تقرير إيمان عمر الفاروق أبدا لم تكن حدوداً بل ندوب بجبين الأمة العربية، حفرتها القوى الاستعمارية فى رمالنا وذاكرتنا بجرة قلم، لم يجف مداده المسموم حتى اللحظة، ولم يكف عن سعيه المحموم للعبث بخرائط العالم العربى طوال السنوات المائة التى مضت على اتفاقية سايكس – بيكو، فكيف تبدو الأجواء بالعواصم التى شهدت عملية " طبخها " ؟ إن أبرز ما يميز تلك الأجواء هو الربط المتعسف بين سايكس - بيكو، وقضية اللاجئين السوريين من قبل بعض الكتابات التى تنطلق كالرصاصة الطائشة فى الاحتفال بالذكرى المئة لتلك الاتفاقية بمسقط رأسها!
عاد اسمى مارك سايكس وجورج بيكو إلى واجهة الأحداث مع بدايات عام 2014، عندما بث تنظيم داعش تسجيلا مصورا به بلدوزر يجرف حاجزا رمليا يشكل الحدود بين العراقوسوريا، وأسفله لافتة ملقاة على الرمل مكتوب: "نهاية سايكس – بيكو ". بالطبع لا تحظى اتفاقية سايكس – بيكو باهتمام مماثل فى الغرب لما تلقاه بالعالم العربي، لكنها منذ بث هذا الفيديو الداعشى أضحت محل جدل واسع النطاق بوسائل الإعلام الغربية، وانطلقت كتابات تطرح تساؤلا حول الخريطة ذات التخوم الجديدة التى سوف يرسمها تلك المرة تنظيم داعش. وتفجرت ينابيع الجدل حول وفاة سايكس – نتائج البحث عن نهاية سايكس – بيكو على محرك "جوجل " التى تجاوزت 50 ألف نتيجة. وكمحاولة من جانب الإعلام الغربى لتوظيف الحديث عن سايكس – بيكو ليصب فى مصلحتهم ويخدم أجندتهم، يجرى خلط متعسف وزج بقضية اللاجئين السوريين فى معرض الحديث عن ذكرى سايكس بيكو، وكيل الاتهامات للعرب بالازدواجية فى التعاطى مع فكرة " قدسية الحدود " ففى الوقت الذى يشتكى فيه العرب من معاناتهم من إجحاف تلك الاتفاقية، نجدهم يتدفقون إلى الحدود الأوروبية زحفا وغرقا. ففى مقال خطير للكاتب البريطانى روبرت فيسك بصحيفة "الإندبندت " البريطانية فى نوفمبر من العام الماضى كتب فيسك تحت عنوان: "داعش: فى عالم بلا حدود.. انتهى عصر شن حروب خارجية والبقاء آمنا بالداخل"، وكانت صدمة للبعض أن قام بالقول إن اللاجئين السوريين لا يقيمون وزنا للحدود الأوروبية، راويا أن عالم الحدود قد سقط فى مخيلتهم حيث التقى بعض الحلبيين أثناء تغطية الأزمة الاقتصادية باليونان فى صيف 2015، وأنه لاحظ أنهم يتحدثون عن سوريا كماض وراعه أنهم على استعداد لتخطى الحدود الأوروبية زحفا. وبصرف النظر عن مقاصد فيسك من تلك المقاربة والمقارنة فإنها ليست فى محلها، فاللاجئون السوريون لا يهدفون بالتأكيد لانتهاك سيادة أى من الدول الأوروبية التى يقصدونها، لكنهم يعبرونها بغية البحث عن ملاذ آمن، فضلا عن أن قضية اللاجئين السوريين قضية إنسانية بالأساس بخلاف ترتيبات سايكس بيكو السياسية الاستعمارية! وفى مقال آخر لفيسك نشر فى 2014، تحت عنوان "خريطة داعش تمحو تقسيمات سايكس - بيكو"، كشف نقطة غاية فى الأهمية تتمثل فى قيام الاقتصادى إيان روتليج بتقديم وثائق مهمة جدا، ذات علاقة بالوضع الحالى فى العراق الذى تتمزق أوصاله اليوم. فباتت داعش وقضية اللاجئين فضلا عن الأكراد خطوطاً يتقاطع الحديث عنها مع الذكرى المائة لاتفاقية سايكس –بيكو فى الدوائر الإعلامية الغربية. وربما كانت أبرز الأطروحات الغربية التى تختلف عما يتم تداوله بالعالم العربى بشأن اتفاقية سايكس – بيكو، هو تبنى البعض لرؤية تنبنى على أن معاهدة سيفر ومؤتمر سان ريمو، كانتا أكثر تأثيرا بمجريات الأحداث بالعالم العربي، لكنهما لم ينالا القدر الكافى من التحليل أسوة باتفاقية سايكس – بيكو. فنجد كتابات مهمة بمجلات رصينة تسلط الضوء عليهما مثل "فورين بوليسى " فى مقال مطول