(تصوير: محمود مدح النبي) العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي لطالما طرحت في السنوات الأخيرة قضية "إحياء المسرح" سواء العربي عامة أو المصري بخاصة، مع ما تثيره هذه القضية من حوار متعدد الاتجاهات حول عدة مشكلات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، ولكن تعد التجربة على أرض الواقع أكثر صدقًا في إثارتها من المناقشة المجردة بما تقدمه – التجربة- من مظاهر لأسباب المشكلة وأطرافها. ولعل "مغامرة رأس المملوك جابر" التي قدمتها فرقة كلية الآداب جامعة القاهرة ضمن عروض المهرجان القومي للمسرح المقام حاليًا نموذج لإحدى هذه التجارب. "مغامرة رأس المملوك جابر" التي نشرها الكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس (27 مارس 1941 - 15 مايو 1997) في 1970 كانت آنذاك محاولة للتجريب في شكل جديد للمسرح يحاول تجاوز النمط الإغريقي السائد في محاولة للتعاطي مع الظرف السياسي بآلية نابعة من داخل المشهد السياسي العربي نفسه لا بآلية مستوردة من ظروف سياسية مشابهة في حقبة مختلفة وفي بلد مختلف. يفرق ونوس في مقدمته للمسرحية بين تعريفين لعلهما مختلطان لدى الجمهور العربي وهما "المسرح السياسي" و"مسرح التسييس". ففيما يعد الأول أداة لحشد الجماهير وتعبئتها وهو كما يرى الناقد الراحل د.عبد العزيز حمودة ظهر نتيجة ". . .للموجة الجديدة من الوعي السياسي والاجتماعي الذي اجتاح ألمانيا القيصرية بعد هزيمتها في الحرب الكبرى. . ."، يرى ونوس أن الثاني – أي مسرح التسييس- ". . . حوار بين مساحتين: الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره، والثانية هي جمهور الصالة الذي تنعكس فيه كل ظواهر المجتمع ومشكلاته. . .". ولعل هذه المحاولة من ونوس لا تخلو من تأثر بالدعوة التي أطلقها الكاتب المصري الراحل يوسف إدريس في مسرحيته "الفرافير" التي نشرها عام 1964، والتي دعا فيها إلى ما سماه ب"التمسرح" وأراد فيها – حسبما يورد في مقدمته للمسرحية- أن يعود بالمسرح إلى حالة التمسرح، المستمدة من التجمعات الشعبية القديمة، والتي أطرها الإغريق في إطارهم للمسرح بقواعده التي ظلت باقية حتى الآن، مع محاولات للتمرد عليها. ورغم أن تلك التجربة ليست ابتكارًا إدريسيًا أو مصريًا أو عربيًا خالصًا؛ فقد سبق إليها – بشهادة إدريس نفسه- المسرحي الإيطالي الراحل لويجي بيرالنديللو في تجاربه في الارتجال واستخدام تقنية "المسرح داخل المسرح"، فإن ما سعى إليه إدريس هو "خلق المسرح المصري البعيد عن الاقتباس والترجمة والتعريب". فإدريس يختلف مع كثير من النقاد والمسرحيين – من بينهم على سبيل المثال فاروق عبد القادر في "ازدهار المسرح المصري وسقوطه"- الذين رأوا في مرحلة "نهضة المسرح المصري" على يد كتاب من أمثال: نعمان عاشور وسعد وهبة وغيرهم، مرحلة تمصير للمسرح وطرح مصري خالص للقضايا السياسية والاجتماعية، فيقف صاحب "الفرافير" موقفًا مخالفًا لهم حين يرى أن التجربة ". . . كل ما في الأمر أنها، هذه المرة، نتيجة تأثرات بمدارس مسرحية أوسع، منها المسرح التشيكوفي والأبسني والأمريكي الحديث التأليف أكثر تماسكًا هنا، والشخصيات أكثر مصرية ولكن القالب والموضوع لا يزالان في حدود القوالب المسرحية الروسية أو الفرنسية أو الأمريكية." هذه الرغبة في التعريب أو التمصير لدى إدريس تبدو هي الدافع لدى السوري عبد الله ونوس للخوض في تلك التجربة، التي يعد تدخل الجمهور في الحوار عنصرًا أساسيًا فيها، لتحويل العرض من مجرد طرح أحادي تعبوي إلى حوار مفتوح قابل للتمدد والإضافة، عاكسًا رؤى مختلفة ومشركًا الجمهور في الأمر ليخرج به من موقف "النظارة" المحايدة غير الموجودة بالأساس، كاسرًا "الحائط الرابع" المتوهم. ولكن كما فشل يوسف إدريس في تطبيق ذلك بناءً على موقف المخرج، فإن ونوس رأى أن هذا الحوار لا يزال ". . .