استعدادا لشم النسيم ..رفع درجة الاستعداد بالمستشفيات الجامعية    سعر الدينار الكويتي اليوم الأحد 5-5-2024 مقابل الجنيه في البنك الأهلي بالتزامن مع إجازة عيد القيامة والعمال    وزير المالية: 3.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء وشركات المياه و657 مليون ل«المزارعين»    وزيرة إسرائيلية تهاجم أمريكا: لا تستحق صفة صديق    تشكيل ليفربول المتوقع ضد توتنهام.. هل يشارك محمد صلاح أساسيًا؟    الاتحاد يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة الأهلي.. وأتوبيسات مجانية للجماهير    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثي سير منفصلين بالشرقية    الإسكان: 98 قرارًا لاعتماد التصميم العمراني والتخطيط ل 4232 فدانًا بالمدن الجديدة    «الري»: انطلاق المرحلة الثانية من برنامج تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية في الساحل الشمالي والدلتا    الإسكان تنظم ورش عمل حول تطبيق قانون التصالح في مخالفات البناء    استقرار ملحوظ في سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه المصري اليوم    العمل: توفير 14 ألف وظيفة لذوي الهمم.. و3400 فرصة جديدة ب55 شركة    ماكرون يطالب بفتح مجال التفاوض مع روسيا للوصول لحل آمن لجميع الأطراف    مسؤول أممي: تهديد قضاة «الجنائية الدولية» انتهاك صارخ لاستقلالية المحكمة    أوكرانيا تسقط 23 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    رئيس الوزراء الياباني: ليس هناك خطط لحل البرلمان    قصف مدفعي إسرائيلي على الحدود اللبنانية    يصل إلى 50 شهاباً في السماء.. «الجمعية الفلكية» تعلن موعد ذروة «إيتا الدلويات 2024» (تفاصيل)    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    اتحاد القبائل العربية: نقف صفًا واحدًا خلف القيادة السياسية والقوات المسلحة «مدينة السيسي» هدية جديدة من الرئيس لأرض الفيروز    فيديو.. شعبة بيض المائدة: نترقب مزيدا من انخفاض الأسعار في شهر أكتوبر    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    كرة طائرة - مريم متولي: غير صحيح طلبي العودة ل الأهلي بل إدارتهم من تواصلت معنا    «شوبير» يكشف حقيقة رفض الشناوي المشاركة مع الأهلي    شوبير يكشف مفاجأة حول أول الراحلين عن الأهلي بنهاية الموسم    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد في الأسواق (موقع رسمي)    الزراعة: حديقة الأسماك تستعد لاستقبال المواطنين في عيد شم النسيم    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    حدائق القاهرة: زيادة منافذ بيع التذاكر لعدم تكدس المواطنيين أمام بوابات الحدائق وإلغاء إجازات العاملين    التصريح بدفن شخص لقي مصرعه متأثرا بإصابته في حادث بالشرقية    السيطرة على حريق التهم مخزن قطن داخل منزل في الشرقية    وفاة كهربائي صعقه التيار بسوهاج    نجل الطبلاوي: والدي كان يوصينا بحفظ القرآن واتباع سنة النبي محمد (فيديو)    يعود لعصر الفراعنة.. خبير آثار: «شم النسيم» أقدم عيد شعبي في مصر    تامر حسني يدعم شابا ويرتدي تي شيرت من صنعه خلال حفله بالعين السخنة    سرب الوطنية والكرامة    الكاتبة فاطمة المعدول تتعرض لأزمة صحية وتعلن خضوعها لعملية جراحية    حكيم ومحمد عدوية اليوم في حفل ليالي مصر أحتفالا بأعياد الربيع    رئيس «الرعاية الصحية» يبحث تعزيز التعاون مع ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة    صحة الإسماعيلية تنظم مسابقات وتقدم الهدايا للأطفال خلال الاحتفال بعيد القيامة (صور)    أخبار الأهلي: تحرك جديد من اتحاد الكرة في أزمة الشيبي والشحات    وزير شئون المجالس النيابية يحضر قداس عيد القيامة المجيد ..صور    إنقاذ العالقين فوق أسطح المباني في البرازيل بسبب الفيضانات|فيديو    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    مخاوف في أمريكا.. ظهور أعراض وباء مميت على مزارع بولاية تكساس    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملف يكتبه : مجدي العفيفي
في ذكراه الاولي .. اليوم انيس منصور فيلسوف الصحافة وصحفي الفلاسفة
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 10 - 2012


النهاية..
بينما كان الصبح يتنفس لشروق يوم جديد 21 أكتوبر 2011 كان أنيس منصور يرسل أنفاسه الأخيرة لغروب عمر امتد 87 عاماً، ليضع النقطة الخاتمة في آخر سطر من كتاب حياته، في التاسعة صباح يوم الجمعة، وهو التوقيت اليومي الذي كان يتوهج فيه قلماً وألماً وأملاً، لكنه هذه المرة فارق التوهج علي إيقاع آيات من الذكر الحكيم، ففاضت روحه وكأنما أراد أن يكون آخر وأجّل وأجمل ما ينصت إليه في الدنيا، والنفس المطمئنة تتهيأ لترجع إلي ربها راضية مرضية.
وما كان أنيس منصور أبا أحد، ولكن رسول الكلمة، وخاتم جيل من المفكرين والكتّاب الموسوعيين من أصحاب النظرة الكونية والرؤية الفلسفية التي تخترق الزمان والمكان والإنسان.
تسعة عقود من الزمن الحي، عاش فيها وعاشت فيه، ورأي فيها ما رأي، وشهد وشاهد، وكتب وقرأ، وملأ الدنيا، وشغل الناس وشاغلهم، بالصحافة والفلسفة والثقافة والفكر، والأسئلة والتساؤلات، والتأمل والتحديق، والدهشة والمعرفة.
استقطر أنيس منصور من نفسه مائتي قنينة، شكلَّها في باقة من المؤلفات، ترصع جبين المكتبة العربية والإنسانية، ليتجاور مع كبار كتّاب العالم، وليتحاور مع الفكر والقلب الإنساني بسحره وسرده، ولغته ونغمه، ومفرداته ومعزوفاته.
ولقد مضي عام علي (فراق) أنيس منصور، أقول (فراق) و(مادي) فقط، لأني- كتلميذ له- لا أزال أتدثر بمعطفه الصحفي والفكري والفلسفي، ولا أزال أمكث في عباءته ولا أريد الخروج، فهو معي وأنا أيضاً.
أتنقل بين حدائقه المكتوبة، وأتلذذ بنور حرائقه المشتعلة، واستحضر أرواحه وأشباحه، واستمتع بلذة النص والقص والشخص والاسم والرسم والسمت والصمت، وعنفوان الشيخوخة التي لم يكن يعترف بها يوماً رغم وهن العظم منه واشتعال الرأس شيباً، وفوران المذكرات، والذكريات صدي السنين الحاكي.
البوح ...
في المائتي يوم الأخيرة من حياة أنيس منصور.. كان يحدثني عن كثير من الأسئلة المسكوت عنها، سواء علي المستوي الذاتي في مناطق وعرة من جغرافية حياته وفكره أم علي المستوي الموضوعي في رؤيته لكثير من القضايا والهموم المحظور اقتحامها.أفاض عليَّ بأسرار ومذكرات، وفتح لي (صندوقه الأسود) من مراجعات سياسية، واعترافات شخصية، ومناوشات فكرية، وارتعاشات دينية، وخفقات علوية، وتنهدات وجدانية، ونبوءات واقعية، وتحديقات مستقبلية.
كانت كثافة هذا البوح فائقة الحساسية وكان عليّ استيعابها رصداً وفرزاً، وتأصيلاً، وتجذيراً، طوال عام مضي، كان حظي عذباً وكان خطه معذباً، كأنه طلاسم، لكن فكها لم يكن مستحيلاً، فالمواد رائعة والمحتوي مروع، والتحيير مع أنيس منصور عذاب وعذوبة، وفي هذا عزائي.. فالانفراد هو الثمن.
من أجل ذلك.. أبدو وقد تأخرت، أو قل تلكأت، في إصدار» ال 200 يوم الأخيرة في حياة أنيس منصور« لكن تثمين الأشياء يحتاج ميزاناً أدق من ميزان الذهب، والوزن الفكري لأنيس منصور ثقيل، ومن ثقلت موازينه فهو في عيشة متجددة.. أبداً!
ثمة غابة من المعلومات الكثيفة تحتويها مؤلفات أنيس منصور في فروع المعرفة الإنسانية كافة، تجعله متمايزاً ومتميزاً، وأعظم سماتها هو ذلك التنوع النوعي الذي تفيض به، والأعظم هو قدرته علي استثمارها كتابياً وثقافياً في سباقاتها لتمثل طاقة هائلة من المتعة والفائدة.ولقد أخبرني الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل بضرورة دراسة مصادر فكر أنيس منصور المتنوعة والمتعددة، خاصة أنه كان يجيد سبع لغات حية من لغات العالم، فكان يجدد مداد قلمه وفكره باستمرار، حتي آخر لحظة، فكنت أجد دوريات علمية أجنبية، ودراسات فكرية حديثة، ومراجع فلسفية ودينية، تحيط بفراش مرضه، ويتزامن مع ذلك مشاهدته التليفزيونية لكثير من الفضائيات والمحطات الأجنبية لاسيما العلمية والتاريخية، لذلك لابد أن تطبق قاعدة (تقاطع المعلومات) إذا أردت الإحاطة بفكر هذا المفكر الموسوعي واستقطار أدبياته، واستخراج ملامحه، وتحديد معالمه.
الشخصية...
