جمعية رجال الأعمال الفرنسية «الباتروناه» واحدة من أهم جماعات الضغط فى العالم وتضم فى عضويتها ممثلى 40 شركة عملاقة تقدم نحو 90% من الناتج المحلى الفرنسى، هذه الجمعية أعلنت مبكرا دعمها للمرشح اليسارى فى الانتخابات الرئاسية إيمانويل ماكرون، وفى الوقت نفسه يقف أعضاء «الباتروناه» بصلابة ضد مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان ذات النزعة القومية. تأييد مجتمع الأعمال الفرنسى يوفر دعما حاسما لماكرون الذى تلتف حوله الآن غالبية القوى السياسية التقليدية فى فرنسا فضلا عن ملايين الفرنسيين من أصول أجنبية ليصبح مرجحا إلى حد بعيد انتصاره فى الجولة الثانية من الانتخابات المقرر إجراؤها الأحد المقبل. فوز إيمانويل برئاسة فرنسا له أبعاد كثيرة داخل البلاد وخارجها وهو يثبت ضمن ما يثبت أن أوروبا ليست أمريكا، ولكن ما يهمنا هنا هو علاقة هذه النتيجة بالصراع الدائر بين مؤيدى العولمة ومناهضيها وهو الصراع الذى تتصارع وتيرته بصورة مزعجة ولا سيما فى الغرب، كما أن فوز ماكرون يدشن لمرحلة اليسار الجديد التى تجتاح أوروبا وأمريكا جنبا إلى جنب مع صعود التيارات القومية. ماكرون حرص طول الوقت على التأكيد أنه ليس يساريا وهو كذلك ليس يمينى النزعة، غير أن عمله مستشارا للرئيس الاشتراكى فرانسوا أولاند ووزيرا فى حكومته يكشف توجهاته السياسية، فمن غير المنطقى أن يعهد الاشتراكيون لمسئول يخالفهم فى التوجه بحقيبة الاقتصاد. ومع ذلك فإن الرجل لا يزال صادقا فى شعاره، فهو لا يمكن أن يحسب على اليسار التقليدى بأفكاره المعروفة فى الاقتصاد التى تعتمد على زيادة الضرائب على الدخل وأرباح الشركات والسماح بقدر أكبر فى عجز الموازنة العامة لتمويل المزايا الاجتماعية وتوظيف المواطنين فى الحكومة، والتضييق على الشركات العاملة فى مفاوضاتها على حقوق العمال، وغير ذلك من بنود الأجندة المعروفة للأحزاب ذات النزعة الاشتراكية فى الدول الغربية التى أدت ضمن أمور أخرى لأزمة تفاقم الدين العام التى تعانى منها معظم الدول الغربية حاليا. إيمانويل ماكرون يمكن أن يكون إذن ناتج مخاض صراعات فكرية تدور فى الغرب وفى فرنسا بصفة خاصة تتمحور حول ما يسمى بمحنة اليسار أو البحث عن يسار جديد يلائم العصر وتطوراته بعد أن أصبحت نظرية كارل ماركس والمجددين اليساريين فى السبعينيات بالية وغير قادرة على التعامل مع متغيرات العصر المتسارعة، وبالتالى انصراف الناس عنها إلى الحد الذى منى فيه المرشح الرسمى للحزب الاشتراكى بهزيمة مهينة حيث تذيل قائمة مرشحى الرئاسة بنسبة لا تتجاوز 6.5 % من أصوات الناخبين. برنى ساندرز منافس هيلارى كلينتون فى الانتخابات التمهيدية الأمريكية وجيرمى كوربنز زعيم حزب العمال البريطانى، وألكسيس تسيبراس رئيس حزب سيريزا اليسارى ورئيس وزراء اليونان، ورجال حزب بودوميوس قادرون فى أسبانيا ، إضافة إلى ماكرون بالطبع يمثلون ميلاد اليسار الجديد فى الغرب، وهى قضية كبيرة ومعقدة يمكن اختزالها فى مساع من اليساريين الجدد لإقناع الرأى العام فى قدرتهم على إدارة اقتصاد السوق والنظام الرأسمالى الليبرالى بكفاءة وتوظيفه فى الوقت نفسه لخدمة الشرائح العريضة من الوطن ورعاية مصالح الفئات الأكثر فقرا. اليسار الجديد لا يرفض العولمة بل يدعمها وهو كذلك يدعم الإبقاء على الاتحاد الأوروبى مع تبنى إصلاحات جوهرية تقضى أو تحد من شكاوى الشعوب الأوروبية من أثر الاندماج الاقتصادى فى حياتهم، وهم فى هذا التوجه يختلفون جذريا عن توجهات اليمين القومى الذى يعد أن العولمة تحقق مصالح الشركات على حساب الاقتصادات الوطنية وأن الاتحاد الأوروبى يدار لصالح الاقتصاد الألمانى على حساب الشعوب، وأن الوظائف تذهب لفقراء الأوروبيين وكذلك للقادمين من وراء البحار، وهو بالطبع مناهض للأجانب ومتعصب للأوروبيين البيض. وقوف الباتروناه خلف ماكرون هو تأكيد جديد على رفض عالم الأعمال للتيارات القومية المتطرفة تماما، كما وقف مجتمع الشركات الأمريكى بقضه وقضيضه وراء المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون ضد الرئيس القومى الحالى دونالد ترامب فى انتخابات نوفمبر الماضى، رغم أنه منهم. القضية الآن أصبحت فى منتهى الوضوح كما هى فى غاية التعقيد أيضا، فالشركات حول العالم ترفض المساس بالمكتسبات التى حققتها مقررات العولمة لأعمالها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهى فى سعيها للإبقاء على مزايا الاندماج الاقتصادى سوف تتحالف حتى مع القوى اليسارية الجديدة بعد أن يئست من قدرة أحزاب يمين الوسط المفضل لديها دائما فى الفوز بثقة الناخبين، وهى فى كل الأحوال سوف تقاتل حتى لا يصل اليمين القومى للحكم، ففى وصوله ضياع لكثير من المكاسب وبوار كثير من الأصول التى أنفقت عليها الشركات الغربية تريليونات الدولارات حول العالم، بينما يراهن اليمين المتعصب على متاعب الشعوب مع تكاليف الحياة والذعر من انتشار المهاجرين، وهذه هى اللعبة التى سنعيشها ربما لسنوات عديدة قادمة .. لكن الانتخابات الفرنسية تمثل درسا نافعا للجميع.