صديق لعبدالوهاب يقول له: افتح الراديو يا مجنون! .. اسمع مجدك بأذنيك!
كانت نجاة سببا في شهرة الشاعر الكبير نزار قباني على مستوى العالم العربي غنائيا، بعد أن أطلقت رائعته « أيظن» عام 1960، كان نزار قبل « أيظن» شأنه فى ذلك شأن كل شاعر، حبيس حدود ضيقة لا يتعداها، هى حدود المثقفين وأهل الشعر الحديث، فجاءت دافئة الصوت «نجاة» لتجعل الشرق يرقص طربا بلحن الموسيقار محمد عبدالوهاب لهذه القصيدة، وفجأة بات شعر نزار ضرورة لازمة، يقبل الصبايا والشبان على شراء دواوينه بحماسة، ويمضون الساعات الطويلة فى قراءته. عن علاقتها بالشاعر الراحل نزار قباني، تقول مطربتنا الكبيرة نجاة في حديث قديم لها في مجلة «الكواكب»: « تلقيت يوماً رسالة من الشاعر نزار قباني، الذى كانت تربطه علاقة صداقة بين عائلتي وعائلته، لكنها ربما لم تكن علاقة قوية بسبب بعد المكان، وجدت في ظرف الرسالة ورقة جميلة مكتوبا عليها قصيدة شعرية باللغة العربية الفصحي مطلعها يقول: »أيظن أني لعبة بيديه/ أنا لا أفكر فى الرجوع إليه»، أحسست بعد قراءة الكلمات كاملة، أن هناك كنزاً بين كلمات هذه القصيدة، لكن العثور عليه كان يتطلب صعوبة كبيرة، لكني حقيقة لم أتلق القصيدة بارتياح كبير، لأن مفرداتها صعبة ولم يسبق لي أن غنيت فى تلك الفترة بتلك اللغة، فقدمتها للموسيقار كمال الطويل كي أسأله عنها وعن إمكانية تلحينها، فأجاب مستغرباً: إيه ده.. ومثله فعل الملحن محمد الموجي. وتضيف نجاة: «وبالتالي شعرت بأن الموضوع لن يتم، وقررت أن أرسل القصيدة لصديقي الشاعر إسماعيل الحبروك رئيس تحرير جريدة الجمهورية، وصديق نزار لنشرها في جريدة الجمهورية، تكريما لصاحبها الذي أرسلها لي وخصني بها، وبعد نشرها فوجئت بعبد الوهاب يتصل بي ويقرأ لي القصيدة من الصحيفة ويسألني هل هذه القصيدة لك؟ فقلت له نعم، وكان يريد الاستفسار ما إذا كانت القصيدة قد مرت على أو قرأتها، وسردت له ما جرى، وبعد شهر من هذه المكالمة، نسيت القصيدة وتحرجت من سؤال الأستاذ عنها، وفي أحد الأيام فوجئت بعبدالوهاب يدعوني لزيارته ليسمعني لحن البيت الأول فقط من القصيدة، وخلال أسبوع كان قد انتهى من تلحين الأبيات التسعة الأولى. ثم أمضى فى تلحين البيتين الأخيرين أسبوعين كاملين، ودعاني بعد ذلك لأسمع منه اللحن كاملا، وسلمني شريطا مسجلا بصوته لأحفظ منه، وأثناء تلحينه للقصيدة فكر في تغيير أكثر من كلمة غير مألوفة فى القصيدة، مثل «زنديه» و» دربه» ولكنه وجد حرجا من التصرف فى القصيدة وصاحبها غائب. وتستكمل «رحاب خالد» عاشقة نجاة خيط الكلام، وتقول فى كتابها عن القيثارة الحزينة: أثناء ذلك كان نزار في بكين يعاني الغربة والحيرة، ويكتب إلى إسماعيل الحبروك خطابا يسأله: « ماذا فعلت نجاة بأغنيتي؟ مزقتها؟ ضيعتها؟ أحرقتها؟ لا أعرف! اسألها واكتب لي، لعلها لم تجد الجرأة لتقدمها إلى الناس، أو لعلها لم تجد الملحن الذى يجرؤ على نظم كلماتها»، يرد عليه إسماعيل يبشره بأن نجاة ستغني قصيدته أخيرا فى حفلة العيد، وعندئذ فقط اطمأن قلب نزار، أما عبدالوهاب فقد وضع يده على قلبه!، وقد نصحه بعض أصدقائه، بأن يطلب من نجاة ألا تغني القصيدة فى حفلة عامة فيها ألوان من الغناء الخفيف، لأن الجمهور قد لا يتابعها بالحماسة أو الرضا، ولما حدثها عن مخاوفه، وكانت خائفة أكثر منه، قررت أن تغلب بالاجتهاد خوفه وخوفها، فتبذل فى البروفات جهدا عظيما طوال شهر رمضان، وفى ليلة القدر تسأل الله التوفيق. كواليس حفل «أيظن» فى ليلة العيد الأحد 27 مارس عام 1960 كان مؤشر الراديو في بيوت الملايين مثبتا على صوت العرب، وقد انتقل الميكرفون إلى إذاعة خارجية من مسرح سينما « ريفولي» حيث قدم عبدالحليم حافظ مجموعة من أغنياته القديمة، وأغنيته الجديدة «جواب» قبل قليل، والآن تقدم صباح مجموعة من أغنياتها المعروفة وتختم فقرتها بأغنيتها الجديدة أيضا « الحلو ليه تقلان قوي». بينما نجاة فى الكواليس تتدثر بفراء أبيض، يرتجف تحته ثوب من الساتان القرمزي، وتنتظر دورها بصبر مع الإذاعي جلال معوض، وفى الصالة ينتظرها أكثر من ألفين وخمسمائة مستمع، بينهم السيدة نهلة القدسي زوجة عبدالوهاب، تجلس في الصف الأول وإلى جوارها مقعد واحد خال، فعبد الوهاب يهاب سماع ألحانه عند إذاعتها لأول مرة، وغالبا ما يتراجع عن حضور الحفلات في اللحظة الأخيرة، فيشتري تذكرتين، ثم يرسل زوجته فقط، ويوصي أصدقاءه بأن يستمعوا إلى الراديو، ثم يغلق على نفسه باب حجرته. بكاء عبدالوهاب أثناء إذاعة الحفل وفى الساعة الثانية عشرة كان عبدالوهاب في بيته يروح ويجيئ، وزوجته فى صالة سينما ريفولي تدخن بعصبية السيجارة تلو الأخرى، وأمامها نجاة على المسرح تخطو بحذر وسط التصفيق والهتاف، والجمهور يطالبها بأغنيتها «وحدية» و» أما غريبة» وغيرهما، وبعد المقدمة الموسيقية التى بدت لها طويلة جدا يخرج صوتها كتنهيدات خفيفة مترددة: « أيظن أني لعبة بيديه / أنا لا أفكر فى الرجوع إليه». لا يسمع الجمهور أول كلمات القصيدة جيدا، فتجتهد نجاة لاستعادة أنفاسها الهاربة، وتعيد أول بيت بصوت أوضح ثم تغمض عينيها وتستكمل بقية الأبيات، وتنتهي من المقطع الأول فتبقى عينيها مغمضتين للحظة، ولا تفتحهما إلا على صوت التصفيق الجبار الذى يؤكد لها أن الأغنية ستنجح، فيذهب عنها الخوف، وتعيش الكلمات بكل انفعالاتها، تعاتب، وترجو وتشتاق، ترتعش وتضيئ، والنشوة تهز كل خلية في جسدها، ثم يرقص صوتها فرحا وهى تغني «حتى فساتيني التى أهملتها فرحت به، رقصت على قدميه»، وعند البيت الذى يقول « وبكيت ساعات على كتفيه» تبتل عيونها فعلا بالدموع. وأثناء إذاعة الأغنية أتي نزار براديو ومضى يقلب بالمؤشر علي كل المحطات عله يفلح في العثور علي إذاعة القاهرة، لكنه لم يفلح!