احتواء أنيس منصور، الشخص والشخصية، يعني احتواء مائة عام من الثقافة والسياسة والصحافة والمجتمع والناس والانعطافات والإنكسارات والانتصارات والهزائم والغنائم والتحولات الداخلية والإقليمية والإنسانية والكونية.
والارتحال والدوران حول عالم أنيس منصور هو ارتحال ودوران في فلك التنوير والاستنارة ، رغم أضواء مصابيح الظلام في الأجواء كثنائية حياتية طبيعية، وقد غالبها بأنوار مائتي كتاب عبر سبعة وثمانين عاما مشحونة بالمتقابلات ومسكونة بالتناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
واختزال أنيس منصور ، قلما وأملا وألما، في سطور وصفحات، هو مثل ولوج الجمل في سم الخياط، عملية مستحيلة، إلا أن يكون هذا الاختزال مجرد استقطار لحديقة مفكر وكاتب موسوعي، في قنينة مكثقة العبير، وقد رحل صاحبها ليظل ابداعه ينشر شذاه بين الأجيال بكل أطيافها وطبقاتها وشرائحها وظلالها وعذاباتها وأشواقها.
أن تقرأ أنيس منصور معناه أنك تقرأ ألوفا من الكتب، في الفكر والفلسفة والدين والعلم والأدب والفن والفلك والإنسان والزمان والمكان، وافتح كتب أنيس منصور: تمتعك، تتعبك، ترهقك، تؤنسك، تزلزلك، تفترسك، تهديك، تهدئك، تهدك، تصعد بك وتهبط، تطير وتحط، تسبح بك وتسبّح ، وتسعدك، وتحزنك، تتسع بك وتضيق، تضع العالم عند أطراف أصابعك وعيونك التي في طرفها شوق للتلقي والمعرفة وامتصاص الرحيق واستئناس الحريق، فكتبه مثل الخرائط تهديك إلي غيرها، ومثل الأوراق المالية مضمونة الفائدة، ومثل البنوك فيها كل أنواع المعاملات والتحويلات.
أن تجلس إلي أنيس منصور فأنت تتقابل مع مئات الشخصيات والأشخاص في العالم، من بسطاء ومشاهير وقيادات وجماهير، وأزمنة وأمكنة، وواقع وما وراء الواقع، وأنفس وآفاق، وأرواح وأشباح، وعلماء وفنانين، وفلاحين ومثقفين، وكتاتيب وجامعات، وفنادق وصحاري، وأطراف وأطياف، وجبال وأودية، وقري وقارات، و.. دنيا.توجد شخصيات تملأ العين والقلب ويظل الانسان يقترب منها حتي تستولي عليه، ويري الدنيا من خلالها ، فتصبح هذه الشخصيات عدسات لاصقة تلهب العين وتوجعها، وفي النهاية لا مفر من نزعها،لا استطيع ترك مجالي البصري رهنا لهذه العدسات المكبرة علي الدوام
أن تستمع إلي أنيس منصور لا بد أن تصغي إليه وتنصت، ليس علي شاكلة «رب مستمع والقلب في صمم» فهو يوقظ فيك حواسك ومشاعرك ووجدانك وفكرك، فتعيش حالة من من الجدل الإيجابي، وهالة من القوة الإنسانية والضعف أيضا، إنه المحدث الساحر بقدرته علي السرد والحكي، هو سارد يدرك نوعية المسرود له.
الأنا ...
»الأنا«.. هي نقطة الارتكاز لتحقق الإنجاز، يكتب كما يتحدث كما يتنفس« أعوذ بالله من يوم لا أقول فيه: أنا وأنا، وأنا قرأت أنا فكرت، أنا تأملت، أنا صليت، أنا شكرت الله علي ما أعطاني، أنا استغفرت، أنا أذنبت، فكيف لا أقول أنا ، والأدب والفن كله ليس إلا كلمة أنا، أنا رأيت، أنا انفعلت، أنا غضبت، أنا سعدت، ولكن أحب الذي يقول: أنا مختلف، أو سوف أكون مختلفا، لست نسخة لأحد، أو ظلا لأحد، أو في عباءة أحد، أنا كما أنا».
ذاته وحياته ومؤلفاته.. ثلاثية تشكل وحدة نصية كلية، هي منظومة أنيس منصور، قاسمها المشترك هو «الأنا» والأنا هي النواة التي تدور في مجرتها المليون الصفحة التي كتبها أنيس منصور طوال عمره وفكره «من أراد أن ينظر إليّ، فلينظر إليّ بعيني إلي عيني، يحاسبني بقولي علي قولي، ويستخدم موازيني في وزني، ومقاييسي في قياسي، فأنا شاهد علي نفسي، فأقفز إلي مقعدي وأدخل في ملابسي لتقول الذي أقول...».
سألت أنيس منصور: هل عرفت من أنت؟
قال: آه.. لو كانت أفكاري وعواطفي ملفوفة.. كلها علي هيئة بكرة خيط.. لها أول ولها آخر.. ولها اللون الذي يعجبني.. آه.. لو كنت أستطيع أن أرتب هذه الخيوط بالشكل الذي يعجبني..آه.. لو كنت أعرف ما يدور في عقلي.. وفي قلبي.. وفي معدتي.. إنني كثيرا أتلخبط في مشاعري فأحس بالصداع في معدتي.. وأحس بالمغص في عقلي.. وبالقرب من قلبي.. إنني لا أعرف أين يوجد الحب ولا أين توجد الكراهية.. ولا أين يوجد الجوع والعطش، إنني أعرف أن الطريق إلي العقل يمر بالمعدة وبالقلب ولكن أنا لا أعرف أول هذا الطريق ولا نهايته.. فنحن نأكل، ولكن عملية الأكل هذه عملية عقلية.. والشعور باللذة.. مسألة عقلية.. والشعور بالارتياح للذين نجلس إليهم عند الأكل مسألة عاطفية.. مسألة قلبية.. فبأي شيء نأكل.. بالقلب؟ بالعقل؟ لا أعرف!
الأشواق...
ما بين أول طلعة منه، وآخر طلة مني عليه، ثلاثة وثلاثون عاما هي عمر علاقتي بالكاتب الكبير أنيس منصور، صحفيا وثقافيا وسياسيا وفكريا وأدبيا وشخصيا، حوارا وجوارا وجدارا لم ينقض، فقد توهج عنفوان هذه العلاقة حتي في سنوات الغربة، كانت الموجات تتري من النيل إلي الخليج، محملة بنسائم الفكر والشوق واللقاء، ودفء المشاعر التي لم تعرف الا التوهج، ولا تعترف إلا بضياء الأستاذية وأشواق التلمذة، فليست صفحاتي عنه هذه..مجروحة، ولن تكون ولا ينبغي، وأنَّي ذلك وعبير الأستاذية ممتد وممدود: ألقا وقلقا ووهجا.
عشت المائتي يوم الأخيرة معه، معايشة حميمية، واقتربت منه اقترابا كاشفا، فكنت أسلك منه، عبر ثقافة الأسئلة، إجابات عن المسكوت عنه، فأنيس منصور هو آخر رموز جيل أعطي بسخاء، في كافة فروع المعرفة، بلا حدود.
ولقد ارتبطت بكل هؤلاء العظماء والعمالقة ارتباطا فكريا وصحفيا وذاتيا، وعن كثب، منذ أن كنت أجري سلسلة من الحوارات المصورة «24 ساعة في حياة كاتب» في صفحة «أخبار الأدب» بجريدة الأخبار طوال عام 1980عايشتهم فكرا وسلوكا واستبطانا وألفة، واقتطفت منهم كثيرا من أحلي وأعظم ما لديهم، وتركوا بصماتهم في حياتي بشكل أو بآخر، وهم وإن رحلوا «أشخاصا» فقد بقوا «شخصيات» ومصابيح مضيئة في فضاء الثقافة، إبداعا وإنتاجا، وصياغة وصناعة، وها هو أحدثهم وآخرهم أنيس منصور :12 أكتوبر 2011 .
الرسالة...
كان أنيس منصور يتساءل في دهشة، ويشاركني اقتسام السؤال، والسؤال نصف الجواب: لماذا تركني الله تعالي الي هذه السن؟. ولماذا وحدي؟.لماذا ناداهم كلهم إلا أنا؟.
وكنت أقول:إن رسالتك لم تكتمل، ربما. وكان يزم شفتيه ويرفع حاجب الدهشة، ولا يخفضه إلا قليلا، ألم تقل:«أنا عندي إحساس دائم بأن الذي كتبته من الممكن ان يكون أفضل وأطول، فالمعاني مثل ينبوع واحد، أو نهر واحد، تتفرع منه عشرات القنوات والفنان مثل البلبل: له أنشودة واحدة، وأنا وكل كاتب نشبه الذي يقف أمام القاضي ويقسم :أن أقول الحق ، ولا شئ إلا الحق، وكل الحق! أما أنه يقول الحق فصحيح، ولا شئ إلا الحق فصحيح أيضا، أما «كل الحق» فليس صحيحا، فلا أحد يعرف «كل » ولا أحد قال«كل» شئ ، وإنما بعض الشئ، بعض الوقت، أي الحقيقة.. إلا قليلا!.