كتبه ديك دانفورث فى أغسطس العام الماضى بعنوان: "فلننسى سايكس – بيكو.. معاهدة سيفر هى كلمة السر للشرق الأوسط"، فإذا ما أردت أن تجد تفسيرا لما يجرى من أحداث الشرق الأوسط اليوم سوف تعثر عليه حتما فى معرض بمصنع للخزف بضاحية سيفر الفرنسية، التى شهدت مراسم التوقيع على معاهدة سيفر فى 10 أغسطس 1920، فى أعقاب الحرب العالمية الأولى وهى واحدة من المعاهدات التى وقعت عليها دول المحور عقب هزيمتهم بالحرب العالمية الأولي، وكانت بمثابة المسمار الأخير فى نعش الدولة العثمانية بسبب شروطها القاسية المجحفة، لكنها رفضت بعد صعود الحركة القومية التركية للحكم بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، فى أكتوبر 1923، وكان رفضه لتطبيق بنود المعاهدة نابعا من كونها أجبرت الدولة العثمانية على التنازل عن مساحات شاسعة من الأراضى التى كانت واقعة تحت نفوذها. وبرغم قصر عمر تلك المعاهدة فإنه ترتب عليها تداعيات خطيرة، وربما تكمن أهميتها فى النصوص الخاصة بالشأن الكردي، حيث يرى عدد من الخبراء أن هواجس الخوف التركية تجاه النزعات الانفصالية الكردية ترجع إلى تلك المعاهدة، فيما أضحى يُعرف فى الأدبيات السياسية "بمتلازمة سيفر". وبناء على ذلك، فالأحرى بالعالم العربى تأمل تلك المعاهدة بنصوصها التى تفسر الكثير من تناقضات وتحديات اللحظة الراهنة بل المخاوف أيضا. وهناك كتابات أخرى تنتصر لنفس فكرة إزاحة سايكس – بيكو عن المشهد لصالح مؤتمر سان ريمو. صحيفة "الجارديان" البريطانية جاءت فى طليعة المطبوعات الغربية التى أولت اتفاقية سايكس - بيكو قسطا وافرا من الاهتمام، وربطت بينها وبين وعد بلفور، وألقت الضوء على جانب من الرؤية الغربية لتلك الاتفاقية بعد مرور 100 عام، ففى تقرير كاشف لأمور كثيرة جاء تحت عنوان " العالم العربى مازال يتأرجح جراء اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى "تم نشره فى ديسمبر من العام الماضي، أشار أن اتفاقية سايكس -بيكو التى جرى طبخها سرا فى الأيام الأخيرة من عمر الدولة العثمانية ما زالت حاضرة فى الذهن العربي، ولن تسقط بالتقادم لأن تأثيرها مازال ماثلا بقوة فى حاضرهم. وبحسب التقرير فإن المسئولين بالخارجية البريطانية يمرون بحالة عصف ذهنى وتوتر بالغ، بشأن كيفية إحياء تلك الذكري، فيما يمثل لهم إشكالية بالغة الصعوبة كونها قد تركت آثارا سامة بالرمال العربية. فضلا عن أن العام الجارى يحمل أكثر من ذكرى أليمة فى تاريخ العلاقات البريطانية - العربية حيث سيشهد مرور الذكرى ال 60 للعدوان الثلاثى على مصر. ويرى إيو جين روجر -الأستاذ بجامعة أوكسفورد وصاحب العديد من المؤلفات عن التاريخ الحديث للعالم العربى - أن تلك الاتفاقية هى جزء من التاريخ الحى بالعالم العربى الذى تأبى ذاكرة العرب نسيانه، وهو رهان على مستحيل لأن العرب ببساطة يعتبرون التحديات الراهنة التى تواجههم ذات صلة مباشرة بتلك الاتفاقية بحيث تغدو هى المتهم الأول فى حاضرهم الدموى ". عزفا على ذات النغمة يقول توم فليتشر - سفير بريطانى سابق بلبنان" ونحن مقبلون على تلك المناسبة المهمة ينبغى علينا أن نضع فى اعتبارنا أن هذا هو التاريخ، وتلك الاتفاقية مرآة تعكس موقعنا فى قاطرته، وأنه من الخطأ التعامل مع دور القوى الغربية بوصفه المسئول الأول عن الأزمات الإقليمية العربية ". استبعد كاتب التقرير تقديم بريطانيا اعتذارا عن اتفاقية سايكس - بيكو أو المآسى التى نجمت عن وعد بلفور، حيث شهدت الآونة الأخيرة انطلاق حملات تدعوها إلى الاعتذار عن وعد بلفور، معتبرا ذلك الأمر غير وارد فضلا عن أنه غير ذى جدوى.