يشرف أحيانا علي الخراج‏.‏ لكن الخلفاء خشوا في معظم الأحوال ازدياد نفوذ الوالي فأسندوا الخراج الي شخص آخر هو عامل الخراج يكون مسئولا مباشرة أمام الخليفة‏.‏ وحدث في سنة‏22‏ ه أن أراد الخليفة عثمان بن عفان‏(‏ الذي تولي بعد مقتل عمر بن الخطاب‏)‏ أراد أن يولي في مصر شخصا آخر علي الخراج فقال عمرو بن العاص‏:‏ أنا إذا كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها‏.‏ ورفض‏..‏ وترك ولاية مصر
والواقع أن العرب احتفظوا الي حد كبير بنظم البيزنطيين الادارية لكنهم لم يسمحوا لعمال الأقاليم‏(‏ أي حكامها‏)‏ بالاستقلال محليا‏..‏ فكان الحكم مركزيا‏,‏ وكل كبيرة أو صغيرة ترجع الي والي مصر‏.‏
وفي عهد الخلفاء الراشدين والأمويين كان ولاة مصر من العرب‏,‏ فلما وصل العباسيون الي الحكم علي أكتاف الفرس‏,‏ احتل الفرس المناصب الرفيعة‏,‏ وصار الموظفون يعينون من شتي الأجناس التي دانت لسلطان الخلافة‏..‏ ولذلك جاء ولاة من الفرس علي مصر‏.‏ ثم حل نفوذ الأتراك مكان الفرس منذ زمن الخليفة المعتصم‏(218‏ 227‏ ه‏)‏ وكان من أم تركية‏,‏ ورأي في الأتراك قوما مقاتلين ليست لهم عصبية العرب وليس لهم وطن قديم يريدون احياءه مثل الفرس‏,‏ فولي مصر ولاة من الأتراك‏,‏ وكثر تغييرهم خشية الاستقلال بها لبعدها عن مقر الخلافة في بغداد أو سامرا‏..‏
تقول د‏.‏ سيدة اسماعيل كاشف‏:‏
كانت سياسة الخلفاء بوجه عام ترمي الي استغلال مصر‏,‏ وإن اختلف بعضهم عن البعض الآخر من حيث درجة الاستغلال‏,‏ فالخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك يكتب الي متولي الخراج في مصر قائلا‏:‏ إحلب الدر حتي ينقطع واحلب الدم حتي ينصرم‏(‏ أي حتي آخر قطرة‏).‏ بينما عبد الملك بن مروان ينصح متولي خراجه قائلا‏:‏ لاتكن علي درهمك المأخوذ أحرص منك علي درهمك المتروك‏,‏ أبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما‏.‏
أي أن يترك للناس بعض الطعام كي يعملوا وينتجوا للعام التالي‏.‏
وقبل ذلك كان عمرو بن العاص أبطأ في إرسال خراج مصر‏,‏ فكتب اليه عمر بن الخطاب يلومه‏:‏ أما بعد‏,‏ فقد عجبت من كثرة كتبي اليك في إبطائك بالخراج‏..‏ ولم أقدمك‏(‏ أرسلك‏)‏ الي مصر كي أجعلها طعمة لك ولا لقومك‏..‏ فرد عليه عمرو قائلا‏:‏ أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطيء في الخراج‏,‏ وزعم أني أحيد عن الحق‏..‏ ولكن أهل الأرض استنظروني الي أن تدرك غلتهم‏(‏ تحصد‏).‏ فكان الرفق خيرا من أن يحزق بهم فيصيروا الي بيع مالا غني عنه‏,‏ والسلام‏.‏
لكن في عام الرمادة‏,‏ عندما أصاب أهل الجزيرة العربية جهد شديد لهلاكهم من الجوع‏,‏ كتب عمر الي عمرو يقول له‏:‏ لعمري ياعمرو ماتبالي إذا شبعت أنت ومن معك‏,‏ وأن أهلك أنا ومن معي‏,‏ فياغوثاه ثم ياغوثاه‏.‏ وأجاب عمرو‏:‏ لبيك ثم لبيك‏,‏ قد بعثت اليك بعير أولها عندك وآخرها عندي
وعن قدر الجباية يذكر ابن ظهيرة‏:‏
