د. مجدي العفيفي ** الناس إذا ماتوا.. رأوا الحقيقة!! * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». كانت مفردة الموت، بكل تجلياتها وتداعياتها هي القاسم المشترك في أحاديث أنيس منصور، لا سيما بعد عودته من رحلة العلاج بباريس، وأشار إلى أنه ينتظر لحظة التنوير الأخيرة، وهي الحقيقة المؤكدة بعيدًا عن كل الاحتمالات، أسمعه هامسًا: «الحديث النبوي الشريف يقول: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». أي عرفوا قبل الموت ما لم يكن يعرفونه.. رأوا الدنيا.. رأوا الناس.. رأوا الحقيقة.. عرفوا أن كل شيء له نهاية.. وأن النهاية: جسد انتهى وروح خرجت.. ولا يبقى إلا وجه الله. وجاءت للموتى على فراشهم عبارات عجيبة.. ورأى الناس على وجوههم راحة الذي صفى حسابه، ووضع النقطة الأخيرة في سطور حياته، وأغلق دفاتره. واتجه إلى حيث لا يعرف، ولم يكن يعرف، أو كان يعرف. ولكنه حاول دائمًا أن ينسى، والآن جاء دوره لكي يتذكر ولآخر مرة. هكذا كان ينظر أنيس منصور إلى الموت الذي هو «الحالة التي يصبح فيها كل شيء مستحيلًا، النظر مستحيل، والسمع مستحيل، والتنفس مستحيل، ثم لا يكون زمن، ولا يكون يوم ولا غد ولا أمس، وكلما ازدادت المستحيلات في حياة إنسان ازداد اقترابه من الموت». ويتذكر كلمة للفيلسوف الوجودي سارتر: «إن الشيء المؤكد هو الموت، يعني إذا وقفت إلى جوار طفل يولد فأنت لا تستطيع أن تعرف هل يكون طويل العمر.. غنيًّا.. شهيرًا.. وإنما المؤكد أنه سيموت! وكان هناك من ينزعج من الكلام عن الموت وله مقولة شهيرة «إذا مت فسوف أقول لله: أنا عندي سؤال يا إله الكون..». وكان العقاد يقول: اقترب اللقاء.. اقترب اللقاء. ويسكت، فكانوا يسألونه: مع مَنْ يا أستاذ؟ فيقول: مع الله! وكان طه حسين يسرف في الكلام عن الموت، ويتمثل قول الشاعر: كل ابن أنثى وإن طال الزمانُ به يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ ومن أقوال توفيق الحكيم: «إذا قابلت ربنا فسوف أقول له: كان عندي سؤال أما اليوم فعندي سؤالان.. وأنا أردت أن أطيل اللقاء دقيقة أو دقيقتين. فإذا رفض الله لقائي فسوف أتخيل كيف يكون اللقاء»! * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام» أتذكر في هذا المكان الذي كان ينطلق منه شابًا رغم شيخوخته التي لم يعترف بها يومًا.. كان آخر سؤال سألته لأنيس منصور قبل هذا المشهد في الأيام الأخيرة: - ماذا تقول لربك غدًا إذا لقيته؟! قال بلغة الأعماق البعيدة التي كان يتهامس بها في كل حواراته معي: - سأقول له: أنت الله، لا شريك لك، ما أعظمك! وظل يبكي، كما كان يبكي في مراجعات كونية كثيرة، وأنصت إليه، وقد بهت صوته وشحب كثيرًا: «يا رب.. أنا تعبت، وجلالك وعظمتك وحكمتك وأبهتك، تعبت، على يميني عشرون مذهبًا في الفلسفة، وعلى يساري عشرون مذهبًا في الدين، وورائي حروب الصليب والهلال.. تعبت.. يا رب أريد أن أهتدي إليك.. بك إليك.. بنورك على ظلام نفسي.. على كهوفها وسراديبها وغياهبها، تعبت يا رب.. فأنا ضعيف وطاقتي محدودة، وأحلامي وأوهامي أكبر من قدرتي، أريد أن أطير، ولكن ريشي قصير، ووزني ثقيل، ومعاناتي هزيلة، ومجاهداتي كليلة، ولا حيلة لي، فلا حيلة للعين أن ترى والأذن أن تسمع، واليد أن تلمس، والقلب أن يخفق، وعقلي أن يفكر، فعذاب الفكر قدري. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». وأتذكر … كانت الساعة تدق الواحدة صباحًا وإذا بصوت أنيس منصور عبر الهاتف: «تعال مجدي» وفورًا من مصر الجديدة إلى الجيزة، فإذا بالدموع تترقرق في عينيه. - ما بك أستاذي؟ - أحببت أن أراك - مد يدك إلى هذا الرف العلوي في المكتبة الذي يضم كل مؤلفاتي.. هات كتاب (على رقاب العباد).. - تمام.. - وبدأت أقرأ وهو يصغي، كأنه ليس صاحب الكتاب حدثني أولًا عن حكايته مع هذا الكتاب، أن كتبًا كثيرة ظهرت، تتحدث عن الموتى وآخر كلماتهم، وكيف أن عددًا منهم قد أغاظه الموت، فسخر منه حتى النهاية، ومن فترة قد صدر كتاب بعنوان: «كيف ماتوا - آخر أيام وكلمات وعذاب ومقابر 300 من المشاهير في التاريخ» من تأليف نورمان دونالدسون وزوجته بيتي، ولكن أناسًا كانوا أكثر حظًّا من الحياة، فقد أعطاهم الموت آخر فرصة ليقولوا كلمة واحدة.. فكانت كلمتهم مريرة. فقد أحسوا أنهم خدعوا، وفوجئوا بأنهم انتهوا، وانكشفوا فقد توهموا أنهم لن يموتوا، وانكشف الموت الذي خدعهم بما في الحياة من جمال ودلال. حتى أنساهم أن للحياة نهاية. والموت ليس إلا سيفًا على رقاب العباد، وأمامه وقبله وبعده غيابات من علامات الاستفهام والتعجب، وإذا كنت لم تعرف ما الحياة؟ فكيف تعرف ما الموت؟ فما هو حقًّا؟ * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». ويطول التذكر … امتدت الجلسة حتى مطلع الفجر، مع أنه كان ينام مبكرًا ليصحوا مبكرًا ليشارك الصبح وهو يتنفس، وقبل أن نواصل السفر في مشاعر وأقوال الذين أعطاهم الموت آخر فرصة ليقولوا كلمة واحدة.. سألته: ما الذي تراه في الدنيا حولك يا أستاذ؟ «إنها القسوة في كل عين، في كل كلمة، لمسة في كل وعد، وفي كل وعيد.. لقد أصبحت الدنيا غابة من الأسمنت المسلح، وأصبحت أنياب الناس مسدسات، وكلماتها مفرقعات، وأفكارها عصابات، والحب حرب، والحرب حب، والدنيا آخرة». ما الذي يريده الناس من الناس يا أستاذ؟ - «لا شيء إلا أن يموتوا». ولماذا لا يريد الناس أن يعيشوا، وأن يتركوا غيرهم يعيش يا أستاذ؟ - لأن هناك ضيقًا. فكل إنسان يضيق بغيره. ويرى الدنيا لا تتسع لهما معًا.. ثم يضيق بنفسه. ولذلك فالناس ينتحرون، أو هم يقتلون الآخرين ليموتوا هم أيضًا. ولماذا لم يعد لم يعد أحد يفكر كيف يموت؟ - ذلك سوف يجيء في حينه.. وسوف يتكفل به إنسان آخر لا نعرفه.. ولكن على الإنسان أن يفكر كيف يعيش! ومات كثيرون بل أكثر الناس، دون أن نعرف كيف؟ ولا من الذي كان حولهم؟ ولا ما الذي قالوه؟ وما الذي رأوه؟ وهم على حافة هذه الحياة والحياة الأخرى، وفي السنوات الماضية ظهر في أوروبا وأمريكا مئات الكتب التي تؤكد لنا أن هناك حياة بعد الحياة، فقد اقترب الناس من الموت، وأنقذهم الأطباء، شاء الله ألا يموتوا. فعادوا يصفون الجمال والروعة والأبهة والهدوء المطلق في العالم الآخر. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». ماذا قالوا هم؟ وماذا قال هو؟ سنرى.. ونصغي.. لعلنا نفيق لعلنا... ولعلنا ننتبه.. ربما نرى الحقيقة التي هي عنوان هذا المشهد..! ونلتقي، إن كان في العمر بقية..