لم يكن الاحتفال بعيد ميلاد الرئيس جمال عبدالناصر مناسبة للنفاق بالنسبة لمحمد حسنين هيكل، لسبب بسيط أن عبدالناصر نفسه كان قد توفي قبل أشهر، فكانت مناسبة للتحليل والتفكر حول أحوال مصر المحروسة ورئيسها السابق في ذلك الوقت، بحثا عن معرفة أين تقف البلاد في مجتمع دولي متلاطم، بعد هزيمة لم تتجاوزها مصر وقتها. وفي حوار مهم أجراه الكاتب الكبير حسنين هيكل مع أديب فرنسا الكبير "أندريه مالرو" ونشر في 15 يناير سنة 1971 بمناسبة عيد ميلاد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر الذي تصادف أنه أول عيد ميلاد لزعيم القومية العربية بعد وفاته فجأة في 28 سبتمبر من العام السابق، تحدث هيكل في المقال الذي نشرت مقدمته في الصفحة الأولى لجريدة الأهرام ووصف مالرو بأنه القمة الباقية وربما الوحيدة من جيل الشوامخ الذين عاشوا المعاناة الفكرية الكبرى فيما بين الحربين العالميتين وبعدهما، وأنه من جيل "سافروا بالأحلام مع النجوم وعادوا باليأس المحترق مع الشهب". مالرو له قصة اسمها الأمل قال على لسان أحد شخوصها، "إن الشجاعة وطن" ذكرها هيكل وهو يقدم الأديب الفرنسي الكبير "كان مقاتلا على الدوام، كان يقاتل بالفكر وبالتجربة، وسجَّله في الصين وفي الحرب الأهلية الاسبانية وفي مقاومة الاحتلال النازي لفرنسا شاهد على ذلك". روى هيكل في الحوار الذي نشرت بقيته في الصفحة الثالثة أنه سبق مالرو إلى مطعم لاسير في العاصمة الفرنسية باريس، ولاحظ أن مالرو ينادى مسبوقا بلقب الوزير فقال له "أتصور أن اسم مالرو أكبر من صفة الوزارة" فرد الأديب الفرنسي "الوزارة هنا بالتقاليد حكم مؤبد هي الأخرى، إذا أصبحت وزيرا ولو ليوم واحد، ظل اللقب معك إلى اليوم الأخير". استأنف مالرو من كلمته الأخيرة، وسأل هيكل إن كان موجودا وشهد اللحظة الأخيرة لصديقه عبدالناصر، ثم تأسف مالرو أنه لم يشهد اللحظة الأخيرة لصديقه الجنرال شارل ديجول زعيم فرنسا". نقل مالرو حكمة قالها الزعيم السوفيتي ستالين لديجول "ياصديقي الجنرال مهما فعلنا فإن الموت هو المنتصر الأعظم في النهاية". تحدث هيكل ومالرو عن صديقيهما ناصر وديجول وكيف أنهما لم يلتقيا برغم قيمة كل منهما في العالم والأهمية الإنسانية والسياسية للقاء الذي لم يتم بين الزعيمين الذي قال مالرو "إن كليهما كان تجسيدا حيا لأمته في فترة من الفترات المهمة في تاريخها، وكلاهما استطاع أن يجسد شخصية بلاده في وقت محنة". مضى مالرو يتحدث عن أوجه الشبه بين شارل ديجول وجمال عبدالناصر شارحا: ديجول بعد استقلال فرنسا سنة 1940 بعد استسلامها للنازي وعبدالناصر بعد حالة الضياع التي كانت فيها مصر سنة 1952 وبعث الروح في أسرته، قام كل منهما من وسط الأنقاض رمزا للبعث، وكلاهما في خط عمله السياسي تمرد على القوى الغالبة في عصره، وتمسك بمنطق الاستقلال وباختياره الحر وفي ظروف صعبة اختار وطنه. كان الاختيار المطروح أو الشائع في عصر ديجول، وعبدالناصر هو الاختيار بين أمريكا وروسيا، وضع الاختيار أمام ديجول فقال فرنسا ووضع الاختيار أمام عبدالناصر فقال مصر. يستطرد مالرو: كلاهما (ناصر وديجول) كان طويل القامة معنويا، بحيث كان قادرا على الارتفاع فوق الصراعات ليكون حكما فيها، وكلاهما كان لديه حلم شبه مستحيل، ديجول وحلم الوحدة الأوروبية، وعبدالناصر وحلم الوحدة العربية..