صعبًا؛ فمن جهة، هناك التقاليد المسرحية القائمة على إلغاء مثل هذا الحوار. . . وهناك أيضًا – وهذا أهم- طبيعة المتفرجين أنفسهم وموانعهم الداخلية. . .". يمصر مخرج العرض – الذي يدور في مقهى- مصطفى طه بداية المسرحية لا بتحويلها للعامية المصرية فحسب، ولكن أيضًا بتحديث الحوار لجعله مواكبًا لحوارات المقاهي حديثًا بلغة شبابية، مستخدمًا "إفيهات" قد تكون رائجة ومستمدة من "تريند" مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنها، رغم ذلك، يبدو أنها أسهمت في كسر حالة اغتراب المشاهد أمام المسرح بحائطه الرابع، وصنع جو من الألفة – كما يقول ونوس- مستفيدًا طه بذلك من التقنية التي أشار ونوس باستخدامها وهي عدم غلق الستار استعدادًا لبدء العرض، بل جعله مفتوحًا مع خلفية موسيقية تنطلق من راديو بالمقهى دون تحديد موعد دقيق لبدء العرض، الذي يحدده ما يبديه الجمهور من استعداد. هذه البداية التي استخدمها ونوس، و"حدثها" طه، تبدو مفيدة في كسر هيبة الجمهور – إن جاز التعبير- المقبل على عرض تاريخي. تقنية "المسرح داخل المسرح" أو "Meta theater" تعد تقنية مفيدة للغاية في هذه التجربة، بما تقدمه من كسر لحالة الإقناع بأن ما يدور هو حقيقة، وتأكيد على خيالية ما يدور على المسرح. ويبدو اختيار ونوس للقالب مناسبًا لهذه التقنية، ليس كذلك فحسب، ولكن أيضًا مساعدًا على خلق حالة عربية خالصة مفارقة للتجربة الغربية؛ هنا يلجأ ونوس، وكذلك المخرج، إلى استخدام الحكواتي الذي يقدم حكاية تاريخية داخل المقهى. ويبدو أن المخرج انتبه لغياب هذه الظاهرة – ظاهرة الحكواتي أو الراوي الشعبي في المقاهي- في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يجعل تنفيذها بحذافيرها أمرًا غير واقعي، أو اجترارًا للماضي، لذلك يواجه ونوس الراوي، والفتاة معه – التي أضافها طه ربما استجابة للتغير الاجتماعي الذي جعل الفتيات يرتدن المقاهي بكثرة- بتذمر من نادل المقهى: "أنتو هتقلبوا لي الكافيه مسرح؟". يمعن صناع العرض في الاستفادة من هذه التقنيات من أجل كسر حالة الواقعية المتوهمة، من خلال عدة أساليب؛ فبالإضافة لتنفيذ الممثلين لكل شيء على المسرح بدءًا من ارتداء ملابسهم حتى حمل قطع الديكور، تبدو الملابس بشكل متعمد غير واقعية؛ ففيما يرتدي الممثلون أزياءً قديمة تعود للعصر العباسي يرتدون كذلك أحذية قماشية ومطاطية حديثة تعود لعصرنا الحالي. كذلك يخرج الممثلون من مشاهدهم التاريخية إلى ما يدور في المقهى بصورة مفاجئة، كما يخرج المملوك جابر مثلًا من مشهد له مع صديقه منصور ليخبر ونوس الراوي باستيائه وبأنه سيكمل المشهد وحده، أو يخرجهم النادل نفسه بضرب الأرض بصينيته بعد مشهد تراجيدي معترضًا على ما قدموه من "نكد" كاسرًا حالة التأثر من الجمهور بالمشهد المؤلم. بعد كل ذلك يبقى السؤال: هل استطاع صناع العرض، بعد مرور 47 سنة على صدور المسرحية، ومرور 53 سنة على دعوة إدريس في "الفرافير"، أن يكسروا تمامًا هذا الحاجز بين الجمهور والمسرح ليتفاعل الجمهور بشكل مباشر في الحوار؟ الإجابة ليست أن ذلك لم يتم فحسب، بل يحذف صناع العرض – ربما اختصارًا- بعض الجمل التي يعلق فيها المشاهدون في المقهى على ما يدور، والتي تعد مقدمة أساسية وتمهيدًا مهمًا لإغراء الجمهور بالمشاركة. بل وتحذف أيضًا العديد من الجمل التي يتحاور فيها بعض من عامة بغداد على اختلاف آرائهم، والتي يقدم أحدهم فيها وجهة نظر مخالفة للعامة المؤثرين السلامة، والذي تعرض للسجن لتدخله في شئون السياسة. ورغم ظهور بعض بوادر هذه الرغبة في وقوف أحد الشخصيات خارج نطاق خشبة المسرح مثلًا متوجهًا إلى الجمهور مباشرة فإن الدعوة للمشاركة لم تكن فعالة، ويبقى الأمر وكأنه توجه للجمهور من فوق الخشبة، فيما يقف بناء المسرح نفسه حائلًا أمام جزء من الجمهور الأمر الذي يلفت النظر لمسرح الشارع مثلًا الذي يعد مسرحًا نموذجيًا، أو "المسرح الدوار" الذي دعا له يوسف إدريس. يبدو كذلك أن صناع العرض وقعوا في نوع من التنميط أو ال"stereo typing" باستخدام صورة نمطية للخليفة الضعيف المنتصر بالله، الذي يقدمه العرض منحنيًا حتى ركبتيه يسعل كمريض ربو، وكذلك في صورة رجل الدين الذي ينطق بلسان الحكام؛ ففي المشهد الذي أضافه طه على العرض، والذي يصور محاولة رجل الدين لإخضاع العامة والتأكيد على ضرورة الابتعاد عن السياسة، تبدو الخطبة، وربما طريقة الإلقاء، تقليدية للغاية، ربما لا تختلف كثيرًا عن طريقة الفنان الراحل حسن البارودي في شخصية (مبروك العطار) في فيلم الزوجة الثانية للمخرج الراحل يوسف شاهين. يبدو مدعاة للشعور بضياع الوقت وبطء التقدم أن نتحدث عن تجربتين أولاهما خرجت للنور عام 1964 والثانية في 1970 بصفتهما ما زالتا تجربة، رغم أن الأمور لو سارت بشكل طبيعي لكانت هذه التجارب تاريخًا وصار الواقع المسرحي متجاوزًا للقواعد التي أراد إدريس وونوس إرساءها، ولكن ذلك لم يتحقق حتى الآن. فرغم أن هناك محاولات كثيرة للخروج على النمط التقليدي في المسرح، أسهم فيها بشكل كبير الفرق الشبابية، فإن الغاية النهائية وهي خلق حالة "التمسرح" وإشراك الجمهور كفاعل حقيقي مشارك بإيجابية في العمل لم تتحقق، رغم وجود عدد من العروض التي كان من الممكن أن تسمح بذلك وبعضها حظي بشهرة كبيرة، منها على سبيل المثال: "الهمجي"، و"تخاريف" للكاتب لينين الرملي، اللتان قدمهما الفنان محمد صبحي. الحالة التي يعيشها الوطن العربي، ومصر خاصة، هذه السنوات، مع رغبة من الأجيال الشابة في التفاعل مع الواقع السياسي والاجتماعي المعاش قد تكون تربة خصبة لمثل هذه التجربة، فيما يعطي أملًا بأن طرفًا من المشكلة قد يكون في طريقه للحل، فيما يبقى طرف آخر وهو قدرة صناع الأعمال المسرحية على خلق هذا التفاعل، التي ربما تقف في وجهها قيود الرقابة إما الخارجية أو الذاتية. "مغامرة رأس المملوك جابر" من إنتاج فرقة كلية الآداب جامعة القاهرة، عن نص بالاسم نفسه للمسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس، بطولة أحمد مصطفى كامل، عمرو سامي، سعيد سمير، دنيا عبود، يوسف علي، سارة عثمان، عبدالمنعم محمد، أحمد محمد، أحمد سعيد، عماد حمدان، علي معوض، تأليف موسيقي عمرو عبد الحكيم، إيقاع محمد شبل، عود محمد عبد الفتاح، إضاءة محمد عبد العزيز، ملابس فاطمة حيدر، ديكور حسن نبيل، أداء حركي أحمد فؤاد، إعداد وإخراج مصطفى طه. العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي العرض المسرحي - تصوير: محمود مدح النبي