فى كتاب «ألف ليلة وليلة» جملة مدهشة تطل كثيرا «هذه الحكاية غريبة وعجيبة، لو كتبت بالإبر على آفاق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر»، هذه الجملة دفعت عبد الفتاح كيليطو الى كتابة «العين والإبرة» على أمل التوصل الى فهم مقبول لها، خطفنى الكتاب الذى صدرت منه طبعة فى القاهرة قبل ربع قرن أو يزيد بترجمة مصطفى النحال. وتتبعت كتابات الكاتب المغربى الكبير حتى آخر كتبه «فى جو من الندم الفكرى» الذى صدر قبل أسابيع، والذى معه تعيش متعة القراءة، أو بمعنى أدق سحر القراءة، كيليطو المولود فى الرباط سنة 1945 من الصعب تصنيف كتاباته، فهو ناقد وفيلسوف وروائى ومفكر، وليس محسوبا على تخصص بعينه، هو صاحب نمط جديد وفريد فى الكتابة العربية، يتجاوز الأشكال التقليدية، هو «سندباد» الذى يأخذك معه الى عوالم الجاحظ والمعرى وابن رشد والحريرى ودانتى وسرفانتس وبارت وغيرهم، حين تقرأ نصوصه النقدية تجد نفسك أمام قصص وحكايات، وحين تقرأ حكاياته تكتشف أنك أمام قضايا نقدية ونظرية تتعلق بالكتابة واللغة والذاكرة والنسيان والهوية والتراث. يستشهد دائما بالمثل الهندى «ان آلهة المعرفة لا تبتسم لمن يهمل القدامى»، وهذ المثل يشكل المرجعية التى يتعامل بها صاحب «الأدب والغرابة» مع التراث، إذ لا يعتبره عائقا حينما نتحكم فيه، لا أن يتحكم هو فينا، حين يكتب كيليطو، يفترض قارئا مدينيا، فضوليا، متطفلا، يمقت المستنسخات ويرتعب من إعارة كتبه، قارئا متسكعا على الضفتين، متنزها بمفرده، يزرع المدينة متوقفا أمام ملصقات السينما ومحال المقتنيات القديمة، قارئا يعتقد أن القدماء لم يقولوا كل شىء، لكنه، لكى يتثبت من ذلك، يعمد إلى دراستهم، لكى يتجنب تكرارهم، نادرا ما يكتب صاحب «الحكاية والتأويل» عن أعمال حديثة، هو يستخدم النظريات الحديثة لقراءة التراث، هو يقرأ ويكتب بالعربية فى النهار وبالفرنسية فى الليل. هو لا يتعامل مع المنهج البنيوى كما يتعامل الآخرون، هو يخضع المنهج للنص، فى كتاب العرب وفن الحكى يشير الى العلاقة بين الكتابة والسلطة، لأن معظم النصوص الكبرى فى ثقافتنا كتبت أو رويت بناء على أمر، وهو يعيد قراءة كتاب كليلة ودمنة، كانت الجملة الأولى فى الحكاية والتأويل «تعمل الحيلة حين تعوز القوة» ويرى صاحب «مرايا القراءة» أنه لما كان الأسد قويا، فإنه لم يكن فى حاجة الى أن يحكى حكاية، ولذلك لا نكاد نعثر فى كليلة ودمنة ولا فى كل نصوص الخرافات على حكاية تأتى على لسان الأسد. لأن الثابت هو أن الحيوانات الضعيفة هى التى تروى الحكايات للأسد، الذى يستأنس بحكاياتها فيؤجل قتلها، هو يرى أن مفهومنا للأدب مفهوم أوروبى، وخصوصا فيما يتعلق بالسرد، وأن الأديب العربى يرى نفسه ملزما بمعرفة الأدب الأوروبى، لأن المسألة بالنسبة له مسألة حياة أو موت، بينما الأوروبى يمكن أن يستغنى عن الأدب العربى بدون خسارة كبيرة، وهذا هو الواقع للأسف، رغم أن الأديب العربى يملك شيئا زائدا، هو يرى أيضا أن وظيفة الأدب هو أن يضع أسئلة تغنى نظرتنا الى العالم، وليس ضروريا أن تكون هناك أجوبة، صاحب حصان نيتشه ضعيف تجاه طه حسين، فبفضله كما اكتشف أن كل شئء مطروح للنقاش. حتى كبار الكتاب الراحلين، طه حسين لم يكن يرحم، ولم يكن يقدس أحدا، حتى الأساطير لم تكن بمأمن منه، ويأسف أن بعد طه حسين لم يعد هناك من يثير الإعجاب، لم يعد ثمة المزيد من الأبطال، لأنه كان يشعر حين يقرأ عميد الأدب العربى أنه أصبح أكثر ذكاء، أحب صاحب «لسان آدم» أيضا توفيق الحكيم بسبب رواية عصفور من الشرق ويقول عنها إنها تركت أثرا عميقا فى نفسه..». أردت أن أسافر مثله الى باريس، وأرتاد المسارح، وأتردد على المتاحف، وأقع فى غرام امرأة فرنسية، فبتلك الطريقة فقط، مثلما تصورت، يمكننى أن أكون كاتبا»، كيليطو يدين بالفضل لكاتبه المفضل بورخيس، وتجد فى أعمال كثيرة له آثار الأرجنتينى العظيم، من خلال شواغله المفضلة : المكتبة، والكتاب الذى لا ينتهى، والمرآة، والبديل ، ويقول صاحب «الكاتب وبدلاؤه». أن كتاباته ساعدته على رؤية الأدب العربى رؤية جديدة، وخصوصا ما كتبه عن الجاحظ الناثر العظيم فى القرن التاسع وخبير التزوير والانتحال فى كتابه بحث ابن رشد، وأيضا الشاعر العظيم المعرى فى القرن الحادى عشر، ويرى المغربى الكبير أن بورخيس يشترك فى كثير مع المعرى، فى ارتباط كليهما بالأم، وكذلك فى الفزع من الإنجاب والتناسل، رغم إنجازه الكبير وثقافته الواسعة وإجادته أربع لغات وشهرته العالمية كأحد أنصع عقول هذا الزمان يعترف بمحدودية قراءاته بل انه يسمى نفسه «أديبا ناقصا» لماذا؟ .. لأنه لم يطلع على الكتب الأربعة التى وصفها ابن خلدون بأصول الأدب العربى القديم : أدب الكتاب لابن قتيبة، والكامل لابن المبرد والنوادر لأبى علي القالي والبيان والتبيين للجاحظ .. والأخير هو الكتاب الوحيد الذى اكتفى بقراءته، عبد الفتاح كيليطو وجه مشرف للثقافة العربية كلها وليس للمغاربة فقط .. وينبغى أن تحتفى القاهرة به ليعرفه المصريون على نطاق واسع لأننا فى حاجة الى صوته العذب .. بعد أن انشغل مفكرونا بالمناصب والاشتباك مع المسائل الآنية التليفزيونية التى أوصلتنا إلى هذا الخواء .