دخل استاذ العلوم السياسية في جامعة كوينز بكندا الي مدرج المحاضرات ليناقش طلابه فيما تعني ثورة مصر, ولكنه طلب من طلابه اغلاق كتاب التاريخ عن الصراع والسلام في الشرق الأوسط ودعا الي حوار ومناقشات حرة, فقد أدرك الاستاذ أن لاشيء في التاريخ يماثل ما حدث في مصر, في25 يناير.2011 كما أدرك الأستاذ الكندي ان المشهد السياسي في الشرق الأوسط يتم اعادة تشكيله في تلك اللحظة وتحت أعين العالم, ووصف مايحدث في مصر بأنه تحول جيوسياسي لارجعة فيه اجتثت لكل شيء من الجذور بما في ذلك قدرته هو كأستاذ علي تقييم مايحدث أو توقع ماقد يحدث واكد البروفيسور لطلابه أن سياسات الشرق الأوسط تشهد كل20 عاما تحولا نموذجيا واحداث مصر هي واحدة من تلك اللحظات التاريخية. ولكن في تاريخ أوروبا هناك لحظة تاريخية مماثلة وقعت قبل43 عاما, في مايو من عام1968 في مدينة باريس العاصمة الفرنسية, وان لم تكن متطابقة تماما مع ثورة مصر, إلا أن هناك العديد من النقاط التي يمكن أن نجد تشابها بينهما فيها ويمكن ان نقارنهما حتي نفهم الي حد ماحدث هنا. من اهم نقاط التشابه هي صفة الثورة والتي قادها في كلتا الدولتين ما أطلق عليهم شباب الغضب فهم الشباب في باريس وفي القاهرة, الذين أطلقوا وحركوا الثورة, وان كان شباب فرنسا كان لازال في عمر الجامعة بينما شباب مصر كان اكثر نضجا,اذا تجاوز العشرينات والثلاثينات من عمره. والنقطة الثانية كانت مطلب الشباب الرئيسي والذي سمعناه في فرنسا عام1968 يطالب رئيسه الجنرال شارل ديجول, بالتنحي لأن عشر سنوات هذا يكفي حيث ان الرئيس ديجول كان قد تولي السلطة في عام1958, نفس الطلب وجهه شباب مصر الي رئيسه حسني مبارك في2011 يطالبه بالتنحي بعد30 عاما علي السلطة. من ناحية أخري وعلي الرغم من ان كل شيء في سياسات الرئيس ديجول تختلف عن تلك التي كان ينتهجها الرئيس مبارك, سواء في مجالات الاهتمام بالوحدة الإقليمية, ونبذ السياسة الإسرائيلية العدوانية ضد العرب وفلسطين والتمسك باستقلالية القرارات السيادية الفرنسية في مواجهة رغبة امريكا في الهيمنة, إلا أنه من الممكن ايجاد نقاط التقاء بين مبارك وديجول من حيث ان كليهما كان يستمدشرعيته من تاريخه العسكري ومقاومته للاحتلال الأجنبي, فقد كان الرئيس ديجول يستمد شرعيته من تزعمه المقاومة ضد الاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية, بينما كان الرئيس مبارك يستمد شرعيته من دوره في حرب1973 ضد الاحتلال الصهيوني. وفي إدارتهما للأزمة الداخلية تعامل كل من مبارك وديجول بنفس الطريقة, فقد قاما بترك الأمور تتفاقم عدة أيام, وتدخل البوليس بقسوة في مصر, بينما وقعت صدامات عنيفة في فرنسا بين المتظاهرين والشرطة وعندما تصاعدت الفوضي الي أقصي حد لها, ظهر ديجول وقال كلمته الشهيرة: أنا أو الفوضي وهي نفس كلمات الرئيس المصري السابق الذي اكد في حديث له مع القناة البريطانية بي بي سي: ان تركت الحكم فإن الأمور ستتحول الي الفوضي الشاملة. تمسك الرئيسان بالحكم لفترة ما, فلم يتنح ديجول إلا بعد مرور عام علي احداث مايو, حينما طرح استفتاء في أبريل عام1969 واكد انه سوف يتنحي في حالة رفض الاستفاء وقد كان فقد رفض الناخبون الاستفتاء بنسبة تتجاوز52% من