و«الحقيقة» هي أمل ورجاء أنيس منصور، معبودته التي كان ينحني لها في كل ما يكتب، ظل يبحث عنها علي مدي مائتي كتاب ويدعو الناس أيضا، لكن العلم طويل والعمر قصير، كما يقول المثل اللاتيني القديم، ومن ثم كان يؤرقه في الأيام الأخيرة علامة استفهام محملة بشئ من الحسرة: من يحمل أمانة الحفاظ علي هذه الثروة والدعوة في مؤلفاتي؟ ليس لي ورثة. إذن لا بد أن أوصي بما أملك لأحد من الناس فما هي هذه الثروة التي سوف أتركها عندما أموت. أنا أقول لك: مكتبتي وبها خمسون ستون ألفا من الكتب. إيه يعني وقد تركت من المؤلفات 200 كتاب وإيه يعني مرة أخري. فعائد هذه الكتب ضئيل جدا، ولم يستطع كاتب مصري أن يعيش علي كتبه: لا توفيق الحكيم ولا العقاد ولا طه حسين ولا نجيب محفوظ، ولولا أن روايات نجيب محفوظ تحولت إلي مسرحيات وأفلام لوجدت أول شحاذ يدق بابك هو نجيب محفوظ، إذن هذا الذي سوف أتركه لكلبي يكفيه غداء وعشاء، وكلبي يتغذي علي العظم واللحم الذي لا آكله، ويتغذي علي الخبز والجبن المالح، وأنا لا آكل الملح في الطعام أو خارجه، وسمعت من يقول في أذني بصوت مرتفع: يا أخي اسكت. إيه اللي حشرك بين هؤلاء الأغنياء! وتلفت حولي لأعرف من هذا الخبير بكل شؤوني والفاضح لأمري. فلم أجد أحدا سواي.. وسكت!
النغم...
سألت أنيس منصور في شهوره الأخيرة وكان يراجع كتابه »أعجبني هؤلاء« : هل قلت كل ما تريده؟
قال :عندي إحساس دائم بأنني لم أقل بالضبط ما أريد ولكنني أحاول ثم أكرر المحاولة وتكررالمعاني ولذلك استخدم في التوضيح كأنما ولعل أي كأن المعني كذا وكذا وأشعر بأنني لم أقل بما فيه الكفاية فأعود وأنا أعود إلي الكثير من المعاني.
يتوافق الكاتب أنيس منصور مع صديقه الكاتب الإيطالي البرتومورافيا، في رؤيتهما أن الفنان الحقيقي هو الذي يكرر نفسه! وأنت ايضا تؤكد ذلك القول بأن لديك لحنا واحدا تعزف انغامه بطرق مختلفة؟ كل كاتب مثل كل طائر مغرد له لحن واحد يميزه عن بقية الطيور الأخري المغردة، فالكاتب صاحب الرؤية له رأي واحد، أو نظرية واحدة، أوصيغة فكرية واحدة يحاول ان يلف حولها ويعرضها بأشكال مختلفة فالفنان صاحب النغمة الواحدة او صاحب اللحن الواحد يتناوله من جوانب أو زوايا شتي وينادي بالفكرة الواحدة أو الصيغة الواحدة فيأتيها من زاوية فيكبرها ويصغرها ويكونها ويشخصها ليري بوضوح.
العصا ...
كان القلم في يد أنيس منصور مثل عصا موسي.. يهش به علي غنمه من الكلمات، يسوقها إلي المعاني، أو يسوق إليها المعاني ، أحيانا ، تمشي وراءه وينفخ في عصاه كأنها أرغون، ويغني ولا يلتفت إلي الأغنام وراءه وحوله وأمامه ، هو يقول :أحيانا أري عصاي تلتهم الكلمات وتلتهم الأفكار، ولا أعرف ما جدوي أن تكون لي عصا، وأحيانا أري عصاي مثل عصا المايسترو أقود بها ما لدي من أفكار، وأهش بها علي ما لدي من كلمات،وأقوم بالتنسيق بينهما جميعا ويسعدني ذلك.وأحيانا أري عصاي مثل عصا توفيق الحكيم..
سألته: ولماذا العصا يا أستاذ؟ فقال: حتي الآن لا فائدة منها، ولكن عندي أملاً أن يجئ وقت أنهال بها علي دماغي ندما علي أنني أضعت عمري في الكلام الفارغ، فلا أضفت جديدا، ولاأصلحت وضعا، ولا كان لي حواران.
قلت : بل أضفت يا أستاذ وأقنعت وأسعدت، وفتحت رؤوسا مغلقة، وأضأت طرقا مظلمة في القصة والرواية والمسرحية، وكانت لك نظرية فلسفية، وإن لم يكن لها أثر هذه الأيام فسوف يكون غدا أو بعد غد. فضحك توفيق الحكيم وقال: الآن عرفت لهذه العصا فائدة مؤكدة ، وهي أن أنزل بها علي رأسك، فأنت شديد التفاؤل، بينما أنت في طبيعتك شديد التشاؤم.
ولما سئل الأستاذ العقاد وقد لاحظنا أنه أصبح ثقيل الخطو، ولماذا لا تستخدم عصا يا أستاذ؟ فأجاب إنني أحتاج إلي كثير من هذه العصا، واحدة أسند بها رأسي، وواحدة أسند بها قلبي، وواحدة لكي أقوّم هذا المجتمع الآعوج، وعصا أضرب بها حكامنا الكذابين، ومؤرخينا الأكذب، فإن كان عندك هذا النوع من العصا فهات منها مائة وألفا..ورضيت بأن أستعير عصا موسي فهي أسهل!.
الاعتراف ...
الفن ليس إلا نوعا من الاعتراف، أي نوعا من إزالة الحائط الرابع بين الفنان وبين الناس، فيحدثهم عن نفسه، بلا تحفظ، بلا حواجز، سواء نشر الفنان اعترافاته وهو حي، أو نشرها بعد وفاته، فإذا نشر الفنان اعترافاته وهو حي، كان معني ذلك أنه لا يخشي أن يصارح الناس، فإذا نظر إليه الناس، نظر إليهم أيضا، وإذا رآه الناس عاريا، واجههم فهو قد استعد لهذه اللحظة لهذه المواجهة، وإذا نشر اعترافاته بعد وفاته، فمعني ذلك أنه لم يقو علي مواجهة الناس لم يقو علي نظرات الناس، إنه فضل أن يفقئ عينيه حتي لا يراهم، أن يموت ومعني موت الفنان قبل أن ينشر اعترافاته، أنه قرر أن يحرم الناس من متعة إلصاق العار به أنه فوت علي الناس تعذيبه، فنشر اعترافاته بعد موته ، والفيلسوف سارتر نشر كتابه »كلمات« وهي اعترافات أو ترجمة حياته ونشرت »سيمون دي بوفوار« اعترافاتها في »مذكرات فتاة متنزة« وفي »قوة الاشياء« وفي »قوة العمر« وفي «وفاة هادئة جداً» وطه حسين نشر »الأيام« والعقاد نشر »في بيتي« والمازني نشر »قصة حياة« وسومرست موم نشر »الخلاصة«
سجل أنيس منصور مرحلة القلق في حياته وحياة أبناء جيله في معظم كتبه:وداعا أيها الملل، من أول نظرة، في صالون العقاد كانت لنا أيام، عاشوا في حياتي، مذكرات شاب غاضب . مذكرات شابة غاضبة، البقية في حياتي، ، وقبل ذلك كانت رحلاته: حول العالم في 200 يوم، بلاد الله خلق الله، أعجب الرحلات في التاريخ، غريب في بلاد غريبة، أنت في اليابان وبلاد أخري.وسجل قلقه النفسي في : يسقط الحائط الرابع، الوجودية، اوراق علي شجر، شباب شباب، اثنين اثنين، جسمك لا يكذب، وسجل سنوات البكر في »البقية في حياتي « و»إلا قليلا« و»صندوقي الأسود«:
وفي هذه الكتب ومائة غيرها يقول:« تسلطت علي نفسي أدرس وأتعمق وأحلل وأكتب بلا رحمة وأحيانا بلا تحفظ، فأن أتحدث الي نفسي علي مسمع من الناس وعلي مرأي أيضا، وحين أتحدث الي نفسي أرفع الكلفة، وأزيل الحواجز، وأجدني عاري الجسد والنفس أمام المرآة، وأنسي أن هذا يقال وهذا لا يقال، ولكن عذري أنني أريد أن أعرف نفسي بما في نفسي، وفي نفوس الناس، فنحن جميعا تحت الجلد سواء، الجلد يفصل بيننا من ناحية الشكل، ولكن تحت الجلد دماً من نوع واحد، كرات بيضاء وحمراء وتدخل القلب ويضخها الي بقية الأعضاء والغدد وإلي المخ».عندما أتذكرأمثلة من شبابي ومن طفولتي فإنني لا أندهش لها، وإنما أذهب إلي أبعد وأعمق وأقرب، لعلي أعرف ماذا حدث وكيف حدث، وهل كان من الممكن أن يحدث غير ذلك... طبعاً مستحيل، ولو عدت إلي تلك الأيام ما فعلت غير الذي فعلت!.
المذكرات ...
لماذا يعترف الناس بعيوبهم؟! لماذا يكتب الناس مذكراتهم أو اعترافاتهم أو ما لا يعرفه الناس؟! لماذا يتعري الناس أمام الناس؟!
هناك إجابات كثيرة لدي أنيس منصور: رأي يقول إنما يكتب الأدباء مذكراتهم لأنهم يريدون أن يكشفوا عن حياتهم.. أو إخفاء بعض المعلومات.أول من كتب هذه المذكرات في الغرب القديس أوغسطين. وصارت هذه الاعترافات نموذجا لما يجب أن تكون عليه المذكرات.. واعترافات (جان جاك روسو) قال فيها ما يقال وما لا يقال وما لا يقال أكثر. فمثلا ذكر أن عنده شذوذا. وسبب الشذوذ أن لديه انحرافا جنسيا.. ولذلك، أوصي جان جاك بأن تنشر مذكراته بعد وفاته.