، في نفس اللحظة لكن في القاهرة يتصل بعبدالوهاب أحد أصدقائه يقول له: «افتح الراديو يا مجنون! اسمع مجدك بأذنيك»، لكن عبدالوهاب أصر على ألا يسمع إلا في اليوم التالي، وظل طوال الليل إلى جوار التليفون يتلقى تهاني أصدقائه ومعجبيه حتى السادسة صباحا، ثم وجد نفسه يتصل بنجاة يسألها: بتعملي إيه يا نجاة؟ فأجابته بصوت يكاد يلهث من الفرحة: لسه لابسة فستان الحفلة ولم أنم لحظة واحدة من تليفونات المعجبين والمعجبات، فأمسكت نهلة القدسي بسماعة التليفون وقالت لنجاة: تعالي عندنا فورا لنسمع التسجيل معا، وفى السابعة صباحا يستمع عبدالوهاب إلى الأغنية مع نجاة، ثم يبكي وحده، أما هي فقد كانت سعيدة بالمجد الذى ظلت تبحث عنه حتى وجدها أو جاءها طائرا من بكين. تأتي استجابة الجمهور لهذه الأغنية أسرع وأقوى مما قد يتوقع إنسان، فالمستمعون يطلبونها عبر التليفون والتلغراف والبريد، ومؤشر الراديو فى كل بيت يطاردها من محطة إلى أخرى، والملايين يغنونها فى البيوت والشوارع والسهرات بالسهولة التى يغنون بها أي أغنية عامية، وفى كل الإذاعات والصحف العربية تصبح أغنية نجاة هى موضوع كل يوم. رسائل تهديد من نزار لنجاة فى هذه الأثناء ظل نزار في بكين يتلقى التهنئة على أغنية لم يسمعها، فكتب إلى نجاة يقول:»أيتها الصديقة الغالية لا أزال فى آخر الدنيا أنتظر الشريط الذى يحمل أغنيتنا « أيظن»، إنها تعيش فى الصحف، فى السهرات، وعلى شفاه الأدباء، وفى كل زاوية فى الأرض العربية، وأبقى أنا محروما من الأحرف التى أكلت أعصابي، يالك من أم قاسية يا نجاة، أريت المولود الجميل لكل إنسان وتغنيت بجماله فى كل مكان وتركت أباه يشرب الشاي في بكين، ويحلم بطفل أزرق العينين يعيش مع أمه فى القاهرة، لا تضحكي يا نجاة إذا طلبت ممارسة أبوتي، فأنا لا يمكن أن أقتنع بتلقي رسائل التهنئة بالمولود دون أن أراه، فانهضي حالا لدى وصول رسالتي، وضعي المولود في طرد بريد صغير وابعثي به إلى عنواني، إذا فعلت هذا كنت عن حق وحقيق، أما إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة برغم معرفتي أنك تكرهينه». وبعد شهر تقريبا يأتيه الملحق العسكري ليسلمه شريطا وصل إليه من نجاة، فيدعو زملاءه إلى حفلة في السفارة لسماع أغنيته، ثم يتضح أن سرعة تسجيل الشريط تختلف عن سرعة جهاز الاستماع، فيلجأ إلى استديوهات إذاعة بكين ليستمع إلى قصيدته لأول مرة بعد شهرين من إذاعتها بالقاهرة. وبعد شهور قليلة من إذاعة القصيدة تستقبل القاهرة شاعر» أيظن» استقبال الفاتحين، ويلاحقه المعجبون في كل مكان، وكاميرات المصورين وأقلام الصحفيين. ومن ناحية أخرى وقع الاختيار على هذه الأغنية بالذات كأجمل أغنية عربية على الإطلاق بالنسبة لمجموع الأغاني العربية التي ظهرت في السنة نفسها التي ظهرت فيها أغنية «أيظن»، وقد جرى ذلك الاختيار ضمن المسابقة الفنية التي نظمتها إحدى الهيئات الفنية والثقافية في لبنان في الستينيات.