فى حضرة عبد الفتاح كيليطو، الكتب حاضرة باستمرار، بل هى بؤرة الحدث واللحظة المعيشة. ليس فقط لكونه كاتبًا مبدعًا وناقدًا استثنائيًا أثَّر فى حياة قرائه وغير نظرتهم إلى التراث، ودفعهم صوب رحابة التأويل وتعدديته، إنما أيضًا لأنه قارى لا يُبَارى والكتب؛ قديمها وحديثها، مرجعيته الأولى حتى حين تتحدث معه عن الطقس أو الطعام أو السينما. التقيته مؤخرًا فى ملتقى «رحلة المعنى»، الذى أقامته مكتبة تكوين بالتعاون مع الجامعة الأمريكية فى الكويت والمجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب. كنت مشاركة فى الملتقى، وكان هو ضيف الشرف، حيث ألقى محاضرة بعنوان «بحثًا عن المعنى الضائع»، وعُقدت له ندوة عنوانها «نديم شهرزاد»، حاورته فيها الناقد العمانية منى حبراس السليمية. كنت برفقة الروائية الكويتية بثينة العيسى والناقدة العمانية منى حبراس السليمية، حين وصل إلى الفندق قادمًا من روما. أخبرته -بعد التعارف الأولى- أننا التقينا من قبل فى «أخبار الأدب»، على هامش زيارته للقاهرة قبل سنوات. قال إنه يتذكر هذه الزيارة التى تمت بدعوة من المستعرب الفرنسى ريشار جاكمون، وقت أن كان يعمل فى المركز الثقافى الفرنسى، ويتذكر حضوره أحد اجتماعات هيئة تحرير «أخبار الأدب» بدعوة من الروائى الراحل جمال الغيطانى، وزيارته إلى الأهرامات بصحبة الزميل إيهاب الحضرى. فى ختام كلامه معى، ذكر شيئًا عن مرور الزمن، مضيفًا: «مثل كتاب كاتبكم يوسف السباعى»، وانتظر كى أخبره بالعنوان، وحين لم أعرف أى عنوان للسباعى يقصد، قال: «أيام تمر». اسم السباعى ذكره بطرفة: «كتب السباعى رواية بعنوان «إنى راحلة»، وبعد بسنوات كتب صالح جودت «عودى إلى البيت»! فى يوم آخر، وبينما نجلس، برفقة مجموعة من الكتاب المشاركين فى «رحلة المعنى»، ببهو الفندق، انتبه إلى بيت حافظ إبراهيم المكتوب كل شطر منه على حائط من الحائطين المتقابلين: «أنا البحر فى أحشائه الدر كامن/ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى». فقال لى: «شاعركم»! وأضاف أنه شبه منسى اليوم. متسائلًا إن كنا نعرف أنه ترجم بؤساء فيكتور هوجو! كنت قد قرأت لكيليطو، فى «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية»، فى سياق حديثه عن زيارته لإسبانيا ومعه «الأمل» لأندريه مالرو و«لمن تدق الأجراس؟» لهيمنجواى: «أزور البلدان حاملًا معى تصورات أدبية: فى المناظر والمشاهد التى تتبدى لى أبحث بنوع من السذاجة عن ذكريات قراءات». لكن أن أقرأ عن هذا شىء، وأن أراه مجسدًا أمامى فى كل التفاصيل شىء آخر. فعلى مدى الأيام الخمسة التى قضاها فى الكويت، عرفت أن كل شىء، حتى الطُرف والنكات، مستمدة عنده من الكتب: عناوينها ومتنها. الحديث معه أشبه بفعل قراءة، فِعل إثراء. ثمة دومًا إحالات منه إلى أسماء أدباء، وأحداث من روايات، وشخصيات فنية، وأبيات شعر. فى حضرته تتجسر الهوة الفاصلة بين الواقعى وبين الورقى. تأكدت أيضًا، عبر النقاشات التى جمعتنى أنا والأصدقاء المشاركين فى الملتقى به، من مركزية الثقافة المصرية فى تكوينه، فمطربه المفضل، الذى يسمعه يوميًا ويدندن بأغانيه، هو محمد عبد الوهاب. وفى حديثه إشارات إلى المنفلوطى، طه حسين، وآخرين. وهذا ليس مستغربًا، حيث كتب كيليطو فى كتابه «بحبر خفى» أنه، وهو تلميذ فى الرباط، كان يتردد على المركز الثقافى