الأزمة في حلم الوحدة لديهما أن أسبابها موجودة ولكن تنفيذها صعب. يضيف مالرو: الوحدة الأوروبية لا يمكن تحقيقها بغير فرنسا ولا يمكن تحقيقها بفرنسا لأنها ستبدو سيطرة فرنسا على أوربا، والوحدة في العالم العربي لا يمكن تحقيقها بغير مصر ولا يمكن تحقيقها بمصر لأنها ستبدو سيطرة مصر على العالم العربي. حجم فرنسا في أوربا ومصر في العالم العربي، يحتم أن يكون لكل منهما قيادة الوحدة الموعودة، ولكن هذا الحجم نفسه، يقف بالمرصاد دون الحلم.. السبب هنا يتحول إلى عائق. تدخل هيكل ليختلف مع مالرو في نقطتين: الأولى عن القامة المرتفعة فوق الصراعات فعبدالناصر كان ذا قامة مرتفعة لكنه لم يكن فوق الصراعات ليكون حكما عليها، فقد كان حكمًا في الصراع الطبقي بمصر، وكان عليه بحكم الأوضاع والالتزام الفكري لأي حاكم وطني في مصر أن يقف ضد طبقة، وكان عليه بعد ذلك أن يحرك الصراع الطبقي نحو العدل الاجتماعي وهو مطالب في الوقت نفسه بأن يحكم فوق كل الطبقات ولم يكن يستطيع أن يكون حكمًا محايدًا كديجول. يؤكد هيكل أن المعضلة التي كانت أمام ناصر أن ينحاز وفي الوقت نفسه حاكما للجميع، أن يحاول إيجاد صيغة لهذه المعادلة الصعبة حين تحدث عن تصفية امتيازات الطبقة، وفرق بين ذلك وبين تصفية الإنسان في هذه الطبقة. والنقطة الثانية التي اختلف فيها مع الفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو هي مسألة الوحدة، حيث فرق هيكل بين الوحدة الأوروبية باعتبارها ضرورة سياسية واقتصادية، وبين الوحدة العربية باعتبارها واقع تاريخي وضرورة. التقط مالرو طرف الحديث ليتحدث مع هيكل عن ما رآه أوجها للشبه بين مصر وانجلترا، حيث فصل بقوله: مصر وانجلترا تعرضتا عبر التاريخ للغزوات والهجرات ولكن بقي في كل منهما شيء داخلي يخصه لا يشترك فيه من القريبين منه عبر عوازل رمال الصحراء أو أمواج البحر. يدلل مالرو على ما يعتبره خصوصية مصرية: إنني أختلف مع الذين يقولون إن عبادة آمون في مصر القديمة كانت عبادة قرص الشمس، إن قرص الشمس كان مجرد رمز للمطلق واللا متناهي.. هكذا تصوروا الإله. يضيف: على التماثيل الشامخة في صعيد مصر وعلى وجوه البشر هناك أقزام بجانب التماثيل العملاقة وقفت مرات أتأمل التعبير على الوجوه، من وجه ملك على تمثال إلى وجه فلاح وراء المحراث، هناك تعبير خاص لم أستطع أن أنفذ إلى سره، ماذا يقول هذا التعبير بالضبط؟ التمثال الضخم للملك العملاق لايفصح، والفلاح وراء محراثه لا يقول كل مافي قلبه، أحدهما سر ضائع في التاريخ، والثاني سر مغلق في ناحية منه، وهو بهذا يحافظ على وجوده خلال كل ماتعرضت له مصر. جاء الغزاة وذهبوا ووفدت الهجرات ومضت، لكن روح مصر وشخصيتها بقيت هناك. في حضارات أخرى خلقوا جمال الفن، وأما عندكم فقد كان هناك سمو الفن. تناقش هيكل ومالرو واختلفا حول سبب انتشار الإسلام في مصر، إذ رأى مالرو أن "الإسلام انتشر في مصر بعد الخلافة حينما أصبح الخليفة بالسلطة الزمنية والروحية في يده فرعونا يلبس عمامة بدل التاج".. ورد هيكل بأن الإسلام انتشر بسرعه في شبه الجزيرة العربية وكان الناس هناك قبائل لا يبحثون عن فرعون يمثل سمو الروح. يعتبر مالرو أن الذات المصرية حافظت على نفسها وعلى أعماقها: كانت مصر أحيانا تنهزم بجيوشها ولكنها لم تفقد روحها، لأنها سألت نفسها ماذا يريد هؤلاء الغزاة؟ السلطة فليأخذوها! يريدون الضرائب فليحصلوها! ولكنهم لم يقتربوا من أعماق الذات المصرية التي تقوقعت على نفسها. كل الغزاة بهذا الشكل في تاريخ مصر لم يكونوا يمثلون شيئا، كانوا يمثلون الظلال ولم يكونوا يمثلون الحقيقة الباقية. انتقل حوار هيكل مع مالرو للحديث عن أمريكا وإسرائيل، حيث رأى الأديب الفرنسي "أن مشكلة أمريكا أنها سادت العالم بغير قصد، الإسكندر الأكبر كان يريد أن يسيطر، قيصر كان يريد أن يسيطر، نابليون كان يريد أن يسيطر، لكن أمريكا كانت تريد أن تبيع للعالم ماكينات خياطه وفجأة وجدت نفسها تسيطر على العالم. أدلى هيكل برأيه: هناك حلم أمريكي يصعب تحديده بل ويصعب الإمساك به على حالة واحدة، مبادئ ويسلون بعد الحرب العالمية الأولى ثم العزلة بعدها. مبادئ روزفلت في أثناء الحرب العالمية الثانية ثم الاندفاع إلى الاستعمار الجديد بدلها. يصعب تحديد الحلم الأمريكي ويصعب الإمساك به. يضيف هيكل مخاطبا مالرو: هذا الهبوط والصعود يذكرني بنموذج صارخ، هل تذكر زيارتك لأمريكا في عهد جون كيندي وزوجته جاكلين تقف بجوارك تضوي تحت الأنوار الباهرة وتتحدث إليك عن الثقافة. بعدها بسنوات كانت جاكلين كيندي إلى جانب أوناسيس تعد ملايينه. (تزوجت أرملة كيندي من المليونير اليوناني أوناسيس بعد اغتيال زوجها بعدة سنوات). ذهب الحديث بين الرجلين عن نيكسون وجونسون رئيسا الولاياتالمتحدة السابقين في تلك الفترة حيث قارن مالرو بين لقاءه بنيكسون قبل السلطة وبعدها: اختفى الانسان الذي كان في مقدوره أن يحلم وبقي الموظف لدى الظروف ولدى أجهزة السلطة المستمرة، يبقى اعتقادي دائما أن الذين يشعرون بحركة التاريخ هم وحدهم الذين يستطيعون توجيهها، واستطرد مالرو "السلطة كثيرا ما تغتال الأحلام العظيمة، بعض الحالمين تظل معهم الأحلام الكبيرة في السلطة ولكنهم يصبحون شعراء بغير شعر. عاد مالرو للحديث عن ديجول" ميزة ديجول أنه قادرا على الاحتفاظ بأحلامه، بقي في عمله السياسي، وحتى النهاية، بعد آخر انساني، فلسفي، درامي، سمه كما تشاء، ثم سأل الوزير الفرنسي السابق هيكل فجأة هلى كتبت ماتريد أن تكتبه عن عبدالناصر. رد هيكل" لدي أوراق كثيرة ومذكرات بغير نهاية فقاطعه مالرو: لاتنتظر إبدأ كتابة ما تريده من الآن كاملا ثم تصرف في النشر كما تقتضي الظروف، أنا فعلت ذلك أكتب الآن علاقتي بديجول في جزءين، أحدهما ينشر الآن والآخر يبقى لاينشر حتى أذهب إلى الموت أنا الآخر. ونصح مالرو رئيس تحرير الأهرام وقتها: أننا نستطيع أن نجد حديثا بين شخصية تاريخية وكاتب لكننا لانستطيع أن نعثر على حوار كامل بين شخصية تاريخية وكاتب. لابد أن نترك حوارا بين شخصية تاريخية وبين رجل صنعته الكتابة، ليس لنا أن نحلل أو نقيم وانما نترك مالدينا مادة للتاريخ لكنها ليست تاريخا، غيرنا يجب أن يحلل ويقيم، هذه تجربة تستحق. انتهى حوار هيكل مالرو بالسؤال الذي بدأ به حيث استفهم مالرو فجأة من هيكل" فهمت أنك كنت بجوار فراش عبدالناصر عندما جاءت لحظة الموت"، رد هيكل نعم.. صمت مالرو وهو يتأمل حوارهما وصمت هيكل كذلك.