وكانت اعترافات العقاد اسمها (أنا)، وقال فيها ما يحب (أنا) وما يكره (أنا) ود. لويس عوض اعترف بأنه لا ينجب لا هو ولا أخوه، وأن أخته ماتت عذراء في السبعين من عمرها في أحد المستشفيات. واعترف موسي صبري بأنه أسلم وارتد ثم أسلم.. وبأنه ترك لأولاده أن يختاروا الدين الذي يريدونه.وأنا كتبت مذكراتي أربع مرات.. وبلغت فيها زمنا طويلا.وأعود إليها وبعد أن أمضي فيها طويلا أتوقف. والذي حيرني أن هناك فترة من عمري كلما حاولت التعبير عنها لا أحبذ الاستمرار في ذلك. وقلت لا بد أن أذهب إلي محلل نفساني. أحكي له ويستدرجني ويحلل أعماقي.. ووجدت أنني أستطيع ذلك. وجلست وتأملت طويلا. ووجدت السبب أنه حدث في ذلك الوقت أن صفعني المدرس.. وكسر تمثالا لي كنت أراه في الطفولة. وقد حاولت في كل المناسبات ألا أتعرض له وأن أتستر عليه. فأنا كرهت الخوف وكرهت الإشارة إليه. ولما كشفت ما أخفيه عشرات السنين انكشفت حياتي الصغيرة أمامي ووجدت ردودا علي ما ارتكبه المدرس.ومن هنا كانت محاولتي الخامسة في كتابي «صندوقي الأسود».وأنت وكثير من الناس أيضا يسألني: يا أخي لماذا تفضح نفسك هكذا؟ واندهش كيف أنني فضحت نفسي، إنني لم أفضح نفسي، ولا أحداً، إنما أردت أن أعرف، أن أكشف، أن أنكشف، أن أكتشف، أن أكاشف، هذا كل ما هناك، عملا بنصيحة أستاذنا العظيم سقراط:«اعرف نفسك بنفسك». بعض الناس عندما يقرأ ما كتبت عن نفسي وعن نفوس الآخرين يشعر بالخجل.. لماذا؟ لأنه كان يخفي شيئا، فكشفته أنا.
الحياة ...
هندسة العلاقات الانسانية.. تشكل أهم المرتكزات الفكرية في كتابات أنيس منصور، وهي كنز ضخم ينهل منه الآن كل الفكر الانساني، ومن هنا تتكشف رؤية أنيس منصور الإنسانية، بمجموعة من الثوابت، وأخري من المتغيرات، تنضوي تحت القيم الثلاث الكبري التي يجمع قادة الفكر الانساني علي أنها هي التي تضبط حياة الإنسان الفكرية والعملية علي حد سواء، وهي قيم الحق والخير والجمال، في هذه المنظومة الفكرية، يتبدي بجلاء أن القيم لا تتجزأ، لأن فكر صاحبها ليس فكرا علي فكر، إنما هو فكر نابع من واقع الحياة، فكر علي مشكلات حية، وهذا هو شأن الفكر العظيم.
سألته : الحياة في منظورك؟
أنا شديد الحرارة والحماسة.. أري الدنيا كلها أقرب مما هي الآن.. فأنا استطيع أن أقول كل ما أريد.. وأستطيع أن أحكم علي كل الناس وفي كل القضايا.. لا خوف.. لا احتراس.. هذا رأيي وفي ذلك الكفاية وأنا المسؤول عن كل ما أقول.. وقد غضب مني الكثيرون.. ولكن هذا الغضب طبيعي.. أي من الطبيعي أن يغضب الناس مما أقول وأن ينزعجوا أيضا. ووجدت في ذلك الوقت أنه لا حرائق بلا نار.. ولا نار بلا دخان ولا انفجار بلا دوي! والشباب انفجار.. والانفجار نار وألوان ودخان وصراخ وضوضاء ورعب. ولم أكن في ذلك الوقت إلا صورة أو انعكاسا لمئات الصور من الشباب في مثل سني. واندهشت جدا كيف أن عددا من القضايا العاطفية والاجتماعية كانت تشغلني أكثر من أي شيء.. وكيف أنني كنت أضع أصابعي في النار بلا خوف، فلم يكن الخوف هو الذي يسيطر علي أصابعي.. ولكن المهم عندي هو أن أمسك شيئا.. أن أنظر إليه عن قرب وأن أزفه وأن أصفه وأن أقدمه مهما كان الثمن.. ولم أكن في ذلك متسرعا ولا مستخفا ولا مستهينا بشيء واحد أو بأحد.وقد تغيرت الدنيا في يدي وعيني.. وأجدني متمسكا بكثير من آرائي في الحياة والناس.. وفي الحاضر والمستقبل وفي هموم الشباب. ويدهشني أنني تنبهت إلي ذلك في سن مبكرة.
الكهف ...
ذات يوم ذكرت الأستاذ أنيس منصور بأنه يشير كثيرا إلي إحدي الأساطير الألمانية - والأساطير رموز حية قادرة علي العطاء الفكري بما يسكنها من تأويلات مصاحبة للفكر الإنساني مع الحياة منذ بدء الخليقة - تقول هذه الأسطورة إن هناك كهفا اسمه العبقرية، ومن حق كل انسان أن يفكر في الذهاب إليه وفي دخوله، بشرط أن يدفع الثمن وكل واحد يدفع ثمنا مختلفا.. لماذا؟ لايحق لإنسان أن يسأل، لأن أحدا لا يعرف من الذي وضع قائمة أسعار العبقرية ، ولكن عندما يدخل الانسان، يجد أنه دون أن يشعر قد دفع الثمن: جسمه أو صحته أو نومه أو سعادته أو نصف عمره أو أكثر من النصف، هذا هو الشرط، فالعبقرية لها ثمن يدفعه العبقري، ويدفعه الناس من حوله أيضا.
ولما سألته: وأنت؟
وإذا كان كل إنسان في يديه القدرة علي الإختيار في أن يكون ناجحا أو فاشلا، رغم الظروف، أو بسبب الظروف فليس في يده أن يكون موهوبا، ولا في يده ولا الظروف ولا كل قوي الكون أن تصيره عبقريا، فالنجاح من صنع الإنسان والعبقرية من صنع الله تعالي.
الموت ...
كانت مفردة الموت، بكل تجلياتها وتداعياتها هي القاسم المشترك في أحاديث أنيس منصور، لاسيما بعد عودته من رحلة العلاج بباريس، وأشار إلي أنه ينتظر لحظة التنوير الأخيرة، وهي الحقيقة المؤكدة بعيدا عن كل الاحتملات، أسمعه هامسا: الحديث النبوي الشريف يقول: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. أي عرفوا قبل الموت ما لم يكن يعرفونه.. رأوا الدنيا.. رأوا الناس.. رأوا الحقيقة.. عرفوا أن كل شيء له نهاية.. وأن النهاية: جسد انتهي وروح خرجت.. ولا يبقي إلا وجه الله. وجاءت للموتي علي فراشهم عبارات عجيبة.. ورأي الناس علي وجوههم راحة الذي صفي حسابه، ووضع النقطة الأخيرة في سطور حياته، وأغلق دفاتره واتجه إلي حيث لا يعرف، ولم يكن يعرف، أو كان يعرف ولكنه حاول دائما أن ينسي، والآن جاء دوره لكي يتذكر ولآخر مرة.
القبر ...
سألته:ما الذي خرجت به من هذه الدنيا؟!
كأنه انتبه فقال :صحيح ما الذي يمكن أن يخرج به الإنسان من هذه الدنيا.. والجواب: لا شيء.. لأنك إذا قلت انك (خرجت) من هذه الدنيا بشيء فأنت لا تعرف ماذا تقول.. لأنه لا أحد يخرج منها بشئ.. فالذي يموت لا يترك شيئا لأحد.. لأنه بعد وفاة الانسان لا أحد فكل الناس بعده لا شيء أيضا.. وانما الذي يحدث هو الانسان كما دخل الدنيا سوف (يخرج منها كان وزنه ستة أرطال وسوف يخرج منها ووزنه ستون رطلا.. دخلها سليما وخرج منها مريضا..
أو تقول لنفسك: كل هذا التعب والعذاب في الدنيا والنتيجة ماذا ؟ لا شيء. فأنت قاتلت وحاربت وصارعت وناقشت ومرضت وسهرت وأكلت وشربت وكسبت وخسرت وكفرت وآمنت ودق قلبك طالعا نازلا ثم ضاق صدرك والتوت أمعاؤك واحترقت معدتك وزاغت عينك وانشطر رأسك وحارت قدماك في كل أرض وامتدت يدك الي كل الكتب والعقاقير.. والنتيجة ماذا ؟ لا شيء.. فما الذي يمكن أن يخرج به الانسان من دنياه؟!
ومن كلماته الأخيرة: اذا قررت وضع لافتة علي قبري فلن أكتب الا هذه العبارة عاش كذا سنة ولم ينم الا ليلة واحدة
الله ...
آخر سؤال سألته لأنيس منصور: ماذا تقول لربك غدا إذا لقيته؟
قال بلغة الأعماق البعيدة التي كان يتهامس بها في كل حواراته معي : سأقول له تعالي بكل قلبي ونفسي وكياني: أنت الله ، لا شريك لك، ما أعظمك!.
وظل يبكي ، كما كان يبكي في مراجعات كونية كثيرة، ونصت إليه وقد بهت صوته وشحب كثيرا: إنهم يبكون من قرب الحبيب، ويبكون من بعد الحبيب.. يبكون في حضرة الحبيب.. والحبيب عندهم هو الله، وأنا يارب أبكي كثيرا أمام الشمس وأمام القمر وأمام البحر، وأغمض عيني فأبكي .. يارب أنا مش فاهم .. يارب عظمي أرهق، وقلبي أرهق، وعقلي أرهق، وأنا ضحية الإثنين، فكيف لا أبكي.