كانت مصر لما فتحها عمرو بن العاص جباها أولي دخوله ثمانية آلاف ألف دينار‏(‏ ثمانية ملايين‏)‏ فاستعجزه عمر بن الخطاب وقال‏:‏ جباها الروم عشرين ألف ألف دينار وجبيتها ثمانية‏..‏ فلما كانت السنة الثانية جباها اثني عشر الف ألف‏,‏ فلما توفي عمر بن الخطاب وتولي عثمان بن عفان صرف عمرو عنها‏,‏ وولي عبد الله بن أبي السرح أخاه من الرضاع‏,‏ فجباها أربعة عشر ألف ألف دينار‏,‏ لأنه زاد في الخراج والوزن‏,‏ فنظر عثمان الي عمرو وكان عنده بالمدينة‏,‏ وقال له‏:‏ قد علمت أن اللقحة‏(‏ الناقة الحلوب يعني مصر‏)‏ دزت بعدك‏.‏ قال‏:‏ نعم‏,‏ ولكن أجاعت أولادها‏..‏ وقد أضرت هذه السنة بما بعدها‏,‏ فلم يجبها بنو أمية وبنو العباس‏(‏ بعد ذلك‏)‏ إلا دون الثلاثة آلاف ألف دينار‏.‏
يعلق ابن إياس علي ذلك‏:‏ وحصل لأهل مصر الضرر الشامل‏..‏ وكانت هذه أول شدة لأهل مصر في مبتدأ الاسلام
يضيف ابن ظهيرة‏:‏ ولم تزل ملوك مصر والي يومنا هذا‏(‏ أي حوالي‏871‏ ه‏1466‏ م‏)‏ يجمع كل واحد منهم أموالا عظيمة لاتدخل تحت الحصر‏,‏ وكذا الأمراء والوزراء والمباشرون علي اختلاف طبقاتهم‏,‏ كل منهم يأخذ أموالا في حياته بما لايعلم قدره إلا الله تعالي‏,‏ وكثير منها في هذه الأزمان بأيدي النساء والمماليك ومن والاهم‏,‏ والأمر لله تعالي
نقدا وعينا
جاء في شروط الفتح حسب بحث د‏.‏ سيدة اسماعيل كاشف‏:‏ أن يفرض علي جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين علي كل نفس‏,‏ شريفهم ووضيعهم‏,‏ ومن بلغ الحلم منهم‏,‏ ليس علي الشيخ الفاني ولا علي الصغير ولا علي النساء شيء وتلك هي الجزية وهي ضريبة علي الرءوس‏.‏ أما الخراج فهو ضريبة علي الأرض‏.‏ والواقع أن العرب لم يحددوا قيمة الجزية‏,‏ إذا يذكر المؤرخون أن صاحب إخنا‏(‏ موقع قرب الاسكندرية‏)‏ سأل عمرو بن العاص‏:‏ أخبرنا ماعلي أحدنا من الجزية‏,‏ فقال عمرو وهو يشير الي ركن الكنيسة‏:‏ لو أعطيتنا من الأرض الي السقف ما أخبرتك بما عليك‏,‏ إنما أنتم خزانة لنا‏,‏ إن كثر علينا كثرنا عليكم‏,‏ وان خفف عنا خففنا عنكم
وقد ذكر المؤرخون كذلك أن عمرو هدد القبط بأن كل من عنده كنز وأخفاه قتله‏..‏ وبلغه أن أحد أهالي الصعيد يقال له بطرس عنده كنز‏,‏ فلما سأله أنكر ذلك‏,‏ وعندما تبينت لعمرو صحة ماسمعه عنه أمر بقتله‏,‏ فلما سمع ذلك القبط أخرجوا كنوزهم خوفا من القتل‏.‏
وكان الخراج يجبي في مصر نقدا وعينا‏.‏ وكان القمح أهم مايجبي الي جانب الزيت والعسل وأنواع الأطعمة الأخري‏..‏ ومن الملل المجبي يأخذ جنود الحامية العربية في مصر عطاءهم‏,‏ وعقب الفتح مباشرة بدأت مصر ترسل القمح الي المدينة المنورة‏,‏ كما كانت ترسله لروما ومن بعدها بيزنطه‏,‏ واستمر ذلك حتي بعد نقل الخلافة الي دمشق وبغداد وسامرا‏.‏
السياسة في الدين
تأثرت مصر دائما بما يحدث في دار الخلافة فبعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة ظهر الخلاف بين المسلمين حول مسألة الخلافة ومن الذي يتولاها‏,‏ وهل هي إرث في بيت النبي‏..‏ أم يتقلد أمرها أي فرد كفء لها بغض النظر عن القبيلة التي ينتمي اليها؟‏..‏ فالدين الاسلامي لم ينص علي شكل حكومة معينة للأمة العربية أو لغيرها من الأمم‏..‏ ولم يعهد الرسول الي شخص معين من بعده ليكون زعيما للأمة‏..‏ وكان امتناع العباس عم الرسول وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير وغيرهم ممن لم يرضوا بمبايعة أبي بكر الصديق بالخلافة إيذانا بما حدث بعد ذلك من انقسام المسلمين الي سنة وشيعة‏,‏ ثم كثر النزاع حول الخلافة ومن يتولاها‏,‏ وكان تارة بالجدل وتارة بالسيف‏.‏ ونلاحظ أن الحركات والثورات المختلفة كانت سياسية في شكل دينية أو دينية في شكل سياسي