المصرى، وأنه ربما قرأ كل ما ضمت خزانته من كتب. «لكن اللقاء الحاسم فى تكوينى ارتكز بالأساس على مؤلفين اثنين، أحدهما شاعر والآخر ناقد». الشاعر هو محمود سامى البارودى والناقد هو طه حسين. *** مثلما يضيِّق كيليطو المسافة بين الأدب والواقع، فإنه يكاد يلاشى المسافة بين الشفاهى والمكتوب. نسمع كلامه العادى كأنما نقرأ كتابًا من تأليفه. يحدث هذا لأنه يتحدث دائمًا بالفصحى، وبأفكار منظمة مرتبة كأنها مكتوبة ومفكِّر بها جيدًا قبل أن تُنطَق. كما أن كلماته المكتوبة فيها الكثير من حيوية الشفاهي، خطر هذا ببالى فيما أنصت إلى المحاضرة المهمة التى ألقاها فى أول أيام المؤتمر. فى محاضرته، انطلق من جملة فرانز كافكا فى يومياته: «فى أغلب الأحيان، من نبحث عنه بعيدًا يقطن قربنا»، وتوقف عند نص «بحث ابن رشد» لخورخى لويس بورخيس، متسائلًا إن كان بورخيس قد وجد بمحض الصدفة أن قسمًا كبيرًا من المؤلفين، الذين ذكرهم فى نصه هذا، يعانون عاهة أو مشكلًا فى العين، أم أنه كان واعيًا تمامًا بهذا وأن الأمر كان فى حساباته؟ «أنه لكونه لم يعد يبصر، أو ضعُف بصرُه، انتبه بالضبط إلى هؤلاء المؤلفين، وأن اختياره وقع عليهم لملاءمة وضعهم مع المعنى العام الذى قصده فى القصة، أى العمى الذى أصاب ابن رشد أثناء قراءته لفن الشعر، فلم يتبين دلالة تراجيديا وكوميديا، كلمتين تردان كثيرا فى الكتاب». تساءل أيضًا عن سر عدم ورود اسم أبى العلاء المعرى ضمن هؤلاء المؤلفين المشار إليهم، ولماذا لم يشر إليه بورخيس قط، مع أنه من المرجح معرفته به، ومع أن سمات عديدة تجمع بينهما. لم يقدم كيليطو إجابة محددة عن هذا السؤال فى المحاضرة، لكن حين أخبرته فى اليوم التالى أن تساؤله هذا مهم جدًا وأن عدم إشارة بورخيس لأبى العلاء أمر غريب، رجح أن السبب وراء هذا الصمت عن صاحب «رسالة الغفران» قد يكون ولع بورخيس الكبير بدانتى أليجيرى و«الكوميديا الإلهية»، فقد كان ينظر إليها باعتبارها نصًا مقدسًا لا يجوز المساس به. فى المحاضرة نفسها، تحدث كيليطو عن شغف بورخيس باللغة العربية، ومحاولته لتعلمها قبل وفاته: «استوقفتنى لدى بورخيس جملة تقول: بأى لغة يمكن أن يموت المرء؟ وقد مات بورخيس باللغة العربية، لأنه قرر أن يتعلمها فى نفس العام الذى توفى فيه، لأجل أن يقرأ كتابًا واحدًا فى لغته الأصلية هو ألف ليلة وليلة! تعلم العربية ومات قبل أن يقرأ الليالى أو تعلم العربية فمات». الغريب أن رغبة بورخيس فى تعلم العربية وثيقة الصلة فعلًا بالموت، أو بالأحرى وثيقة الصلة ب «العوالم الأخرى» التالية على الموت، فقد ذكرت أرملته ماريا كوداما فى كتابها «بورخيس صانع المتاهات» أنه أراد أن يتعلم اللغة العربية قبل أن يرحل عن هذا العالم حتى يتمكن من قراءة «ألف ليلة وليلة» بلغتها الأصلية فى العوالم الأخرى!. *** فى الندوة المخصصة لحوار أجرته معه منى حبراس السليمية، وفى معرض حديثه عن الأدب العربى مقارنةً بالأدب الغربى، طرح كيليطو سؤالًا مفاده إن كان الكاتب الغربى قد ترك للكاتب العربى شيئًا ليضيفه؟ وكانت إجابته أن الكاتب الغربى كتب كل شىء تقريبًا، وأن الإسهام الذى يمكن للكاتب العربى إضافته، سيكون عبر بوابة التراث. وذكر أيضًا أنه حين يكتب بالفرنسية، تُترجم أعماله على الفور إلى العربية، فى حين أنه حين يكتب بالعربية، قد تتأخر ترجمته إلى الفرنسية وغيرها من لغات أوروبية وقد لا يُترجم على الإطلاق. وأكد على مركزية الترجمة وأهميتها اليوم، فكثير من الكتاب يتباهون بعدد اللغات التى تُرجِمت إليها أعمالهم، هذا بخلاف أنهم يُهتم بهم فى ثقافاتهم الأصلية إن نجحوا واشتهروا فى الغرب، وحتى بورخيس حدث معه هذا. وحين سألته السليمية عن سبب عدم اتباعه لمنهج محدد فى كتاباته، أجاب بأنه ليس قادرًا على تأليف كتاب بمقدمة وخاتمة وبينهما بحث مستفيض لموضوع ما فى فصول متراصة البناء. وأن ذلك كان يقلقه ولم يتجاوزه إلّا حين انتبه إلى أن ما كان يعتبره عجزًا، يمكن أن يجعله موضوعًا رئيسيًا لمؤلفاته.وأضاف أن الهوس بالمنهج مبالغ فيه عربيًا. وفى الحوار نفسه، فاجأنا كيليطو بقول إنه لا يقرأ الكتب بالترتيب، بل يختار منها أجزاءً تروقه، وقد يبدأ قراءة كتاب ما من خاتمته. ثم أضاف «يحدث هذا حتى مع الروايات»! بالنسبة لى، كان كيليطو منذ قرأت «العين والإبرة» فور صدور طبعته العربية، وسوف يظل القارى الأمهر، لكن أعترف أن تصريحًا كهذا ترك فى نفسى إحساسًا أقرب إلى الخذلان، قلت فى سرى، بينما أستمع إليه، ليست هذه بالطريقة الملائمة للقراءة عامةً، ولقراءة الروايات خاصةً. ثم حدث أن استعدت فى ذهنى فقرات من كتبه، وحضرتنى بعض من تأويلاته النابهة، وفى الحال فطنت إلى أن القراءة ليست بطقوسها ولا بطريقتها، إنما بالأساس بما نستخلصه منها، وبكيفية تفاعلنا كقراء مع ما نقرأ، وبمدى ابتكاريتنا فى تأويله. *** فى زيارة لمكتبة «تكوين»، وردًا على سؤال ما الكتاب الذى يختار الاحتفاظ به لإعادة قراءته مجددًا؟ أجاب بأنه رواية «موبى ديك» لهرمان ميلفيل. قد يفترض البعض أن إجابته على سؤال مماثل سوف تنحصر فى «ألف ليلة وليلة»، غير أن قارى كيليطو المدقق يدرك أنه على الرغم من مركزية الليالى عنده، إلّا أن قراءاته متنوعة بما لا يُحصى، و«موبى ديك» فى القلب منها. فى «أنبئونى بالرؤيا» مثلًا، اختار جملة «موبى ديك» الأولى: «سَمُّونى إسماعيل» مفتتحًا لكتابه، وتوقف مرارًا لتأويل تلك الجملة الثرية والحبلى بتأويلات لا نهائية، هذا بخلاف أن حفيده اسمه إسماعيل محبةً فى الرواية، وراويها. بينما نتكلم عن التراث العربى وكيفية استلهامه إبداعيًا، أخبرته أننى مدينة له ولبورخيس لأنهما من فتحا عينى على جماليات الأدب العربى القديم، وألهمانى زوايا جديدة لتذوقه والغوص فيه. فاجأنى بقول إنه بدوره مدين لبورخيس فى هذا الصدد، فالكاتب الأرجنتينى أضاء له الكثير من المناطق المعتمة والمنسية فى تراثنا. من جانبه، أخبره الناقد البحرينى نادر كاظم أنه مدين له لأنه لفت نظره، عبر كتاباته، إلى أهمية المقامات، لدرجة أنه (أى كاظم) اختارها موضوعًا لرسالته للماجستير قبل سنوات. الطريف، أنه على مدى أيام الملتقى، كان كيليطو قد ردد مازحًا أكثر من مرة أنه لم يقابل فى حياته قارئًا للمقامات، فالمقامات نصوص لا يقرأها أحد، بحيث يُخيّل إليه أنه اليوم قارئها الوحيد، وأنها أُلّفت من أجله. بعيدًا عن مقروئية المقامات، سألته عن سر تميز مفكرى دول المغرب العربى فى دراسة التراث العربى ومقاربته من زوايا مبتكرة، فابتسم ابتسامته الخفيفة، وسألنى عن أى مفكرين أتحدث؟ وحين أجبته: أنت وعبد الله الشيخ موسى من تونس، وجمال الدين بن شيخ من الجزائر، على سبيل المثال لا الحصر. رد ب : نعم، عبد الله الشيخ موسى وجمال الدين بن شيخ باحثان مهمان. للمرة الثانية، يبعد نفسه كأن المديح لا يشمله، بل يقتصر على الآخرين فقط. الإشارة إلى عبد الله الشيخ موسى، أعادتنى إلى كتابه «الكاتب والسلطة»، الذى كان المترجم القدير بشير السباعى قد ترجمه عام 1999، وتناول فيه الشيخ موسى بالنقد والتحليل «مرايا الأمراء»، ذلك النوع الأدبى المختص بتقديم النصيحة للحكام، وإرشادهم إلى كيف يمكنهم أن يحكموا ويسوسوا الرعية. خلال كتابة «جبل الزمرد»، وفى غمرة انغماسى فى قراءة «ألف ليلة وليلة» والكثير مما كُتِب عنها، لازمتنى فكرة مفادها أن «الليالى» معادل إبداعى لمرايا الأمراء، وبالتالى فهى معادل أكثر تركيبًا وفنية، وبما أنها ابنة القريحة الشعبية، فهى على العكس من «مرايا الأمراء» الرسمية، تعكس صورة أكثر حيوية للمهمشين (للشعب بلغتنا المعاصرة؟) ولا تظهرهم كهوام أو كقطيع ينتظر أن يُسَاق من حاكم أو ولى. شهرزاد، فى هذه الحالة، هى الكاتب/ المثقف الناصح للحاكم، لكن بدلًا من أن تدون نصائح وقواعد مباشرة، تختار أن ترتدى عباءة الفنان/ القاص الذى يروى قصصًا تقدم العظة والعبرة بالإيحاء، قصصًا تنتظر عصا التأويل السحرية كى تبوح بمكنونها. ووفق هذه الرؤية سألت صاحب «العين والإبرة»: أهى مجازفة كبيرة إن اعتبرت «ألف ليلة وليلة» معادلًا إبداعيًا ل «مرايا الأمراء»، بالنظر إلى شهرزاد فى علاقتها بشهرزاد باعتبارها المثقف فى علاقته بالسلطة؟! فأجاب بأن هذا أمر وارد، حيث إن العلاقة بين شهرزاد وشهريار تعكس، بشكل ما، علاقة المثقف بالسلطة. فما لا ينتبه إليه كثيرون أن شهرزاد كانت قد قرأت 1000 كتاب قبل زواجها بشهريار، ومن هنا يمكن النظر إلى «الليالى» باعتبارها الكتاب الأول بعد الألف، أى أن «ألف ليلة وليلة» تعنى أيضًا «ألف كتاب وكتاب». *** فى مقالها «حاملو الحكاية» المنشور فى «لندن ريفيو أوف بوكس» بتاريخ 17 أبريل 2014 عن كيليطو، تتوقف الكاتبة والباحثة البريطانية مارينا وارنر، أمام ثنائية اللغة والثقافة عنده، حيث ينهل من الثقافتين العربية والفرنسية معًا. تكتب فى نهاية مقالها: «يعنيه مالارميه، بالقدر نفسه تقريبًا الذى يهمه المعرى فيه؛ طائر بجع مجمد فى الثلج رمز يماثل فى قوته لديه جملًا محملًا يخطو فى الصحراء». بهذه الكلمات تضع وارنر يدها على مكمن قوة ناقدنا الكبير المتمثل فى انفتاحه على ثقافتين عريقتين ووصله بينهما، ولن يخفى على القارى المتابع لكيليطو أن مؤلفة «السحر الأغرب: المدن المسحورة فى ألف ليلة وليلة» تشير هنا إلى ما سبق وكتبه فى «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية» فى فصل «الجمل وطائر البجع»: «يحيل لفظ العقل فى اشتقاقه إلى العقال والرباط. وهكذا يبدو العقل لجامًا وطوقًا. ترتسم، والحالة هذه، صورة طائر البجع لمالارمى، سجين الثلج، وهو يحرك جناحيه للتخلص منه بلا جدوى، أو ترتسم الصورة الأكثر تواضعًا للجمل المقيد مخافة أن يتيه فى الصحراء على هواه. نظرًا لارتباطى باللغة فها أنا بالضرورة مشدود إلى أرض، وها حركاتى محدودة بالفضاء الضيق الذى من نصيبى. وبما أننى أدور فى حركة مفرغة فى حكاية لغتى، فأنا أتأمل الآفاق البعيدة، وذاك اللا تناهى الذى ليس فى مقدورى أن أبلغه. قد يقال لى: لك لغتان، ونوعان من الإكراهات: فبما أنت مغاربى، وبما أنت عربى، فأنت إلى حد ما جمل مضاعف، أو إن شئت، جمل مرفق بطائر البجع».