شخصياً: هو شقيق زوجة أنيس منصور، وهو الصديق الصدوق له، وكاتم أسراره، والعارف ببواطنه، ورفيقه في مشوار حياته، وأنيسه في كل أحواله خاصة محنة المرض كان الطبيب والحبيب والأخ الحنون له.. حتي إنه كان الوحيد الذي كاشفه بسر مرضه بسرطان الكلي، وهو السر الذي أخفاه عن زوجته.
وموضوعياً هو أحد أبطال حرب أكتوبر 1973 وبالتحديد في قيادة سلاح المدفعية، وهذا يكفيه.. ومن قبلها كان قائد القوات المصرية التي شاركت في حرب اليمن 1963، وهذه كانت السبب في بداية تشكيل العلاقة الحميمة بين أنيس منصور وفريد حجاج.. ورب ضارة نافعة!
يقول اللواء فريد حجاج: كانت البداية في قلب البحر علي سطح المركب العائد من اليمن إلي مصر في ليلة من ليالي أغسطس عام 1963 قادماً من (ميناء الحُديدة) بعد قتال عنيف استمر أحد عشر شهراً عدت بعدها أنا وسريتي وكنت أيامها قائد سرية المدفعية وهي أول وحدات المدفعية التي ذهبت إلي اليمن لمساعدة الثورة اليمنية 26 سبتمبر 1962.
في تلك الليلة جاءني ضابط من المركب ليخبرني أن وفد الأدباء المصريين العائدين من زيارة اليمن (يوسف السباعي وأنيس منصور ونجيب محفوظ وصالح جودت ومحمود حسن اسماعيل) يدعوننا لتناول العشاء علي سطح المركب، وجدنا عشاء فاخراً لم نذق قطعة منه طوال فترة القتال، سألوني عما فعلناه لثورة اليمن.. تكلمت بكل صراحة ووضوح وأظهرت لهم الوجه الحقيقي المرعب لمعاناة الجيش المصري هناك، وجدت منهم آذاناً صاغية، ولاحظت أنهم بهتوا مما شرحته وعرضته، وتأكدوا أنها ليست ثورة، وأن ما حدث هو مستنقع للقوات المسلحة المصرية، وأن مصر خسرت كثيراً جداً هناك، وعلي ضوء ذلك قرر الأدباء والكتّاب أنهم لن يكتبوا كلمة واحدة.
في تلك الأثناء وجدت أنيس منصور يقترب مني، وفي اليوم التالي قال لي: بعد أن تكلمت أمس لم أنم طوال الليل، لأن فكرتنا عن حرب اليمن تغيرت كلية.
ومن هنا بدأت العلاقة بيني وبين أنيس تأخذ شكل الصداقة الحميمة، وزاد من حميميتها تلك المصادفة التي تزامنت مع نشوء الصداقة، إذ تقدم إلي خالي زكريا توفيق- أحد رجال المخابرات العامة آنذاك- لخطبة شقيقتي رجاء عن طريق الأستاذ محمد حسنين هيكل، بدون أن يعرف أنها أختي، وكان قد تعرف عليها في نادي التوفيقية كسيدة ناشطة اجتماعيا،وكانت مفاجأة له ولي وتم عقد القران، وتوطدت العلاقة بيننا أكثر.
وعن مواقفه التي لا ينساها اللواء فريد حجاج لأنيس منصور ذلك الموقع الرائع في حرب أكتوبر 1973 إذ كنت قائداً في الجيش الثالث الميداني، وكنا محاصرين، وجاء أنيس منصور بنفسه ليسأل عني، وفوجئت بزيارته وأريته الساتر الترابي وعيون موسي، والطائرات الإسرائيلية المدمرة، وكانت فرصة لأنيس أن يكتب سلسلة من الأحاديث والتحقيقات الصحفية.
كان أنيس منصور يُكن عظيم الاحترام للعسكرية المصرية، وكان كله ثقة في قدرات رجالها وتشكيلاتها، وكان يري أن القوات المسلحة ظُلمت كثيراً في حرب 1967.
كان الاقتراب بينه وبين الرئيس الراحل محمد أنور السادات مفيداً جداً لمصر، خاصة بعد مبادرة السلام، وقد لعب أنيس دوراً كبيراً ومشهوداً له، تبدي ذلك في محور مصر وإسرائيل، ومحور العلاقات بين مصر والسعودية في ذلك الوقت وسجل هذا الدور في كتابه (مشواري السري) الذي لم يتمكن من نشره في حياته.
وعندما اغتيل الرئيس السادات كان حزن أنيس عليه عميقاً جداً، فقد كان يصفه بأنه صاحب رؤية، وكان يري أن مصر (علي قده) وليس مثل عبدالناصر الذي كان يري أن مصر (أصغر منه).. أما علاقته بالرئيس مبارك فكان يتباعد عنه لأنه رآه كثيرا في مواقف ضعف، فآثر الانسحاب تدريجيا، خاصة أن القرب من الرئاسة شديد الخطورة والحساسية.
ويضيف اللواء فريد حجاج: لقد عاصرت تحولات أنيس منصور خاصة عندما أسس مجلة أكتوبر عام 1976 وأثري بها الحياة الصحفية والسياسية.
ويتذكر اللواء حجاج أن أنيس كان يحرضه علي الكتابة في بداية الثمانينيات، فكتبت (جنرالات هتلر) و(مذكرات الزعيم أحمد عرابي) و(حرب 67 لماذا؟) و(صفحات من تاريخ الصومال) و(من مذكرات ديفيد اليعازر).
ويتذكر اللواء فريد حجاج: ومرت الأيام وتوالت حتي كانت المحنة الصعبة حين داهمته (الجلطة) في قدمه، ورافقته إلي باريس عام 1997، وفي هذا السياق لا أنسي أبداً موقفه الإنساني النبيل حين أصيبت زوجته (رجاء) بجلطة في المخ فظهرت عبقريته الإنسانية.. فكان نعم الأب والزوج والأخ.. وأشهد أنه رعاها حق رعايتها.
لكن المحنة الأكبر لأنيس كانت عام 2005وهنا يكشف اللواء فريد حجاج سراً لأول مرة إذ اكتشف الطبيب الفرنسي أن أنيس مصاب بسرطان الكلي، وتم استئصاله، وحرص كل الحرص علي ألا تعرف زوجته هذا الخبر الكارثي، وظل طي الكتمان. لم يجزع أنيس ، كان إيمانه بالله قويا فتحمل الألم سرا.
وفي عام 2008 انتشر المرض في العمود الفقري ، وكانت حتمية العلاج في باريس،وكنت رفيقه ساعة بساعة، في كل زيارة، ولو وصفت لك الآلام العنيفة لاحتاج صفحات وصفحات، ورغم عنف الألم إلا أنه كان يكتب ويتحمل، ولم يتوقف يوما واحدا.
الذي لا أنساه وكان مثار تعجب وإعجاب أن أنيس كان يعالج علي نفقته الشخصية، وكان ير يأن هناك من هو أولي منه بهذه الأموال، وكان يقول: إذا كان الله تعالي قد أقدرني علي دفع العلاج فلماذا لا أعمل لله شكرا.
في مايو عام 2011 - وأنت كنت معنا -انتشر المرض بصورة مفاجئة، رفض الطعام والشراب، ونقص وزنه، وعافت نفسه كل شيء، فكانت آخر زيارة لنا الي باريس ، وهناك سأل الطبيب المعالج:
» فاضل من عمري قد إيه«؟
قال له الطبيب:
شهور معدودة إذا ظللت ترفض الطعام.. وسنوات إذا أقبلت علي الأكل.
لكن أنيس كان قد وصل إلي حالة من الاحباط عندما كان ينظر حوله، في المشهد السياسي والاجتماعي، واصل رفضه لتناول أي شيء، الي أن انتقل الي غرفة الانعاش في اكتوبر عام 2011 وكانت رحمة الله واسعة حين أكرمه بنهاية الألم والحياة، وكنا أنا .. وزوجته.. وأنت.. في المشهد الأخير، ونظرات عينيه التي لا يمكن أن أنساها ما حييت.

أما الإشارة إلي مذكراته »عزيزي فريد .. حكيت وبكيت« فيقول عنها اللواء فريد حجاج:
تحمل المذكرات شرائح من وجدان أنيس وتصور عواطفه في مرحلة حيوية من حياته، يمتزج فيها الحب بالألم، والفكر بالفلسفة، وأدب الرحلات بالقلم الخيالي، بحكمة الأيام والتحولات، ورؤية الآخر وموقفه.
وهذه المذكرات الخاصة جدا، فيها البوح علي الورق بلا قيود، يخاطبني فيها بعبارة »عزيزي فريد..« وهي عبارة فيها ألفة ومحبة ودفء، كان يعتبرني الصدر المفتوح الذي يستوعب فضفضته. كما كان لي الملجأ الأخوي طوال عشرة العمر التي لا لا تهون .. ولن تهون، ولا ينبغي أبدا.. أبدا !.

واليكم باقة من هذه الدموع والآهات والتأملات:
عزيزي فريد..
أظن أن الفيلسوف الألماني «نيتشه» هو الذي قال: ليس صحيحا أن المذكرات اعترافات مريحة، ومريحة ليست هي الكلمة المناسبة، ان كتابة المذكرات مؤلمة، ومثيرة للألم، وليس صحيحا أنها تريح.. عندما أتذكر أحول السحاب الي قطرات مطر.. الي دموع.. تعبت في كتابة هذه الرسائل، وقد حققت لي حلما لم أكن أدري أنها في حالة تأهب.. كان القلم قد فقد لون المذكرات.. لكنها راحت تفيض نقطة نقطة.. وصرخات تسونامي.. تمنيت ألا يحدث ذلك، فقد دفنت ذكرياتي داخلي، أرغمتها، أكرهتها علي أن تشجعني لا شعوريا علي أن أنساها.. لم أكن سعيدا (وكنت سعيدا ثم أصبحت تعيسا، وازددت تعاسة!).... والله يا فريد في كل مرة أكتب لك خطايا أقسم بيني وبين نفسي أن يكون هذا هو الأخير.. ولكن أعود اليك والي الماضي والي الناس.. وقد أهلكتني الذكريات والمذكرات..