الاصوات, وتنحي ديجول في نفس الليلة. وفي مصر تمسك مبارك بالسلطة لمدة18 يوميا, ولكن ضغط الشارع المصري كان كبيرا, وكان بمثابة استفتاء علي وجود الرئيس نفسه, فاضطر الي التخلي عن الرئاسة اخيرا. ولكي نفهم احداث مايو1968 الفرنسية ونقاط تلاقيها واختلافها مع احداث يناير وفبراير2011 في مصر, سوف نتصفح كتاب صدر عام1969 في فرنسا عن مايو1968, تحت عنوان شهر مايو والجنرالللكاتب السياسي جان ريمون تورنو, يتساءل الكاتب كيف استطاع ديجول تجاوز تلك الأزمة التي هزت في30 يوم عشر سنوات من الحكم وفي أقل من24 ساعة كانت الضربة القاضية. ثورة أم أزمة قومية؟ بالنسبة للمحللين السياسيين فان الثورة هي الحركات التي تنجح أما الأحداث. فهي المشاعر المتدفقة التي تتوقف عن المضي قدما.وفي باريس, فجأة في ذلك اليوم من ربيع68, ثار أطفال الغضب حيث تناطح كل شيء:العقائد والاديان, القوانين والسلطات. الاساتذة والتلاميذ الجنرال والمرافقين, ولم يجد الكاتب أي حركة أو ثورة تشبه تلك التي تشهدها باريس في ربيع68, كانت الفوضي كاملة وكان الحماس في كل مكان. بدأت الاحداث بنقد للجامعة, وانتهت بنقد للمجتمع ككل. وبدأت الثورة في باريس ثم انتقلت إلي العديد من مدن فرنسا الاخري, ثم امتدت مثل النار في الهشيم إلي سائر الدول الأوروبية والأمريكية اللاتينية والشرق الأوسط وحتي الهند والصين. في البداية لم يلتفت أحد في السلطة للتململ في جامعة نانتير في ضواحي باريس. بل بالعكس, فقد كان رئيس الوزراء جورج بومبيدو يري ان الوضع عامة في البلاد ينبيء بالنمو والتقدم وعندما اعرب وزير الداخلية عن قلقه ازاء المظاهرات التي بدأت, دعاه رئيس الوزراء الي الشدة والي عدم الإذعان لهم, بل معاملتهم بقسوة تعامل المتظاهرون من البداية بالعنف عندما تدخل البوليس فتحول الاستفزاز الي ردع والردع الي تضامن سائر الطلبة مع حفنة المحتجين.. ومع تجاهل السلطة وقمع الشرطة تجمع الطلبة في نانتير والسوربون يحملون الخوذات والعصي وتحولت احداث الحي اللاتيني الي العنف وهي نقطة اختلاف أساسية مع ثورة شباب مصر الذي أصر من اليوم الأول وحتي اليوم الاخير علي ان ثورتهم سلمية رغم كل محاولات قمعها بالعنف. وكانت الذروة في فرنسا مع اصطدام الطلبة مع الدولة ورأس الدولة الجنرال ديجول الذي لم يقبل التحاور قبل عودة الهدوء والنظام الي الجامعة ولكن الطلبة اكدوا انهم سوف يستمرون في اعتصامهم في السوربون ومدرجاتها حيث تجري المناقشات حول مشاكل الجامعة. ورأي ديجول ان الوضع يعني ان هناك تحديا بين الجانبين وأكد علي انه لن يقبل هذا الوضع ولن يذعن لبضعة طلبة يتحدون العودة الي الهدوء والعمل وتصور المسئولون حول الرئيس ان الاحداث ماهي الا عمليات بسيطة وسوف يتم علاجها بالشدة بالعصي البيضاء والقنابل المسيلة للدموع ورفض ديجول مايقال عن أن الاحداث قد تؤدي الي هز المجتمع بشدة او انها تعني ان هناك أزمة حضارية. لم يدرك المسئولون في تلك الفترة ان الاصلاح كان يجب ان يبدأ مسبقا لتغيير العلاقات بين الاساتذة والطلاب وديمقراطية التعليم ولم يدرك المسئولون وايضا الرئيس ديجول حجم وخطورة مايحدث في الحي اللاتيني واعتبروا المحتجين مجرد طلبة لا يريدون اجراء الامتحانات وان الطلبة الذين يقودون العنف يرهبون زملاءهم الاخرين. وبدأ الجدل حول كيفية ادارة الازمة: البعض يري ضرورة قمعها بالعنف ويري البعض الآخر ان ذلك سوف يغذي التمرد ويعطي المتمردين المبرر لتصعيد الأمور ولكن الهدوء لم يعد بسرعة واقيمت المتاريس في الشوارع واصبح من أهداف الطلبة قلب نظام المجتمع ثم انضم العمال الي الطلبة يطالبون بقلب النظام الاجتماعي البرجوازي. الدولة أم التمرد بدأ بعض المسئولين يشعر بالقلق ويطالب بسحب الشرطة من مواجهة الطلبة والا وقعت مجازر.. بينما التزم البعض الآخر بعقيدة الدولة: يجب علي المتظاهرين الانسحاب من أمام الشرطة الدولة لا تستطيع ترك الشارع للمتمردين وبدأ البوليس في القاء القنابل المسيلة للدموع وهكذا يري الكاتب كيف يكتب التاريخ من احداث صغيرة وكيف تنسج الاحداث الكبري من بضع عمليات صغيرة تتدرج مثل كرة الثلج الي ان تتحول الي انهيار ثلجي وبدأ الحديث عن احتمالات ان تتحول الحركة الي ثورة والثورة الي حرب أهلية. ومثل كل سلطة تريد ان تبرر الثورة فتقول كما قال احد المسئولين الفرنسيين هناك عناصر ثورية وفوضوية تغلغلت بين المحتجين ذي النوايا الطيبة.. هذه العناصر تصر علي ان تنتهي تلك المغامرة في بحر من الدماء.. وعددهم قد يتجاوز أربعة آلاف شخص. دور التقدم التكنولوجي لم يكن اصلاح الجامعة هي المهمة الحقيقية أمام الدولة ولكن في الواقع كانت مشكلة الشباب عامة هي السبب الاساسي في تفجر الثورة: مكانتهم في المجتمع واجباتهم وحقوقهم وايضا توازنهم الاخلاقي نفسه فيري الكاتب ان الشباب عادة يخضع الي الانضباط والجهد كما يخضع لمثل أعلي يحتذي به لفكرة اخلاقية. وفي رأي رئيس الوزراء جورج بومبيدو ان الانضباط لدي الشباب قد اختفي الي حد كبير بسبب دخول التليفزيون والراديو الي المجتمع مما جعل الشباب منذ طفولتهم علي اتصال بالعالم الخارجي لقد أدي التطور في الاخلاقيات الي تغيير العلاقات بين الأهل وأطفالهم وبين الاساتذة وتلاميذهم. لقد ادي التقدم التكنولوجي وتطور مستوي المعيشة الي الغاء مفهوم الجهد. نفس هذا التقدم في التكنولوجيا الحديثة مع اختلاف الزمن هو الذي ساعد شباب مصر علي التكاتف معا لخوض الثورة والتظاهر ضد الدولة. ولكن كان شباب68 من الطلاب الذين وصفهم بومبيدو بأنهم علي عكس العمال والفلاحين لا يعملون بعد وبالتالي يقضون وقتهم في التفكير وطرح التساؤلات واجراء ابحاث والقلق علي المستقبل والبعض الاخر يتجهون نحو الانكار والرفض الكامل والتدمير كان الشعور بالرغبة في التدمير ينصب أساسا علي الجامعة ولكن ايضا علي المجتمع ككل المجتمع الحديث والمجتمع المادي وروح هذا المجتمع. ولكن بعكس فرنسا فان شباب مصر كان من الفئة التي بدأت تعمل بالفعل وتدفع ضرائبها وبالتالي فان احساسها بالوطن ينبع من الاحساس بالمسئولية لذلك فلم يتجه شباب مصر الي التدمير بل ظلوا يؤكدون في احلك اللحظات ان ثورتهم سلمية وبعدها عادوا الي الميدان لتنظيفه وهو اكثر شيء يعكس هذا الاحساس الكبير بالمسئولية. كانت الروح التدميرية لدي شباب فرنسا هي السبب في خفوت شعبية الثورة في فرنسا فقد صدمت تلك الأحداث العقلانية لدي الشعب مثل احتلال الجامعات بشكل تمثيلي والفوضي والاسلوب الذي سارت عليه الثورة في محاولة للتشبه