هذا ما قالته د‏.‏ سيدة اسماعيل كاشف‏,‏ ولأن الاقتصاد جزء من السياسة يضيف د‏.‏ سعيد عبد الفتاح عاشور‏(‏ وعبد الرحمن الرافعي‏)‏ أنه‏:‏ قد تجمعت عدة عوامل لإثارة الفتن ضد عثمان بن عفان‏,‏ منها أنه سمح لكبار الصحابة بالخروج الي الأقاليم وامتلاك الثروات فيها والضياع والدور ومنها استياء عرب الجنوب وقبائل أخري من تسلط قريش‏.‏
وعلي هذا فقد ثار العرب بمصر وبادروا بإرسال مندوبين عنهم الي المدينة‏..‏ وانتهي الأمر بمحاصرة عثمان في داره اثنين وعشرين يوما‏,‏ حتي اقتحموا داره وقتلوه سنة‏35‏ ه
بعد ذلك دب النزاع بين الخليفة الجديد علي بن أبي طالب وبين معاوية إبن عم عثمان‏.‏ والواقع أن معارضة معاوية تبدو ثورة علي الحكومة الشرعية‏,‏ ثورة من بني أمية ارستقراطية قريش‏,‏ للمطالبة بدم قريبهم عثمان‏..‏ وحين وقعت معركة صفين كاد يتم النصر لجيوش علي ولأهل العراق‏,‏ لولا حيلة دبرها عمرو بن العاص‏,‏ إذ أشار الي الجند السوريين‏(‏ أتباع معاوية‏)‏ برفع المصاحف علي أسنة الرماح‏,‏ وأخذوا ينادون الحكم لله
وكان الأمير محمد بن أبي بكر قد أخذ ولاية مصر‏,‏ فلما جاء قامت بينه وبين أتباع عثمان معارك انهزم فيها وهرب واختفي في بعض خرابات الفسطاط‏,‏ وأرشدت عن مكانه امرأة عجوز‏..‏ ويروي ابن إياس الواقعة هكذا‏:‏
فلما دخلوا عليه وجدوه قد كده العطش‏,‏ فقال لهم‏:‏ بالله اسقوني شربة من الماء‏,‏ فقال له ابن جريج‏:‏ لا أسقاني الله إن سقيتك‏,‏ أنسيت منعك الماء عن عثمان وهو في الدار‏..‏ فقال‏:‏ أكرموني لأجل أبي بكر‏(‏ والده‏)..‏ فقال ابن جريج‏:‏ لا أكرمني الله إن اكرمتك‏..‏ ثم ضرب عنقه بالسيف وأدخل جثته في جوف حمار وأحرقه‏.‏ قال الكندي‏:‏ لما قتل الأمير محمد أرسلت أخت ابن جريج الي عائشة‏(‏ أخته‏)‏ بخروف مشوي‏,‏ وقالت لها‏:‏ هكذا شوي أخوك محمد بمصر‏,‏ فحلفت عائشة أنها لاتأكل المشوي قط حتي تلقي ربها‏.‏
بهذا أصبحت مصر ولاية أموية سنة‏38‏ ه بالرغم من أن الخليفة علي بن أبي طالب ظل في منصبه حتي سنه‏40‏ ه‏(661‏ م‏)..‏ وانتهي الأمر بانتصار معاوية بن أبي سفيان‏,‏ وتقديرا منه لخدمات عمرو بن العاص ولاه مصر‏,‏ وجعلها طعمة له بعد عطاء جندها النفقه‏,‏ وهذه هي ولايته الثانية علي مصر سنة‏38‏ ه‏.‏ وكان من رأيه أن ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة واستمر واليا بها الي سنة‏43‏ ه‏.‏
في هذه السنة‏,‏ يقول ابن إياس مرض وسلسل في المرض‏,‏ فلما أشرف علي الموت أحضر ما كان جمعه من مال القبط لما فتح مصر‏,‏ وقال لولده عبدالله‏:‏ إذا أنا مت فاردد هذه الأموال الي أصحابها‏,‏ فلما سمع بها معاوية أرسل وأخذها‏..‏ وقد قيل لعبدالله‏:‏ ماكان قدر هذا المال؟ قال‏:‏ كان سبعين جرابا من جلد ثور كاملة‏(‏ أي حوالي عشرة أطنان من الدنانير الذهبية‏,‏ امتنع أولاده عن أخذ انصبتهم منها‏)..‏ وكانت حياة عمرو خمس وتسعين سنة‏,‏ ومدة ولايته علي مصر أولا وثانيا احدي عشرة سنة وأشهر‏..‏ ودفن في سفح الجبل المقطم قريبا من الفسطاط‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.