منذ تأسيس الجمهورية الخامسة الفرنسية فى عام 1958 وحتى عشية الانتخابات الرئاسية الفرنسية فى جولتها الثانية، كان السباق الرئاسى الفرنسى يدور بين التيارين الرئيسيين فى الحياة السياسية الفرنسية وهما اليمين الليبرالى واليسار الاشتراكى واللذان تبادل مرشحاهما الفائزان فى هذا السباق موقع الرئاسة طيلة هذه العقود. كان الفقيه الدستورى الفرنسى المعروف لدارسى العلوم السياسية فى مصر «موريس دوفرجيه» قد وصف هذا المناخ السياسى الذى كان سائدا فى ظل الجمهورية الخامسة بالاستقطاب الحزبى أو الثنائية الحزبية التى سيطرت على المسرح السياسى فى هذه الآونة وحكمت تفاعلاتها السياسية والمؤسسية ومخرجاتها وتوازناتها،غير أن هذه الثنائية الحزبية تعرضت للاهتزاز والتآكل على مدى هذه العقود واللحظة الأولى فى تآكل هذه الثنائية الحزبية، وهى اللحظة التى وصفها «دوفرجيه» «بتوازن الضعف» كانت فى النصف الثانى من الثمانينيات عندما فشل الحزب الاشتراكى والرئيس المنتمى إليه فى تشكيل أغلبية نيابية لتشكيل الحكومة، وشكلها آنذاك اليمين الليبرالى بزعامة «جاك شيراك» ثم تكررت مرة أخري. واللحظة الثانية فى انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2002 عندما لم يتمكن مرشح الاشتراكيين «ليونيل جوسبان» من العبور إلى الجولة الثانية فى هذه الانتخابات وخرج من المنافسة بطريقة غير متوقعة، ومنذ عام 2002 وحتى عام 2017 تعرض اليمين الليبرالى للمصيرنفسه عندما لم يتمكن مرشحه «فيون» من البقاء فى المواجهة فى الجولة الثانية لهذه الانتخابات. وتفسير انهيار هذه الثنائية الحزبية يعود إلى عوامل كثيرة، من بينها بل وربما يكون على رأسها ذلك السباق الذى دخل فيه التياران الرئيسيان لتبنى السياسات النيو ليبرالية بدرجات متفاوتة، تلك السياسات التى أفضت إلى تنمية اقتصاد الخدمات على حساب الصناعة التحويلية وتهديد قيمة العمل ونظم الحماية الاجتماعية والصحية وهى المكتسبات التى حرص عليها الناخب الفرنسى وانتشار العمل بعقود مؤقتة وزيادة نسبة البطالة، . ظاهرة «إيمانويل ماكرون» تجئ فى هذا السياق حيث أدرك بحكم سنه وخبرته التى تشكلت فى عالم المال والأعمال والمؤسسة السياسية حاجة الفرنسيين إلى التجديد ويأسهم من الأحزاب التقليدية اليمينية واليسارية وافتقادهم الثقة فى النخبة السياسية التقليدية، وذلك مع فارق يبدو مهما أن ماكرون قادم من المؤسسة السياسية بعكس أقصى اليمين وأقصى اليسار، ابتعد زماكرونس عن اليمين واليسار معا ووضع نفسه وحركته فى الوسط ولحق به بعض من أولئك وهؤلاء أى من اليسار واليمن العديد من الشخصيات والكوادر التى تنتمى للطبقة الوسطى وتنعم بقدر لا بأس به من الاستقرار المادى والوظيفي. بالإضافة إلى ذلك فإن الاستقطاب الجديد فى انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2017 وباقتصاره على مرشحة اليمين المتطرف والعنصرى ومرشح الوسط ساعد ماكرون فى حصد الأصوات الساخطة على صعود اليمين المتطرف دون أن تكون مؤيدة لا لخلفية زماكرونس المصرفية والمالية والمرتبطة بالعولمة ولا للسياسات التى ينوى تبنيها، ذلك أن الناخب الفرنسى هذه المرة كان