بالثورة الثقافية في الصين اثار كل ذلك قلق وتوتر الشعب الفرنسي كما ادي إحراق السيارات الي تحول الرأي العام تماما ضد ثورة الشباب. وعندما امتد التظاهر الي قطاعات اخري مثل العمال والاعلام والصحافة والانشطة الفنية والثقافية عكست فرنسا صورة أخري من العصور الوسطي. ولكن في داخل نفسه كان الجنرال ديجول يدرك تماما ان ماحدث كان: عاصفة لم أكن استطع الإمساك بها. لا يستطيع أحد الإمساك بعاصفة بين يديه. لم يعد لدي القدرة علي السيطرة وشعر المحيطون بالجنرال أن الارهاق زحف اليه ولكنه عاود المقاومة. دور الجيش في فرنسا, كما هو في مصر, أو في أي مكان آخر, دور القوات المسلحة هو حماية الوطن. وواجبها هو عدم الخروج عن الشرعية, والجيش في فرنسا في عام8691 كان يدرك تماما أنه درع الحكومة الشرعية, أيا كانت تلك الحكومة. ولكن في الوقت نفسه, كان يدرك تماما أن عليه تجنب المواجهة المسلحة في الشارع بأي ثمن.. كان من المستحيل علي الجيش أن يتدخل كعنصر أمني بين الفصائل القومية.. وكان قرار العسكريين واحد: في الظروف الحالية, فإن مهمة الجيش لا تخرج عن الردع الثابت.ww القرارات الأخيرة أدت تطورات الأحداث في الشارع الفرنسي, إلي أن أصبح النظام علي شفا الانهيار, وسادت الساحة السياسية دعوات بضرورة رحيل الرئيس ديجول. ولكن ديجول لم يرحل, وقرر رئيس الوزراء جورج بومبيدو الاستقالة من منصبه, في محاولة كما قال الكاتب إلي إحداث صدمة نفسية قوية والعمل علي الانطلاق من أسس جديدة, واختيار رئيس حكومة جديد وتشكيل حكومة جديدة. قرر ديجول البقاء: لن أرحل.. فقد حصلت علي تفويض في الانتخابات الرئاسية, وسوف أستمر في تحقيق مهامي. وفي92 مايو اختفي ديجول عن باريس, مما أذهل الجميع وفتح الباب أمام كل الاحتمالات. وعند ظهوره مرة أخري, بعد42 ساعة, استخدم ديجول شرعيته التاريخية وتحدث إلي الفرنسيين بحزم وقوة, مذكرا إياهم بصوته عبر الأثير ينادي إلي المقاومة ضد الاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية. وأعلن حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية, وكان لصوته في86 تأثير قوي, دفع مئات الآلاف, قد يصل العدد إلي مليون شخص, إلي الخروج في مظاهرة عارمة من ميدان الكونكورد إلي قوس النصر عبر الشانزليزيه. وعادت الأمور إلي طبيعتها تدريجيا, لم يتنح الجنرال ديجول في مايو8691, واعتبر الجميع تغيير المد لمصلحته بمثابة انتصار له, ولكن في حقيق الأمر, فإن أحداث86 كانت بداية النهاية بالنسبة للزعيم الفرنسي.. وبعد أقل من عام, في ابريل عام9691 طرح ديجول علي الشعب في استفتاء عام, مشروع قانون لنقل بعض سلطات إلي المحليات ودمج مجلس الشيوخ مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي, كان الاستفتاء علي سؤالين, ولكن يتطلب إجابة واحدة, وربط ديجول مصيره بنتيجة الاستفتاء, معلنا استعداده للتنحي في حالة رفضه. رفض الناخبون الفرنسيون الاستفتاء بنسبة25,14% في يوم82 ابريل عام9691, وفي الليلة نفسها, بعد منتصف الليل بدقائق, خرج بيان من مسقط رأس الجنرال في كولومبي ليه دوزيجليس يقول: إنني أتوقف عن ممارسة مهامي كرئيس للجمهورية.. هذا القرار سيكون ساريا ابتداء من اليوم في الساعة الثانية عشر ظهرا.