عزيزي فريد...
من قال إن النسيان نعمة؟ من قال إن الماضي أقوي من الحاضر؟ إن الماضي كان عدما ثم كان حاضرا، ثم ذهب.. مضي.. إذن هذه التسمية ليست صحيحة، نحن نستدعي الماضي فيكون حاضرا، ثم يكون مستقبلا.
قال الشاعر الألماني نوفالس ل «جيته صوفيا» ذات مرة: دعينا نتفق علي أن تكون حياتنا مستقبلا لا ماضي له ولا حاضر، ولنقسم علي ذلك.. وأقسما وقال شوقي أمير الشعراء:
قد يهون العمر إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعا
إن شوقي أراد أن يحصر الزمن في ساعة هي الماضي والحاضر والمستقبل، أراد أن يكثف الزمن وأن يكثف المكان، أو الزمكان - كما قال «أينشتين« الذي لا قلب له، وإنما له عقلان.
عزيزي فريد...
في حمام سباحة لا تظهر إلا رأس! غريق! ليس غرقانا. كأنني والماء الذي حولي لا طعم له، لا هو لذيذ، ولا هو مريح، وإنما ألقي فيه غريق، لا أتحرك، لا أخرج، لا أتمرن، وهذا الماء هو بنج سائل.. تحذيري!
إنني أنسي الأيام والساعات، طول الوقت أسأل: كم الساعة؟ أي يوم هذا؟ وأي يوم من الشهر؟ الأيام كلها متشابهة، ألفاظها مسكنات، لا علاج للألم، ولكن اسكات له، ولي أيضا، وأحيانا أضيف مسكنات قاتلات للألم، إنها تخرس الألم، وتخرسني أنا أيضا.. أريد أن أكتب.. أديني عقلك.. ما الذي يكتبه إنسان إذا كان حبيس العقل والحس.. إذا كان يلقي في حمام ليس عميقا.. لا يغرق، ولكن يجب ألا أبرحه لأي سبب.
وقد حاولت.. فلابد من قوة تمكنني من ذلك.. لا أستطيع.. وأمام هذا العجز فإنني لا أريد.. وإذا أردت لا أستطيع.. وإذا استطعت لا أريد.
يا عزيزي فريد...
صدقني أنا لا أعرف من الذي يكتب إليك.. أنا لست أنا.. ولكن أحرك أصابعي.. والقلم في يدي.. ولكن لست أنا.. إن هذه العقاقير التي أتناولها صباح مساء ألغت دوري، طردتني من حياتي.. لست مطلوبا.. ليس لي مكان.. أي أحد يستطيع أن يحل محلي.. كأنني ذهبت إلي أحد المسارح، وفي يدي نص مسرحي، أرسلوه لي وقالوا: احفظ دورك وتعال..
ذهبنا.. وضاع مني النص.. أضعت النص.. ذهبت.. وليس في يدي شيء.. كل الأيدي ارتفعت في وجهي: أن ليس لك دور.. من الذي أعطاك هذا النص.. لا أعرف.. هل أنا اخترته هل أن اخترعته.. وأحزنني هؤلاء الممثلين والمسرح والمسرحية.. صدقني لا أعرف..!
عزيزي فريد..
دوخة كدوخة المساطيل والحشاشين ولكن لا توجد نشوة.. لا رغبة.. في سماع النكت أو اختراعها.. انها دوخة سخيفة، ثقيلة بليدة، جعلت كل شيء بليدا.
يدق التليفون.. لا أرد.. لأنني لا أريد أي كلام.. ولا أريد أن يكتشف أحد أنني مسطور.. أتلعثم.. وأتلخبط في الكلام.. أتلخبط في التفكير.. ملول.. لا أحب أن أتكلم طويلا.. ولا أحب أحدا يكلمني طويلا..
أنظر إلي الأرقام والأسماء علي شاشة التليفون.. أتحدث.. ولكني لا أريد.. لا أستطيع.. لا أريد أن يعرف أحد حالتي النفسية.. فلا يهم أن يعرف أحد.. حتي أنت..!.
عزيزي فريد...
بدا لي أن أكتب لك هذا الخطاب بالايطالية لتعرف مدي خبرتي باللغة الايطالية.. أنت تعرف السبب..
آه تلك السنوات الذهبية من عمري.. آه.. لا أريد أن أتذكر.. بصراحة تذكرت من أيام وبكيت طويلا.. وأنت تعرف لماذا.. ولكن الماضي يعود ويعود قويا كأنه حاضر مؤلم، كأنه الآن وفي هذه اللحظة.. ولكنني لم أعد أحتمل البكاء..
آه من تلك الأيام، كان كل شيء قريبا.. نتذكر ونحن في روما.. وسفرنا إلي برلين بالقطار انه مشوار طويل وأنت تعرف كيف كنا نجعل النهار قصيرا والليل أقصر.. ونحرك الليل والنهار والساعات.. آه علي تلك القوة وآه من تلك الليالي في القطار.. وبعد أيام نذهب إلي البندقية.. والقطار مؤلم.. ولكن الساعات تهون وتتلاشي تحت عجلات القطار من أجل العيون الجميلة.. وفي البندقية نعرف أين أصدقاؤنا وأين ليالينا وحياتنا.. وهناك أسمع لأول مرة كلمة الموت.. لا أستطيع أن أكمل هذه المأساة.. لا أستطيع.. أنا غرقان.. اعذرني.. لا أغرق لماذا تذكرت كل ذلك.. أستأذنك في أن أتركك بعض الوقت..
لماذا لم أقف معها.. فالحياة لا كانت قبلها، ولا هي بعدها، لقد أخذت حياتي معها، وتركت بقاياي تبكي علي بقاياي.. أعذرني يا فريد.. سوف أكتب إليك متي وجدت ما أقوله، أو ما أستطيع أن أقوله.. ولك تحياتي.
عزيزي فريد..
أنت المسئول عن كل ما أصابني.. أنا غائب عن الحاضر.. غارق في الماضي، وليس في الماضي كله إلا هي.. التصقت صورتها.. انطبع صوتها، لا أسمع سوي لها، لا أريد غيرها، ولا أريد بديلا عنها.. حاولت.. ثم حاولت.. واستطعت.
أنت تعرف كم امرأة عرفت.. كثيرات هنا وفي أوروبا.. كثيرات في كل لغة.. وأكذب لو قلت لك أنني لم أكن سعيدا.. واكتشفت..
أنا كذبت عليهن.. إنني كنت أنشغل بهن لأبعد عنها.. فقد استولت تماما علي كل حياتي وأريد الهرب منها.. انها بعيدة جدا.. قريبة جدا وتعبت يا فريد.. وعدت إلي ايطاليا.. تماما كالحاج إلي الأماكن المقدسة.. مشيت في نفس الطريق.. وجلست في نفس المكان.. وبكيت في كل مكان..
في نفس الساعة من كل يوم.. تماما مثل يوم قابلتها.. نفس الساعة.. نفس الطريق.. ونظرت ورائي.. وعبرت الشارع.. وجلست علي المقهي فوجئت واحدة تجلس علي نفس المقعد، فظللت واقفا.. لا أعرف كم من الوقت.. أن هذه السيدة أكلت وشربت ودخنت.. وجلست تقرأ الصحف.. ثم نهضت بسرعة.. جلست في مقعدها.. مع أن المقاعد كلها خالية.. وأبدت دهشتها.. ولكني لا أسمعها ولا أراها..
آه يا فريد.. محترق أنا.. لمست المقعد بأصابعي.. قبل أن أجلس عليه.. كأنني أقيله بأصابعي.. وجلست.. لا أعرف كم من الوقت.. ونهضت.. وفي نفس الطريق عدت.. ووقفت أمام بيتها..
أستأذنك يا فريد بعض الوقت، فلا أريد أن تسقط دموعي علي الورق.. أعذرني.. لا تؤاخذني، فأنا لا أعرف كم من الوقت سأبقي.. وكم من الوقت أحتاج لكي أستعيد قدرتي علي أن أتحدث إليك.. سامحني..
عزيزي فريد..
كنت سعيدا بقراءة كتب فلسفية.. قرأت لمارتن هيدجر.. وقلبت في كتاب عنوانه (أولاد هيدجر) شيء غريب.. يتهمونه بأنه نازي، وكل تلامذته من الفلاسفة اليهود.. وهم يعلمون كراهيته لليهود.. وتعلقوا به، وتحلقوا حوله، ويشرفهم أن يقولوا إنهم تلامذته..
كم هو شاق.. صعب.. هذا الفيلسوف، إنه بيرث في صخر أبيض، لا تعرف من أين استورده.. إنه فيلسوف عظيم، ومهندس أعظم، وساحر فذ، كيف يستخرج المعاني بعضها من بعض.. طبيعي أنه تلميذ سقراط.. أستاذ الجميع.
وعلي الرغم من أنني مرهق نفسيا وعقليا، فإنني ألجأ إليه، لأنه يجعلني أكد رأسي واعتصرها لكي أفهم ثم أفهم، وهذا يحتاج إلي تركيز شديد، يبعدني تماما عن ذكرياتي الأليمة..
تعرف يا فريد.. عندما تكلمت عن الموت كانت في غاية الصافية والنضارة والسعادة أيضا.. تأملتها.. ولا اختلفت معها.. ولا رأيت شخصا غيرها.. ولا أعرف كيف تقترب هي إلي لساني وأنا أحدثك عن الفلسفة عند هيدجر وهو أبو الوجودية الألمانية والفرنسية والايطالية والاسبانية وأبو د.عبدالرحمن بدوي..
شيء غريب.. وأنا أقرأ نصوصا لابن سينا نشرها أخيرا.. وحدث أن د.بدوي اهتدي إلي تعبيرات فلسفية متبكرة.. هذه المصطلحات تصلح تماما لمعاني الفلسفة الوجودية المعاصرة لقد سبقنا ابن سينا ووجدها قبل أن يجدها هيدجر وسارتر.
الفيلسوف مارتن لوير قال كلاما جميلا عن العلاقات بين الناس، هناك أنا، وهناك أنت، فالعلاقة بيني وبينك غير التي بيني وبين القلم أو الكرسي الذي أجلس عليه، فالعلاقة بيني وبينك اسمها، علاقة، والتي بيني وبين الكتب والقلم والورق اسمها: صلة، ويمكن أن تصبح هذه الصلة علاقة، أو كأن لها معني خاص عندك.
أوضح لك.. المنديل الذي في جيبك.. العلاقة بينكما هي صلة، إلا إذا كان هذا المنديل له ذكري عندك.. إذا كان منديلها.. فليست هذه صلة.. إنها علاقة.. إنك لا تستطيع أن تترك المنديل لأي أحد.. بل أنت تحرص عليه لأن له معني آخر.. لأنه أقوي من المناديل، وأقوي من علاقتي بك.. إنها علاقة أقوي من أية علاقة أخري.. فما بالك إذا كان الذي حولك كله قد جاء منها.. فكيف يكون كل ما حولك علاقات كأنها إنسانية.. بل هي أقوي وأبقي..
قل لي: أعمل إيه؟ إذا كان هذا قلمها.. وهذا ورقها.. وهذا عطرها.. وهذه صورتها.. وهذه هديتها.. حتي القطرة التي أضعها في عيني قطرتها.. كأنني أضع دموعها في عيني.. أطبق عليها ولا أتركها تنزل إلا في منديلها..
لا تؤاخذني.. ابتعدت عن الموضوع الذي أردت أن أكلمك فيه.. وكما تري هي أقوي من كل حاضر..أيا كان هذا الحاضر.. في الأرض أو في السماء..
تذكر يا فريد.. يوم طلبت مني أن تذهب إلي البابا يوحنا الثالث والعشرين، لأنه أحد أقاربها، وقالت: نذهب معا ليباركنا.. تصور أنني صدقت ذلك.. مع أنني كما تعرف أبعد كثيرا عن مثل هذه المعاني.. وذهبت معها.. ورأيتها أجمل من البابا.. ورأيتها ترجع وتقبل الخاتم في اصبعه، ثم سمح لها أن تقبل يده.. وصافحت البابا واقفا.. فهو يعرف أنني من غير دينه.. ولا أستطيع أن أفعل ما فعلته..
واقترب مني البابا.. ووضع يده علي رأسي.. ولا أعرف ماذا قال، وفعل نفس الشيء معها.. وكانت سعيدة مضيئة.. والله مضيئة.. وهي أحق أن تكون البابا.. وأن يتوقع الناس البركات منها.. في تلك الليلة قلت لها أنت البابا وسوف أفعل بالضبط ما فعلته مع قداسته.
ما الذي جعلني أعود إلي ذلك؟ لم تكن عندي رغبة في أن أقول.. وإلي لقاء قريب.
عزيزي فريد..
شيء غريب.. كل معشوقات الفلاسفة دميمات.. أو لسن جميلات.. ابتداء من أستاذ الجميع سقراط.. وأرسطو- حتي سالومي التي أحبها وانهار أمام جمالها وذكائها الفيلسوف نيتشة، وعالم النفس فرويد، والشاعر ريلكه.. كانت جذابة ولم تكن جميلة.. والتي أحبها كيركور الفيلسوف الدانمركي، ليست جميلة ولا ذكية، هربت منه لأنه أجرب.. وزوجة مارتين هيدجر غبية.. والفيلسوف سارتر عشيقته سيمون دي بوفوار..
ليس عندهم وقت للتفكير.. وفي لحظات الضعف يهيمون بهذا النوع من النساء.. شديدة الذكاء.
عزيزي فريد..
حكيت قبل ذلك ونحن جالسان عند نافورة (الطرق الثلاثة) في روما.. عن ذلك المقهي الصغير.. حكيت لك.. ورحت أعيد وأزيد.. وكنت أتصور أنني أوقظك بشدة.. والحقيقة أنني لم أكن أوقظك، وإنما أوقظ نفسي لكي أعيد وأزيد..
ولابد أن تكون أعمي وأطرش.. إذا لم تلاحظ سعادتي.. لايهم ان كنت سعيداً وأنا أحكي هذه الذكريات الأليمة.
أمام النافورة أقسمنا، وظهورنا للنافورة ونلقي فيها عملات ثلاث مرات.. أقسمنا علي الحب حتي الموت.. ووفيت بالوعد حتي موتها..
آه يافريد.. يكفي اليوم أنني غير قادر علي أن أمضي إلي أبعد من هذا..
وإلي لقاء قريب...
عزيزي فريد..
سألتني في التليفون.. ولماذا هذه المدينة بالذات علي الريفيرا الايطالية؟ والآن فهمت فأنا لم أحدثك عما كان هناك في مدينة (بورتوفينو).
يارب ساعدني علي أن أقول..
يارب ساعدني علي أن الذي أقوله يخفف من آلامي وأحزاني..
يارب خفف الأحزان.. فلولاها ما كتبت وما توجوت.. وما بكيت.
وجلست أسأل نفسي: لماذا لم أحدثك ولو مرة واحدة علي مدينة (بورتوفينو) ولا علي رابالوا المجاورة لها.
دموع...

عزيزي فريد..
أنا أحاول أن أجعل خطي واضحاً.. وهذا يلخبطني.. فأنا عادة اكتب بسرعة.. ويقوم سكرتيري بفك طلاسم هذه الألغاز.. ولكني سأحاول أن تكون كلماتي في وضوح المعاني.. سوف أحاول.. وغدا ألقاك.
عزيزي فريد..
في برنامج إذاعي، كان الموضوع عن الجمال.. وسألوني: عن المرأة الجميلة في نظرك؟
وقلت أوصافاً لا أحبها، خشيت أن يكتشف الناس من هي.. تصور!
عزيزي فريد..
والله لولا أمي وخوفي عليها لسافرت إلي ايطاليا.. وتركت مصر - ولكن أن تعرف أمي ومدي حبي لها.. وحبها لي.. لم يمنعني إلا أمي.
وداعا فريد.. أنا عائد إلي ايطاليا.. ولا تشغل بالك وتفكر.. فأنت تعرف لماذا.. جنون!
عزيزي فريد..
أنت تسألني عن الصحة.. وما كان في نيتي أن أحادثك بأسخف كلمة في اللهجة العربية وأقول لك: "كله ماشي"!
ماشي.. مع ان لاشيء يمشي.. السفرجي يقول لك: ماشي، وعامل الاسانسير الذي لايتحرك وتقول له: أين المهندس؟ فيقول لك أي شيء.. يعني إيه؟ تعطي أي أحد بقشيش ويقول لك: ماشي؟!
عزيزي فريد..
كان عندي تفسير سياسي لما حدث هنا وهناك أيضا.. ولكن لا أخفي عليك، لا أجد همة ونشاطا في الكتابة السياسية.. وأنا بعيد جدا حتي لا أري.. ليس لي اعتراض علي شيء.. ولكن دوري الآن أن أقترح.. وقد لا أفعل.. وأفضل قراءة في الفلسفة، فلا أجمل ولا أمتع ولا مائدة مثلها..!
عزيزي فريد..
أي يوم..
ليس عندي كلام أقوله.. الشريط خلص.. أو الشريط لم ينته.. ولكن البطاريات خلصت.. أو البطاريات لم تخلص، والشريط لسه فيه كلام.. ولكن عطل أصاب جهاز التسجيل.. وكله تمام.. أنا موش تمام..
أمارس الكذب الصغير.. تصدق بالله؟
أنا لم أكذب في حياتي كذبة كبيرة.. لم أقل لواحدة: أحبك. مهما طالت العلاقة.. لم أعد واحدة بالزواج.. وأنت تعرف...
عزيزي فريد..
آه لو كان عندي وقت، فأنا ما أزال في أول حياتي الصحفية، وأحاول ولن أمل، ولكن ما الذي أفعله بقلمي، بعقلي، بوجودي كله؟ إنني أعذر شعراء التربادور الاسبان، وكانوا يقفون تحت شباك المحبوبة ليلاً ونهارا، إذ لا ليل عندهم ولانهار، ويتعذبون وقد تطل عليهم المحبوبة، وقد لاتطل، إنهم يحبونها رغم معارضة الاهل وكل الناس، المهم هو الحب من طرف واحد، فما بالك إذا كان من طرفين، حيث الحب يصل الليل بالنهار والشوق والحنين والأنين، لقد كنت في حبي مثل أولئك الشعراء وسوف أترجم ما كتبته بالايطالية في تلك التجربة إلي العربية، أحيانا كنت أحس أن الأرض صارت كوكب آخر يدور بنا حول الشمس وحدنا، لم أكن أريد أن أخرج من هذه التجربة، فأنا ولدت لأعيش.
عزيزي فريد..
أنا لا أعرف متي أكمل هذه المذكرات، أنت تقرأها، وأنا لا أقرأها ولا أجد سببا لذلك، وكان بودي أن أعود إليها لأوضح الحروف، فأنا أحاول أن أكتب علي مهل، وحريص علي أن تكون هذه الرسائل بين يديك واضحة، ولكن يجب أن تعذرني عندما أكتب عنها - بعد موتها - وأتذكر ما جري لي، لا أجدني قادراً علي الكلام، لا أعرف كيف أنا.. كيف تماسكت.. كيف عشت، لن أكتب كلمة واحدة عن زيارتي لأهلها لتقديم العزاء، لا أحد يعرفني، ولكني أعرف الجميع من كلامها عنهم، كان يوماً أسود عندما ذهبت إلي قبرها..
عزيزي فريد..
عندما عدت إلي مصر لزمت الفراش، الأم تسأل وأقول لها المشوار طويل، وتصدقني، وان كانت لاتعرف ماذا تفعل، غير أن تصنع غذاء شهياً وكثيراً، كأنها وليمة، انها تحتفي بابنها الغائب عنها شهوراً طويلة، هي تقول سنوات وتستحلفني ألا أفعل ذلك.. وأقسمت.. وسافرت في رحلتي الشهيرة التي كان من المفروض أن تكون أسبوعاً فاستغرقت سنة إلا قليلاً.. وأنت تعرف أن الصديق كمال الملاخ هو الذي كان يكتب لها في كل يوم خطاباً ثم يذهب إليها ليقرأ الخطاب ولذلك عاشت آمنة مطمئنة علي صحتي.. إلي آخر الأكذوبة.
عاوز أقول لك ماذا حدث في ذلك اليوم الذي لا أطول منه، ولا أوجع، ولكني لا أستطيع ولا أريد، وإنما أحكم نفسي علي نفسي علي سري المكنون في دمي. لا حياة، لاطعم، لالون، لا يوم، لاغد، لا أمس، ولذلك توقف.. تجمد.. مات!
إنني أريد أن أبكي يا فريد، ولذلك أتحدث عنها، انني لم أبك بما فيه الكفاية، لا تجف الدموع، لا أعرف من أين تجيء، ولماذا تطاوعني؟ ولماذا أطاوعها.. الآ تستطيع ان تقول انني مجنون، فالجنون هو أن تتسلط عليك حالة واحدة، وأنا في هذه الحالة لا أحاول أن أقدم تفسيراً أو تعليلاً.. حاولت أنت، أما أنا فقد تعبت اليوم أكثر من الأمس.
إن الفيلسوف "باسكال" هو الذي قال ان للحقب أحكاماً يستأنفها العقل، ولكن يبقي حكم الحس هو الحكم الذي لايقبل الاستئناف.
عدت إلي رسائلها (87 خطابا) اقرأها، وأقبلها، وأشم راحتها، لماذا كان خطك جميلا، ولماذا كانت رسائلك معطرة؟ أوجعت قلبي إلي الأبد، فرأت خطاباتها مائة مرة، لا أريد أن أفرغ منها.. لا أريد ان ينتهي أي شيء يا فريد....
عزيزي فريد..
يامن علي البعد ينسانا ونذكره
لسوف تذكرنا يوما وننساك
ان الكلام الذي يجلوك ياقمر
له صبح متي تدركه أضناك
ان الشاعر الكبير مصطفي صادق الرافعي ينتظر الصباح الذي يخفي هذه المحبوبة.. ياتري هل أبدع هذه الأبيات إلي الآنسة "مي زيادة" التي يحبها، والتي تمثل حوارات بديعة بينهما، وقد أنكرت "مي" هذا الحب، لا من طرفها ولا من طرفه ولكنه ظل يحبها وغيره كثيرون: العقاد، وسلامة موسي وشعراء مصريون ولبنانيون، وعرفت فيما بعد من الذي أحبت، ومن الذي أدخلها مستشفي الأمراض العقلية.. ليس مصطفي صادق الرافعي.
ولكن هذا الحب الرومانسي من طرف واحد هو الذي جعله يبدع: السحاب الاحمر، وأوراق الورد، ورسائل الأحزان، وحكايات وتعبيرات بديعة أخري،
لقد غاب قمري.. أحياناً أتمني أن يطلع عليه النهار، وأحياناً اشتاق إليه.. ويشتاق لي.
عزيزي فريد..
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ما أطول الليل علي من لم ينم
وطال صمتي، ولكن لم أسكت، ما أطول الصمت، علي من لايجد أحدا يقول له.. ولم أجد.. فأنا الذي اخترت هذه الوحدة.
وأغلب الظن أن أكتب لك بعد ذلك، صدقني لو قلت لك إنني لا أعرف لماذا كتبت، ولا ماذا أكتب.. ولماذا لن أكتب لك بعد اليوم..!
وإلي اللقاء عزيزي فريد..
كل شئ لا يزال حيا في بيت أنيس منصور، أشياؤه الصغري وأشياؤه الكبري.
مكتبه الأنيق الذي شهد ميلاد أفكاره ومؤلفاته ومقالاته وإبداعاته، وأنواره لا تزال مضاءة.
مكتبته ذات الخمسين ألف كتاب من لغات العالم الحية، لم تعد موزعة بين الجيزة والهرم، احتوتها بين يديها لتضعها في مكان مناسب يتناغم مع قامة وقيمة صاحبها.
أصداء وجوده لا تزال تعبق في جنبات البيت الجميل والأنيق، قلمه لم يجف مداده، ولن يجف، أوراقه كأنها تنتظر إبداعا جديدة، مقتنياته تتألق في كل ركن، حقيبته المسافرة تشي بأنه ذهب في رحلة جديدة حول العالم، لكن بلا أيام معدودة هذه المرة.
كل هذه المفردات تحتضنها السيدة رجاء حجاج حرم الكاتب الكبير التي عاشت معه وعاش معها 50 عاما من الحب والمودة والرحمة والفكر والسند والعون والمؤانسة والاتكاء المتبادل في مواجهة الأيام وتحولاتها التي لم تنل من هذه العلاقة المتجذرة في أرضية مشتركة من الولاء والوفاء
وقد وصفها بقوله: هي طفلتي وابنتي وامي وزوجتي واختي ومصدر الحياة والحيوية والامل والشجاعة والنور في حياتي
لا يؤنس السيدة رجاء حجاج حرم الكاتب الراحل، شئ مثلما يؤنسها ال 200 ولد الذين هم كتبه، وآخر بسمة في ساعاته الأخيرة من عينيها، وآخر قبلة علي وجنتيه ويديه، وآخر طلعة من محياها الذي كان يحبه حبا جما.
تتذكر ما قاله أنيس منصور عنها:كانت زوجتي أبسط إيمانا وأعمق إحساسا بكل الحقائق المعقدة التي عجزت عن الإيمان بها، وكان القليل من المعرفة الدينية يريحها، فهي اختارت الإيمان، لأنها اختارت الدين، أو اختارت الدين وأكملته بالإيمان به، ولا أعرف حقيقة من أين أتاها هذا الصفاء الروحي والشفافية الدينية؟ إنها تعتمد علي وجدانها، علي ما تحسه مباشرة علي صلتها الله، ووجوده الدائم معها ولها كيف؟ لا أعرف، ولكنها مؤمنة بذلك مستريحة الي ذلك، وطالت مناقشاتها وحيرتي.
رسم أنيس منصور الزوج صورة للسيدة حرمه:»كان لزوجتي دور في ثورة يوليو1952 هي نفسها لا تعرفه، اخوال زوجي، زكريا توفيق وتوفيق عبدالفتاح، من الضباط الاحرار، وكانوا بحاجة للتخفي، فكانوا يملونها المنشورات لتكتبها هي بخط يدها، ولهي لا تدري ماذا تفعل، فقد كانت تلميذة صغيرة، لا هي ثورية ولا عندها فكرة انما كانوا يتخفون من خلالها«. ويقول أيضا:أنا وزوجتي مختلفان في أشياء كثيرة، هي مليئة بالحيوية، ولكن طاقتها ضعيفة، أنا قليل الحيوية، ولكن طاقتي كبيرة، فأنا من الممكن ان أجلس إلي مكتبي عشر ساعات، ولا أتحرك إلا قليلا، أضع كتابا، وأحضر قلما وأكتب، ولكن زوجتي تتحرك وتخرج وتذهب إلي الجمعية النسائية التي ترأس مجلس إدارتها، وتعمل خارج البيت عشر ساعات، ولكنها بعد ذلك ترقد من شدة التعب، أو من شدة الحيوية، وزوجتي اجتماعية، ولست كذلك، ومن الممكن أن اجلس وحدي أياما في البيت لا أري ولا أكلم أحدا ولا أشعر بالوحدة، ولكن زوجتي اجتماعية تقابل وتستقبل. وأنا أتجاهل الواجبات الاجتماعية، وهي اجتماعية جدا، هي صح وأنا غلط، ولكن تعودت أن أجامل في الافراح والمآتم وأن أبعث البرقيات، وأن احمل الهدايا، وأن اشتري للأصدقاء ما يطلبون من الخارج، وكل ذلك لم أكن أعرفه، فالحياة الاجتماعية عندي هي التي عرفتها قبل الزواج، وأمي لم تكن اجتماعية، وتري في الحياة الاجتماعية مضيعة للوقت وانتقاصا للحرية، ثم إن أمي خائفة بتكوينها وسيئة الظن بالناس وبالدنيا، وكانت كل مخاوفها تنصب علي وحدي، وتري أنني مختلف عن إخواتي، وأن لديها شعورا قويا بأنني ولم أسال أمي يوما عن معني هذا الشعور، ومن أين جاء لها وكيف تري أنني الإبن الوحيد أو كأنني الابن الوحيد، ومن هذا الخوف رفضت أن يكون لي أولاد اتعذب بهم كما تعذب أبي وأمي بكل إخوتي، بعض هذه المخاوف قد تورات في الحياة الزوجية، ولكن ليست كل المخاوف، لكن بقي سوء الظن، ولا أزال أفضل الوحدة عن أي نشاط اجتماعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.