يواجه اختيارين أحلاهما مر ولكن أحدهما أقل مرارة ويمثله «ماكرون». من معالم هذا الاستقطاب الجديد الناشئ فى الحياة السياسية الفرنسية يبرز على نحو خاص «صراع الهويات» بين هذين التيارين اللذين خاضا انتخابات الجولة الثانية، تيار اليمين العنصرى المتطرف الممثل فى السيدة «لوبن» وبين تيار الوسط الذى يمثل «ماكرون» وكل من هذين التيارين يتبنى مفهوما للهوية الفرنسية مختلفا ومتضاربا فى منطلقاته وسياساته للهوية الفرنسية فى الظروف الراهنة التى تمر بها فرنسا وأوروبا، وهذا الصراع على الهوية ليس حصرا أو مقصورا على فرنسا وحدها وإنما يمتد بطول القارة الأوروبية وعرضها بل والولايات المتحدةالأمريكية ذاتها بدرجات متفاوتة فى هولندا والنمسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من البلدان، وذلك على أرضية الانقسام حول تأييد العولمة أو مناهضتها، وحول آثار العولمة على الصعيد الاقتصادى والاجتماعى والهجرة والإرهاب وما دون ذلك من القضايا. يتمحور مفهوم مرشحة اليمين القومى المتطرف للهوية الفرنسية حول «فرنسا أولا» والأولوية الوطنية الفرنسية» فى العمل والتأمين والصحى وفرنسا المنعزلة والمكتفية بذاتها بعيدا عن أوروبا وبيروقراطية المفوضية الأوروبية فى بروكسل، وكذلك تأجيج الخوف من الهجرة وبالذات الإسلامية والمغاربية على هوية فرنسا المسيحية الكاثوليكية وقيمها وثقافتها والانسحاب من اتفاقية «شينجن» ومنطقة اليورو ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، مفهوم الهوية الذى دافعت عنه مرشحة اليمين المتطرف يعود بعجلة الزمن إلى الوراء إلى فرنسا النقية المغلقة على قيمها وثقافتها واقتصادها القومي. أما مرشح «الوسط» الفائز فى هذه الانتخابات فيرى أن هوية فرنسا تتعزز وتقوى باندماجها فى الهوية الأوروبية وبانفتاحها على الثقافات الأخرى ومن خلال التكامل الأوروبى وإصلاح المؤسسات الأوروبية, وأن الهجرة والإرهاب ليس بالضرورة مرتبطين بالإسلام بقدر ما هما مرتبطان بفشل سياسات الاندماج وسياسات الهجرة والجمود والعجز عن ابتكار الحلول وتجديد السياسات باختصار يرى مرشح الوسط الفائز أن هوية فرنسا جزء لا يتجزأ من الهوية الأوروبية والعالم وأن على فرنسا اغتنام فرصة العولمة وإصلاح مسارها. وأخيرا وليس آخرا فإن الصراع على الهوية يخفى ويقنع اختلافات عميقة خاصة بآثار العولمة السلبية المتمثلة فى البطالة واهتزاز مكانة العمل والنظم الاجتماعية الصحية والتأمينية وسيطرة رءوس المال وتفاقم التشققات الاجتماعية والثقافية، ومن ثم فإن الصراع على الهوية فى هذه الانتخابات يمثل عنوانا مختصرا للخلاف حول فهم وتفسير وتشخيص وحل جميع التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجمة عن السياسات النيو ليبرالية المعولمة، والتحدى الراهن يتمثل فى قدرة الرئيس الجديد على رسم خريطة واضحة لمواجهة التحدى وسوف تتوقف نتيجة هذه المواجهة على طبيعة التحالفات الجديدة والتوازنات التى أسفرت عنها هذه النتائج والانتخابات التشريعية التى تبنتها ومدى تطابق التصريحات مع الممارسة العملية. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد;