قوات الاحتلال تداهم عددًا من المنازل خلال اقتحامها بلدة جيوس شرق قلقيلية    4 توصيات ل«اتصالات النواب» لسلامة الراكبين بشركات النقل الذكي    أسعار الدواجن واللحوم اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    زاخاروفا تعلق على التصريحات الأمريكية حول قرار الجنائية الدولية    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: لا حلول عسكرية في غزة.. يجب وقف الحرب والبدء بحل الدولتين    الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    احذروا الإجهاد الحراري.. الصحة يقدم إرشادات مهمة للتعامل مع الموجة الحارة    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    فرنسا: ندعم المحكمة الجنائية الدولية واستقلالها ومكافحة الإفلات من العقاب    «بلاش انت».. مدحت شلبي يسخر من موديست بسبب علي معلول    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «كداب» تقترب من 2 مليون مشاهدة.. سميرة سعيد تنجح في جذب انتباه الجمهور ب الصيف (فيديو)    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    دونجا: سعيد باللقب الأول لي مع الزمالك.. وأتمنى تتويج الأهلي بدوري الأبطال    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    واشنطن: نرفض مساواة المحكمة الجنائية الدولية بين إسرائيل وحماس    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    اتحاد منتجي الدواجن: السوق محكمة والسعر يحدده العرض والطلب    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    مراقبون: قرار مدعي "الجنائية الدولية" يشكك في استقلالية المحكمة بالمساواة بين الضحية والجلاد    إصابة شخصين في حريق شب بمزرعة بالفيوم    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    متى تنتهي الموجة الحارة؟ الأرصاد الجوية تُجيب وتكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء    على باب الوزير    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر العراقى الكبير سعدى يوسف فى حوار الطلقات السريعة: لو كنت فى العراق لأحرقونى مع كتبى
نشر في الأهرام العربي يوم 06 - 12 - 2015

ساحة التحرير ببغداد ليست ميدان التحرير بالقاهرة
- أمريكا تحتل العراق على طريقة اليابان وألمانيا والفلبين!
- الشيوعيون العراقيون اصطفوا مع الاحتلال الأمريكى وتقاعدوا عن النضال
- مسئول أمنى فرنسى عرض علىّ التعاون مقابل الإقامة ورفضت فقال: كل أصدقائك من المثقفين العرب المقيمين يتعاونون معنا
- الشيوعية حلم وفلسفة وليست حزباً
- الموساد الإسرائيلى يتحكم بأربيل!
- علىّ أن أظل مشعل حرائق.. وإلا من الشاعر؟
- أفضل المنفى.. ورحلتى كانت منجاتى
- لا أتخيل أننى سأمشى فىشوارع البصرة مرة أخرى
- عودتى إلى العراق مستحيلة.. فى ظل احتلال أمريكى دائم
الشاعر العراقى الكبير سعدى يوسف، هو قرصان الشعر فى بحر العرب العميق. وهو القيمة والقامة، القيمة الثقافية والسياسية النادرة، والقامة الشعرية السامقة، أصله ثابت فى أرض امرئ القيس، هامته مرتفعة كنخيل البصرة.
كل الأغانى تنتهى إلا أغانى سعدى يوسف، فأغانيه من الناس إلى الناس. وقصائده ليست للآخرين، والأخضر بن يوسف لا يتقاعس عن نصرة الفقراء والمساكين، ولا يتوقف عند نهايات الشمال الإفريقى. فالأرض أرض الله والشعراء، وما أرحب السماء تحت جدارية فائق حسن.
مَنْ كان رفيقه ومعلمه بدر شاكر السياب، شاعر العرب الأكبر، فلا خوف عليه، ولن يضيع. ومَنْ كانت أمه البصرة فلا يحزن على السماء الأولى، ولا تصبح الليالى كلها نجوما ورمادا، فالبصرة هى الفيحاء، أم النخل والبساتين والجداول والأنهار والبروق، صاحبة الشعراء والأدباء، صديقة المسافرين والرحالة، أول ما خط الإسلام من مدن ومدائن، خميرة النحاة والفقهاء.
فى الساعة الأخيرة كتب سعدى يوسف وصية الأخضر بن يوسف، أوصاه بأن يكون أقل صمتا، دعاه إلى الاعتراف بيوميات الجنوب، يوميات الجنون، قال له يا أخضر: لا بد أن تعرف الوردة، لا بد أن تأتى مريم من الينبوع من عدن حيث الرفاق منتشرون فى العالم بلا خيمة.
فى موسكو عرف سعدى يوسف نهايات الطريق، رأى وردة الثلج تشتعل، استلهم القيروانية، قال سلاما لسماوات موسكو، رأى الهلالى وحيدا، سكران فى البار، رأى أبا زمعة البلوىّ، حلاق الرسول فى المغرب العربى باحثا عن درب يفضى به إلى جزيرة العرب البعيدة.
ببصيرته النافذة عرف سعدى يوسف أن وردة الثلج تتلاشى، وأن الرفاق باتوا قياصرة، ودع الجميع فى مشرب البيرة الفاترة، صار خزافا، عرف الأبواب السبعة، مشى فى المجاز الأخير، فكان خزاف العراق الذى يشكل الدنيا على هيئة الطير، وقال لمرّاكش الحمراء أهلا مرة أخرى.
كانت محاولة أخيرة، فى باريس، كان عوليس، وكانت بنلوب بعيدة جدا، قال له المخبر الفرنسى: كن معنا.. قرر أن يحمل عصاه ويرحل إلى الدنيا، يغلق الأبواب الفرنسة على مخبريها، يشعل النيران فى أشجار إيثاكا، لا يريد الآن أن يصبح جنديا فى جيش بونابرت، إنه العاشق الولهان فى جنة الدنيا، جنة المنسيات اللواتى عرفنه فى ليل بغداد وبيروت والجزائر ونيقوسيا، والكويت، وعدن، ودمشق، وبغداد، وعمان، وباريس، ولندن، وموسكو إلى آخر السُبحة الذهبية من مدن ومدائن منسية!
أخيرا قرر أن يكتب قصائد ساذجة، يكتب عن العاصمة القديمة، يبحث عن حانة القرد المفكر، يعترف بيوميات أسير القلعة، يكشف عن حياة صريحة، يحكى عن كل حانات العالم، يسأل عن نساء طيبات فى سرير الليل، يصلى بهن صلاة الوثنى، يقول لنا ولهن: أنا حفيد امرئ القيس، والشيوعى الأخير الذى سيدخل الجنة، جنة صياد السمك، الصياد الذى لا يخشى البروق ولا وحوش البرارى.
(الأهرام العربى) تستضيف سعدى يوسف على صفحاتها، كاتبا وشاعرا، تستعيد تقاليد نهضوية عميقة، كانت وستبقى نبراسا فى نهضة مصر، تقاليد قادمة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قبل أن تغيبها أفعال مريبة فى العقود الأخيرة، تقاليد كانت ترحب بالإمام الشافعى، وعبد الرحمن الكواكبى، وشبلى شميل، وجورجى زيدان، وأولاد تقلا، وفاطمة اليوسف، وجورج ودولت أبيض، وخليل مطران، ونازك الملائكة والجواهرى، والزهاوى، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، والنشاشيبى، وغيرهم من سينمائيين وصحافيين ومترجمين ومثقفين عرب أضافوا إلى النهر الثقافى المصرى أنهارا وأنهارا.
مرحبا: سعدى يوسف، مرحبا: أيها الشاب فى الثمانين.. لا تتوقف عن العد.. لا تتوقف عن العدْو.
مرحبا بك فى» الأهرام العربى» مرحبا ونحن نحتفل ب 140 عاما على وجود “الأهرام” الصحيفة، والمؤسسة، التاريخ، والدور.
قلت : بعد المائة لن أتوقف عن العد.. هل أنت جاد فى الوصول للمائة الأخرى.. أعنى مائة كتاب أخرى بالطبع؟
الحقّ يا مهدى أننى لن أتوقّف عن العدّ ... كتابان سيصدران لى فى العام 2016، وسوف يكونان فى معرض الكتاب بالدار البيضاء ... لكن الأعمار بيد الله ...
جدك زهير بن أبى سلمى سئم الثمانين.. أما أنت حفيده فما زلت تشعل الحرائق فى نفس الثمانين؟
عزيزى مهدى . منحنى المقامُ فسحةً من العمر . وعليّ أن أظلّ مشعلَ حرائقَ . وإلاّ مَن أنا؟ أعنى مَن الشاعرُ؟
قرية حمدان، البصرة، بغداد، دمشق، بيروت، عمان، طنجة، عدن، تونس، باتنة، سيدى بلعباس، لندن، نيويورك، باريس، نيقوسيا، موسكو.. كيف قطعت المسافات بين كل هذه المدن.. ؟
أحياناً أضيعُ فى العالَم وأنا أتابعُ مسيرتى الجغرافيّة . أخيراً استعنتُ بأطلس جغرافيّ.
بيروت تحت الحصار عام 1982 استأثرت وحدها بديوان “ مريم تأتى” كتبته تحت القصف الصهيونى على بيروت.. وقال محمود درويش : إن سعدى كان يكتب كل لحظة تحت القصف ولم يتوقف قط..بينما هو انتظر طويلا حتى يكتب التجربة.. هل جاءت مريم بالفعل أم رحلت؟ وهل تتذكر الآن أبا عمار ورفاقه المحاصرين فى بيروت؟
صحيحٌ ما قاله محمود . كنت أكتب لصحيفة المعركة التى كانت توزع على المواقع القتاليّة . كما كنت أكتب أشعاراً جمعتُها فى ديوان “ مريم تأتى “ . أتذكرُ أبا عمّار وكيف كان مستهدَفاً، يتنقّل من موقع إلى آخر، وأتذكر الإذاعة التى كان يمكن أن يباد كل العاملين فيها بقصفٍ إسرائيليّ .
بعض الكتاب هربوا من المواجهة أثناء حصار بيروت.. هل تتذكرهم؟
الكتّاب اللبنانيون بالذات هربوا جميعاً، بل ذهب بعضهم (عباس بيضون مثلاً) إلى منطقة الاحتلال الإسرائيلي.
تضع حول رقبتك سلسلة بها قلادة ذهبية لخريطة العراق.. هل هى تميمة العودة يوما ما إلى بلاد الرافدين؟
تميمةٌ، لكن العودة مستحيلة . هذا احتلالٌ أمريكى دائمٌ.
هل تتخيل يوما إنك ستمشى فى شوارع البصرة مرة أخرى؟
لا أتخيّل هذا . ثم أين البصرة ؟ قال الشاعرُ : وما الإقامةُ بالزوراءِ لاسكَنى فيها ولا ناقتى فيها ولا جَمَلى !
قلت لى ذات مرة ونحن معا فى القاهرة: الاحتلال الأمريكى يضع العراق فى دائرة الاحتلال حتى مائة عام.. هل لا تزال عند هذا الرأى؟
نعم . انظرْ إلى اليابان والفلبين وألمانيا !
لماذا لم ترحب بمظاهرات ساحة التحرير فى العراق.. وهل هى بداية ( ربيع آخر) أم ترتيب من داخل الخيمة الحاكمة نفسها؟
ساحة التحرير ببغداد غير ميدان التحرير بالقاهرة.
إنك شيوعى أخير.. وشيوعى على طريقتك، وعراقى على طريقتك .. كيف جرى هذا التحول؟
لأن الشيوعية كما أراها هى حلمٌ وفلسفة وليست حزباً.
انضممت إلى الحزب الشيوعى العراقى وعمرك 15 سنة.. لكن إعدام الرفيق فهد أنهى المسيرة مبكرا. ثم عاد الحزب وكانت المفاجأة أن يقوم بتجنيدك مرة أخرى شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب.. لكن السياب نفسه غادر الحزب.. أما أنت فمازلت (الشيوعى الأخير).. كيف أثرت هذه التجربة المبكرة فى وعيك السياسى؟
بدر العظيم كان مخلصاً للشيوعية، لكن الحزب الشيوعى (وأعنى إدارتَه) كان متخلفاً فى قضايا الثقافة وأسئلة المصير فى الوطن العربى. من هنا انتقال بدر إلى عالَمٍ أرحب .
ألهذا السبب صرت شاعرا مدينيا بدلا من شاعر ريفى؟
المدينة مكسبٌ إنسانيّ فريدٌ . هل تتصوّر مصرَ بدون القاهرة ؟
يقال يا أبا حيدر إن السياب هو الوحيد المستثنى من هجائك لرفاق جيله: البياتى.. عبد الرزاق عبد الواحد الذى نعته بالشاعر التافه أخيرا.. إلخ إلخ؟
بدر معلِّمى ورفيقى .
قلت إن يوسف الخال وخليل حاوى هما الاختراق العميق على مستوى الحداثة الشعرية.. فماذا عن أدونيس والماغوط وصلاح عبد الصبور وحجازى؟
مَن ذكرتَهم ... كل هؤلاء تابعون ...
جرت عليك قصيدة عيشة بنت الباشا، وعراق العجم معارك شرسة، وصلت إلى حد الدعوات بإحراق كتبك فى شارع المتنبى بالعراق.. ترى ما السبب.. هل مسست وترا سريا فى عراق اليوم؟
العراق بلدٌ غير متسامح . أرضٌ للقتل على الهويّة . لو كنت هناك لأحرقونى أنا مع كتُبى ...
فى فرنسا جرى حوار بينك وبين مسئول فرنسى رفيع المستوى.. على إثر هذا الحوار غادرت باريس إلى الأبد.. ما السبب وماذا قال عن المثقفين العرب المقيمين هناك؟
عرض عليّ المسئولُ فى وزارة الداخلية الفرنسية أن يمنحنى الإقامة مقابل التعاون . رفضتُ . قال لى : لكن المثقفين العرب من أصدقائك يتعاونون معنا ...
هاجمت السورى برهان غليون كثيرا.. لماذا كان هذا الهجوم.. وهل كان جلبى سوريا الجديد؟
لأنه امرؤٌ تافهٌ على المستوى الشخصيّ، ولأنه كان مستشار عبّاسى مدَنى الذى قاد تمرّداً استمرّ عشر سنين فى الجزائر، لأن فرنسا كانت تريد العودة إلى استعمار الجزائر عن طريق الإسلاميّين . برهان غليون يفعل الأمر نفسه ضد وطنه سوريّا .
بمناسبة الجلبى كيف نظرت إلى دفن جثمان أحمد الجلبى فى صحن الإمام الكاظم ببغداد؟
نحن فى العراق نبّاشو قبورٍ . لن يرقد الجلبى هانئاً !
هل سيكون المنفى الإنجليزى الحالى هو آخر المنافى أم سنراك قريبا فى منفى آخر؟
إن كان المنفى فأنا أفضِّلُ البقاء حيث أنا، لكنى قد أقيم فى بلد عربيّ، وهو ليس منفى ... قد أقيم فى مصر أو المملكة المغربية، إن تهيّأت الظروف .
البصرة.. بغداد.. الجزائر..بيروت..تونس.. عدن.. دمشق.. باريس.. عمان.. لندن.. هل كانت هذه المدن نقرة السلمان أم جنة المنسيين؟
رحلتى كانت منجاتى !
كنت توصف دائما بأنك شاعر التفاصيل.. الوردة لا الحديقة .. الشجرة لا الغابة.. لكنك الآن تحولت من النبرة الخافتة إلى النبرة العالية.. لم كان هذا التحول؟
ما زال الفن عسيراً يا مهدى مصطفى ... أحياناً لا تدرى ما تقول، أوكيف تقول !
السجون.. المطاردات.. المنافى.. كيف شكلت وعى سعدى يوسف بالعالم؟
...
يقال إن من يزور مدن وعواصم المغرب العربى الإفريقى لا يتوه.. فقط عليه أن يقرأ شعر سعدى يوسف ليعرف الطريق؟
ربما ... لأننى أول من حاولَ معالجة هذا الموئل فنّيّاً
سجن نقرة السلمان.. طالما أطل من قصائدك.. ويقال إن سعدى خلد هذا السجن الصحراوى العجيب؟
نعم . كنت فيه، ولى هذا العام قصيدة لها علاقة، عنوانها : غرفة المشنقة.
لماذا كتبت أن أربيل قاعدة لقتل العرب فى العراق وسوريا؟
لأنها كذلك . الموساد يحكمها ويتحكّم بزعمائها الشوفينيّين .
فى صحيفة القدس العربى دعوت إلى مصالحة وطنية ولم يستجيبوا وهاجموك.. والآن تدعو إلى نفس المصالحة.. هل لا تزال طامحا لمصالحة تعيد الاستقرار إلى العراق؟ ولماذا يهاجمك الملالى وسياسيو الأكراد؟
لأنهم لا يريدون مصالحة وطنية . المصالحة الوطنية تعنى العراق الموحّد، وهم يريدون تمزيق البلد .
لماذا قلت إن الشيوعيين العراقيين يتقاعدون؟
لأنهم تقاعدوا عن العمل النضالى، وهو تحرير البلد، واصطفّوا مع الاحتلال وعملائه .
سيرة ميسرة
ولد في العام 1934، في أبي الخصيب، بالبصرة (العراق).
اكمل دراسته الثانوية في البصرة.
ليسانس شرف في آداب العربية.
عمل في التدريس والصحافة الثقافية.
تنقّل بين بلدان شتّى، عربية وغربية.
شهد حروباً، وحروباً اهلية، وعرف واقع الخطر، والسجن، والمنفى.
نال جوائز في الشعر: جائزة سلطان العويس، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة (كافافي) من الجمعية الهلّينية.
وفي العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ .
عضو هيئة تحرير «الثقافة الجديدة».
عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine
عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال Banipal للأدب العربي الحديث .
مقيم في المملكة المتحدة

شاعر محرّم على السلطة.. اشتريت ديوانه «الأخضر بن يوسف ومشاغله» من البصرة
بقلم: مهدى مصطفى
وصلت إلى مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقى فرع البصرة. عبد الحسين الغراوى كان يدير المقر. كان يتعاطى القصة القصيرة، كأهل البصرة، كان طيبا ووديعا ومرحبا ومسالما. عرفنى على مثقف من عشيرة السوّاد، صديق ورفيق الشاعر بدر شاكر السياب، السوّاد صار صديقا لى، عرفت منه أن يحب دين الصابئية، لأنهم يحبون الماء. قلت: لا خوف عليهم ولا يحزنون.
كانت لديه مكتبة عامرة بكنوز المعرفة، يملك أياما طويلة مع بدر شاكر السياب غير تلك الأيام التى كان يملكها عبد الأمير معلة مع صدام حسين.
كان كريما فى بيته المحاط ببساتين النخل، بدا لى أنه يستجلب الذكريات أكثر مما يشير إلى الحاضر المفعم بالرصاص، كنا فى عام 1980، كانت الحرب العراقية الإيرانية قد اشتعلت للتو، ونما من قلب الرواية التى كان يرويها أن قوات عسكرية تتمركز فى بساتينه، وأن هذه القوات قطعت أعناق النخيل!
حرصنا على اللقاء ، أنا وعبد الحسين، والسوّاد، كل على انفراد، لم نلتق معا قط. لكننى والسوّاد كنا الأكثر لقاء فى ليالى البصرة، نلتقى تحت إيقاع المدافع والرصاص. نتعايش أجواء الأغنيات التعبوية الحارقة مثل: سعد يا جدنا.. التى أكملتها مع الأشقياء العراقيين إلى (سَعَدْ يا جدْنا .. تنكة نَفِطْ مَاعدْنا،) وكان النفط أى (الجاز) بات متعذرا بعد أسابيع من الحرب بسبب ضرب مصافى النفط.
قرأ السوّاد بضع قصائد كتبتها فى البصرة، قلت له: اشتريت اليوم ديوان سعدى يوسف: الأخضر بن يوسف ومشاغله. اعتقدت أنه سيرحب. قال: ماذا قرأت من السياب؟ قلت له: كل ما وقع بين يدىّ. قال: اقرأ السياب علنا.. أما سعدى يوسف فاذهب بها بعيدا عن أعين العسس. هذا شاعر محرّم الآن!
كان الرجل يتكلم ولا يريد أن تلمس عيناه غلاف الديوان الصغير، مد يده بهدوء ودس الكتاب فى بقية الكتب التى كنت أحملها، كأنه لا يريد أن يضبط بجرم قراءة ديوان يعرف أن صاحبه « محرّم»، أما أنا الغريب، فسمعته يقول لى: لدينا فى العراق مثل: يا غريب كن أديب»، أى بمعنى كنا مؤدبا وأنت ضيف، « خطار» قالها باللهجة العراقية الواضحة. لم أكن أفهم ما يرمى إليه، عاجلنى وأنا أفكر: أنت تعرف أننا أصبحنا صديقين، وأخشى عليك فى بلد أنت فيه غريب. لا تعرف تضاريسه الجغرافية والسياسية!
كان الرجل يريد أن ينتهى من الحكاية سريعا! أهو تهديد أم نصيحة؟ لماذا كشف لى هذا الطيب محب الصابئة المائيين عن وجه آخر؟ أهو يخشى علىّ بالفعل أم يخشى على نفسه؟
كان المشروب الذى نحتسيه ينزل فى جوفى حارقا على غير العادة، جبهتى تنز عرقا باردا، شعرت بالخوف، أنا الذى لا يتسرب الخوف إليه. ضبطت نفسى متلبسا بالتحدى، قررت إنهاء اللقاء، ومغادرة بيت السوّاد، كانت ابنته الكريمة على وشك تجهيز غداء فاخر، استأذنت بإصرار، مضيت، كان بيته ببساتينه خارج البصرة القديمة، لوحت لسيارة تاكسى ، ركبت دون أن أقول له أين وجهتى، مضى السائق مسرعا لا أدرى لماذا وجدت نفسى على كورنيش شط العرب تحت تمثال السياب. قلت للسائق: هنا.. سوف أنزل هنا. دسست فى يده أموالا دون إحصائها، نظر إلىّ وقال باندهاش: يا مصرى هذا «هواية»، أى هذا كثير جدا، ثم أخذ ما يكفيه وأعاد لى الباقى.
وقفت تحت تمثال السياب، أشرت لأحد المصورين العابرين الذين كانوا يحملون كاميرا من نوع بولاريد. التقط لى صورة تحت تمثال السياب، حصلت على الصورة من الكاميرا الفورية، ولا تزال فى أرشيفى الخاص، ذهبت إلى حانة قريبة كنت أرتادها، قررت بعد احتساء مشروب محلى أن أذهب إلى مكتبات الشارع الوطنى أو شارع الكويت لأشترى كل أعمال سعدى يوسف المنشورة.
قصائد مرئية، 51 قصيدة، الأخضر بن يوسف ومشاغله، هذا ما وجدته. قال لى صاحب المكتبة غدا سيكون لدينا كل ما نشره، خاصة تحت جدارية فائق حسن. شكرته، وقلت: سأمر عليك، قال: أول مصرى «يشترى كتب» قالها وهو يضحك!
السوّاد كان يحب سعدى يوسف. عرفت أنه كان يخشى علىّ وعليه.
أكثر من ثلاث سنوات فى البصرة وسعدى صديقى فى الحانات الليلية، لا أخشى من ذكر اسمه مع الأصدقاء والشعراء والكتاب الجدد. عاد مهرجان المربد الشعرى، عقد فى البصرة عام 1983، رأيت الشعراء العرب للمرة الأولى، حكيت ورويت عن سعدى يوسف الشاعر المحرم.. الناقد عبد الجبار داوود البصرى قال فى ذلك المساء: أبو صالح توقف.. وكان يريد أن أواصل الحكايات!
فى سنوات أخرى، كان سعدى قد نشر قصيدة ( إعلان سياحى عن حاج عمران)، كنت أسكن فى شقة رقم 1 فى بناية رقم 1 بحىّ جميلة البغدادى، البناية تعود إلى الحاج خير الله طلفاح، خال الرئيس صدام حسين، وكان من يقوم بتحصيل الإيجار الشهرى عامل مصرى يدعى مجدى من مدينة العياط من أعمال الجيزة، ولما كنت المصرى الوحيد الذى يسكن فى شقة تضم عراقيين فكان يحتفى بى، الشقة كان تضم (مهدى .. على الشلاه.. عدنان الصائغ والأخيران لهما قصص وروايات سأرويها ذات يوم)، كنا تأخرنا فى دفع الإيجار، علم الحاج خير الله طلفاح فجاء بنفسه تحت حماية عسكرية مسلحة تتكون من أكثر من عشرين مسلحا..كادوا يكسرون باب الشقة وهو من حديد برغم أننا بالطابق الثانى، فتحت الباب، كان الحاج خير الله بشحمه ولحمه مرتديا دشداشة بيضاء، مجدوع الأنف، على رأسه غترة.
أنت المصرى الذى يسكن هنا؟
-نعم.
- لماذا لا تدفع الإيجار؟ وأين اللذان يسكنان معك؟
- المؤسسة التى نعمل بها تأخرت عن دفع الرواتب؟
- أى مؤسسة ؟
- منتدى الأدباء الشباب؟
- مال لؤى حقى؟
- نعم.
- هذه مؤسسة غنية .. ولؤى غنى وقريب من الرئيس الله يحفظه...
كنا نتحاور ونحن نسير إلى أعماق الشقة المكونة من ثلاث غرف.
كانت عينا الحاج خير الله تدوران فى الشقة بحثا عن شىء ما. الحقيقة كنت أخشى أن تقع عيناه على مطبوعة عربية كنت أقرأ بها قصيدة سعدى يوسف (إعلان سياحى عن حاج عمران) وفيها ذكر غير طيب عن الحاج خير الله!! ومن محاسن المصادفات أن وقعت عينا الحاج على كتيب عن نساء النبى من تأليفه!
فى الحقيقة كان الكتيب مسروقا من كتابات الكاتبة المصرية المفكرة بنت الشاطئ (د. عائشة عبد الرحمن)، وكان هناك كتيب آخر كنا نتندر به ، عنوانه : (ثلاثة كان على الله أن لا يخلقهم: الفرس، اليهود والذباب).. المهم أن اهتم بوجود مؤلفاته! نسى أمر الإيجار، سحب مقعدا وجلس، كانت المجلة العربية التى بها قصيدة «إعلان سياحى عن حاج عمران» مطوية على صفحة مشتوم فيها هذا الرجل المخيف الذى جاء بنفسه يبحث عن إيجار شقة فى عمارة من عماراته الكثيرة، برغم أن خاله رئيس للبلاد، وابنه وزير دفاع يقاتل (العدو المجوسى الفارسى) حسب لغة تلك الأيام.
فى قصيدة إعلان سياحى عن حاج عمران التى لم يرها الحاج خيرالله جاء فيها تعريض به وبالرئيس الفرنسى فى ذلك الوقت فرانسوا ميتران، وفيها يقول سعدى يوسف:
(إنى أنصح السيد فرانسوا ميتران رئيس الجمهورية الفرنسية بأن يقرأ قراءة متأنية - ولا بأس أن يساعده ريجيسيه دوبريه - المؤلفات الكاملة للحاج خيرالله طلفاح، المنظر الرسمى المعتمد فى بغداد)
يا بلاداً بين نهرين
بلاداً بين سيفين.
راح قلبى يدق بعنف، لكن الحاج خير الله هبطت عليه الطيبة والدعة بسبب وجود مؤلفاته التافهة فى شقة هو يؤجرها لمصرى وعراقيين اثنين!
أمر مسلحيه أن يبقوا بعيدا، قال بحسم موجها كلامه إلى مجدى المصرى: لا تجامل قريبك المصرى. أومأ مجدى برأسه.انصرف الحاج، مالك نصف بغداد، منظر الدولة والحزب، العارف بالتراث والإنسان.
فى المساء كانت كل بغداد تعلم بما جرى فى شقة رقم واحد بين المصرى والحاج الكبير خال الرئيس. فى آخر الليل كنا نتندر، ومن حسن حظ الحاج طلفاح أن كان موعد مهرجان المربد الشعرى على الأبواب، كانت فرصة ذهبية لنميمة ساخرة تعميما لفائدة حلال.
دارت الأرض دورتها. كانت حركة فتح تحتفل بربع قرن على انطلاق رصاصتها الأولى. القاهرة راحت تحتضن الاحتفال، كان عرفات بوجه الأسد يطل من خشبة مسرح الجمهورية بالقاهرة، كان سعد الدين وهبة وأسامة الباز ولطفى الخولى يتحلقون حوله، كان أبو عمار يرفع شارة النصر، بينما كان إميل حبيبى يرمى بقفشاته يسارا ويمينا، كان سعدى يوسف هناك، أليس هو ابن الثورة الدائمة. ألم يكن مقاتلا مع الثورة الفلسطينية فى بيروت؟
انتهى الحفل، حرصت أن ألتقيه، كالعادة، كانت سهرة فى فندق شبرد، حكينا، قلنا فنحن بصراويان أقحاح.
سعدى يوسف كَصيدَة .. تسبكَ هبوب الريح
سعدى يوسف كَصيدَة وصدكَ من بحر الطويل موزونة
إشكَدْ خيل دكَن ما حصلن خَبَبْ ممشاه..
كانت تلك أهزوجة شعبية اخترعناها فى مشرب الليالى الفاترة فى البصرة وبغداد. منذ ربع قرن نلتقى، خفافا، سهرة فى فلفلة أو الجريون، سيرا فى الشوارع، نتكلم كلاما ساكتا.
سهرنا حتى الهزيع الأخير من الليل. ضربنا موعدا فى الهيئة العامة حيث أعمل للقاء فى اليوم التالى. كانت لديه رواية مترجمة عنوانها( خرائط) لكاتب صومالى اسمه نور الدين فراح. ولما كنت السهرة ممتدة حتى الهزيع الأخير من الليل، ظننت أنه لن يأتى فى موعده، خاصة أنه قرر فجأة مغادرة السهرة والذهاب إلى أحد الفنادق فى ميدان العباسية بالقاهرة.
فى الصباح المبكر، على غير عادتى، قررت الذهاب إلى هيئة الكتاب، معتقدا أنه لا يزال فى سريره بعد ليلة طويلة من الكلام الثقافى بأصوات عالية، كانت المفاجأة أن أجد سعدى يوسف ينتظرنى وهو يجلس على سلم حجرى أمام بوابة الهيئة، كان نشيطا صافى الذهن، متقدا.
أنهينا قصة رواية خرائط. ذهبنا إلى وسط المدينة، ميدان سليمان باشا، ريش، إستيلا، فلفلة، الجريون، وأخيرا حكينا عن البصرة.
كان محمد عفيفى مطر يشكو لى من قصيدة (الأشرار) التى كتبها سعدى يوسف فى عدن، أيام اليمن الجنوبى والرفاق، عن مثقفين مصريين وعرب يعيشون فى بغداد، وهو المنفىُّ البعيد عن بلاده. تحينت الفرصة، فرصة وجود سعدى يوسف فى القاهرة، قلت لعفيفى: قطعت جهيزة قول كل خطيب، لماذا لا تلتقيان، الرجل ضيف، لماذا لا تبادر بدعوته إلى منزلك بالملك الصالح. كان الصديق أحمد إسماعيل، الصحفى بالأهالى، حاضرا تلك الليلة، قال : ليتك يا أستاذ عفيفى تفعل ذلك، أما أنا فقلت : سعدى يوسف علىّ أنا، سوف أصحبه إليك، لتكن سهرة جميلة، دون عتاب أو كلام.
كان سعدى كريما، وافق على الفور دون تردد.
فى المساء كنا فى منزل عفيفى مطر. امتدت السهرة، امتدت حبال الكلام، كان عفيفى يأخذ بناصية القول والخطابة، كان سعدى يوسف متلقيا، فى النهاية لم يستطع الاستمرار فى دور المتلقى حين وصلت المقارنة بين صدام حسين وجمال عبد الناصر، قال سعدى: الفارق بين الاثنين حرف جر: مع أو ضد الاستعمار.
ران صمت طويل، قبل أن يقطعه سعدى يوسف بالاستئذان ومغادرة المكان! لتنتهى قصة الأشرار وحكايات العتاب المتبادل بين الطرفين.
لا يعرف كثير من الناس أن سعدى يوسف زار القاهرة قبل 46 عاما. وكثير لا يعرف أنه عاشق للإسكندرية، وله فيها أمواج وتيارات. ليس كافافى فحسب، بل أبعد حتى من الإلياذة والأوديسة وبنلوب. وكنت الوحيد الذى أشار إلى تلك الزيارة القديمة فى جريدة المعرض الدولى للكتاب بالقاهرة حين كنت أحرر جزءا منها قبل أكثر من ربع قرن!
إذن، سعدى لا يحتاج إلى مرشد سياحى، هو يعرف السكك والدروب.
جاء ، نشر، ذهب، التقى، يعرفه الشعراء الشباب، شعراء قصيدة النثر، شعراء الفوضى، جميعا ينظرون إليه كأخ صغير لهم، شاب متقد بالحماسة، كأنه يكتب للمرة الأولى. منذ بضع سنوات أصدر مختارات شعرية صادرة عن دار آفاق بالقاهرة. ذهبت إلى حفل التوقيع. كان يقرأ. رآنى . قطع الاسترسال فى القراءة، صافحنى بعناق حار. كتب إهداء يقول لى فيه: العزيز..... الصديق الكريم فى كل مراحل الرحلة. كان إهداء صادقا ولا يزال.
توقفت عن تعاطى الثقافة والشعر ولزوم ما يلزم لهما، لكننى لم أنقطع عن متابعتى لأبى حيدر. مدافعا عنه ظالما أو مظلوما.
مدافعا عن القامة والقيمة، مدافعا عن الحرية التى دائما هى الأولى حسب يانيس ريتسوس. وفى السنوات الأخيرة تكالبت عليه أحزاب سياسية، جماعات ثقافية، تنظيمات سرية، دول مصطنعة حديثا، على سبيل المثال لا الحصر: سحبت دولة الإمارات العربية المتحدة منه جائزة العويس التى كان قد فاز بها منذ سنوات. بات اسمه محرما حتى من الأخبار الصغيرة فى عموم جغرافية الصحافة والتليفزيون وفى المنتديات الثقافية فى تلك الدولة الخليجية الغنية.
أما فى العراق فصار اسمه ممزقا بين ثلاث مناطق، يعتبره الجنوبيون طائفيا سنيا. يقول الأكراد: إنه عربى عنصرى. الغرب العراقى السنى ينظر إليه بوصفه شيوعيا عتيقا مناهضا لحزب البعث الذى ينتمى إليه معظم أهالى الغرب. ولسان حاله يقول مع المتنبى: فعلى أى جانبيك تميلُ!
أيام إقامته فى باريس رفض أن يتعاون مع الدولة الفرنسة مقابل الإقامة كما يفعل مثقفون عرب يقيمون بفرنسا.
فى لبنان قاوم مع الثورة الفلسطينة أثناء حصار بيروت عام 1982، رفض المغادرة إلا مع آخر الثوار العرب والفلسطينيين. بعض الكتاب اللبنانيين والسوريين هربوا أو سلموا أنفسهم لقوات الاحتلال الإسرائيلية الغازية.
فى عدن، أيام اليمن الجنوبى السعيد، عاش مع رفاقه حتى النهاية، بقى وفيا لحالة عدن التى يحب. لا ينسى أيام الأخضر بن يوسف فى الجزائر.
يتذكر دائما نُقْرة السلمان، السجن الصحراوى الرهيب، المرمى فى صحراء السماوة كعلامة إلهية على مرور البشر والحجر والنخيل.
سعدى يوسف أصبح هدفا للتنشين، منذ أشهر علق على حادثة سوسة التونسية، علق على الشاب الذى أطلق النار على سياح أوروبا فى شاطئ سوسة، فخرج عليه مثقفون وكتاب وشعراء تونسيون مهاجمين إياه بوصفه داعشيا، يا لها من مفارقة أن يكون الشيوعى الأخير وصاحب صلاة الوثنى داعشيا ، عنصريا، متطرفا!!! أما هجوم جحافل ( الثورة السورية) ومراصدهم عليه فحدث ولا حرج!

عن «طائفية» سعدى يوسف!
بقلم: محمد مظلوم
هذه الصورة أستعيدها الآن، عند منتصف النهار فى مقبرة الغرباء فى السيدة زينب قبل بضع ساعات من تلقى سعدى نبأ وفاة ابنه حيدر، وبعد لحظات من مواراة الجواهرى الثرى، وخلفنا يظهر جدار لضريح مصطفى جمال الدين الذى لم يكن مكتملاً وقتها.
فى السابع والعشرين من تموز 1997، رحل الجواهري.
فى اليوم التالى كنَّا فى تشييعه حيث دفن فى مقبرة الغرباء بالسيدة زينب فى الضواحى الجنوبية لدمشق.
انتهى التشييع الحافل بعد منتصف النهار بقليل.
عدنا أنا وسعدى يوسف وحميد العقابى إلى قلب دمشق، حيث سيقام مجلس العزاء عصراً فى المركز الثقافى العربى بالمزَّة فى الطرف الآخر من الشام.
كان علينا قضاء بقية النهار وسط المدينة قبل الذهاب إلى التأبين، جلسنا فى مقهى «السودانيين» عند جسر فكتوريا، وهو مقهى صغير ببضع طاولات لا يصلح لجلسات طويلة! لكن خلال الوقت الذى أمضيناه فيه، ونحن نسترجع الموت العراقى فى المنفى تحت تأثير تشييع الجواهري، سألنى سعدى عن إمكانية أن تكون له دار صغيرة فى «صحنايا» حيث أسكن، لتتحوَّلَ لاحقاً إلى ضريح له! وبينما كنت أمازحه بأن عُمره «عمر تفگة» وبأنه من شعراء السجستانى «المعمِّرين» كان العقابى يعلق بطريقة غريبة، أن والدته كانت اشترت قبراً لها لتدفن فيه! لكنها دفنت ابنها فيه.
ذهبنا للتأبين مبكرين! ولما وصلنا اكتشفنا أنه سيتأخر ولا يزال هناك الكثير من الوقت، دعانا سعدى لشرب «الهينگن» من أحد الأكشاك القريبة لتخفيف حر تموز/يوليو فى الجوف! ثم اقترح أن نمضى بقية الوقت فى مكتب مجلة «المدى» فى منطقة ركن الدين، فالمكتب مكيَّف، والوقت لا يزال مبكراً لبدء التأبين. لم نؤيد الفكرة فى البداية لكنَّ إلحاحاً غريباً من جانبه جعلنا نستجيب. ما أن وصلنا مكتب المدى حتى طالعنا شاكر الأنبارى الذى كان يعمل محرراً فى المجلة وقتذاك بوجه متجهِّم، وسرعان أومأ إلى أن ننفرد فى غرفة جانبية، قال لي: لقد تلقيت اتصالاً قبل قليل بأن «حيدر» ابن سعدى قد توفى فى الفلبين! وطلب منى أن أجد طريقة مناسبة لإخبار سعدى بالخبر المفجع!
بينما كنت أمهَّد الجو للخبر المفجع والصعب، ناب عنى رنين الهاتف الذى سارع سعدى للرد عليه وكأنه استشعر الفاجعة بغريزة الأب، وحدس الشاعر!
تركنا الأب المفجوع لصمته، فبوحه لبعض الوقت، كانت أول عبارة يرددها بعد استيعاب الصدمة: أريد استعادة حيدر، حيدر الذى كنت أحمله صغيراً، أريد أن أستعيده لأدفنه هنا فى الشام!
بعد قليل وفى مجلس عزاء الجواهري. وقف سعدى يتلقى التعزية برحيل الجواهري. ولم يكن الكثير من المعزين يعرف بأن الأشيب المجلل بالسواد تلقى خبر رحيل ولده قبل قليل.
فى اليوم التالى كان فى عمان، ومنها للفلبين لاستعادة حيدر.
بعد أيامٍ كنا فى المطار لاستقبال الجثمان، بينما كان سعدى فى طريق آخر من عمان إلى دمشق!
فى السيدة زينب طيفَ بجنازة حيدر بالحضرة ثمّ وضع للصلاة فى صحن المقام، وصلى عليه رجل دين بعمامة سوداء! ولم تشترك الأحزاب الإسلامية فى المعارضة العراقية فى التشييع! لأنَّ الجَنَازة تخصُّ ابنَ الشيوعي!
فى المقبرة، كان رجل الدين يلقِّن حيدر، كما لقَّنَ الجواهرى من قبله بأيام!
بعد دفن ولده، كتب سعدى يوسف افتتاحية مجلة المدى، بعنوان: عودة الابن غير الضال! يصف فيه ظروف رحلته إلى الفلبين، لاستعادة «جثمان» ولده، كانت تلك الاستعادة تنطوى على رمزية كبيرة، شبهتها مرة باستعادة جسد هكتور، من قبل أبيه بريام فى إلياذة هوميروس:
«سآخذك إلى دمشق
ستجاور طهر العرب: السيدة زينب
وستأتى أمك من شمال العالم!
جئت أستردَّك وها أنا أفعل.
الرحلة لم تنته يا حيدر
أنت الآن تجاور طهر العرب: السيدة زينب، الحوراء زينب.
قالت زوجتك وأنا أكابد فى مانيلا تعقيدات استردادك:
قد لا يريد حيدر أن يفارق المكان!
ربما رأتْ هى ذلك
لكنى يا ولدى جئت أستردّك.
فاغفر لى أن جعلت مقامك ومقامى فى يوم لا ريب فيه قرب الجواهري!
أغفر لى لكن كان عليَّ أن أجعل مكانك قرب البيت»
ألأجل هذه الكلمات كتب طائفة من عراقيى «فقهاء المارينز» فى وقت مبكر أن سعدى طائفي؟ ألأجل هذه الكلمات كتب بعض عشاق الربيع الدَّامى من السوريين محتجِّين على موقف سعدى يوسف من الربيع المزعوم بأنه: صفوى ومجوسي! أم احتجاجا على توظيفه الأغنية الفلكلورية العراقية عن «عيشة بنت الباشا» التى تلعب بالخرخاشة؟ ومقاربتها مع عائشة الحميراء؟
مرة كتب لى أحدهم يقول: كيف لا ترى البعد الطائفى فى كتابات سعدي، وهو يركز على زعماء الشيعة.. ولم يكتب ضد أية شخصية سنية! (كذا) قلت له: وماذا بشأن ما كتبه عن الطالبانى والباججى والياور، وأيهم السامرائي...إلخ.. فأجابنى هل كتب حقاً؟ كأننى أكشف له حقيقة غائبة، بينما مقالات سعدى تلك راجت رواجاً كبيراً! لكنها ربما تنفع لتصنيف من نوع آخر! اللافت أن غالبية من يهرفون بطائفية سعدي، يعيشون تحت ظلال أسوأ نموذج ممكن للدولة الطائفية، وهم ينعمون بتمجيد رموزها.
من يتحدثون عن طائفية صاحب «صلاة الوثني» كمن يتحدث عن «شيعية» امرئ القيس، و«سنيَّة» طرفة أو «كاثوليكية» هوميروس، ويهودية أوفيد! ومن يدر؟ فلعلَّ هذا ليس حديث خرافة! فى زمن الثقافة/ الخرافة.

شهادةُ جنسيةٍ
في العراق ، يتعيّن على الفردِ ، كي يُثْبِتَ انتسابَه إلى بلدِهِ ، استصدارُ وثيقتينِ : الأولى تدعى الجنسية ، وتتضمّن معلوماتٍ عن مكان الولادةِ وتاريخِها ... إلخ . أمّا الثانية فتُدْعى شهادة
الجنسية ، وهي لازمةٌ للقبول في الجامعة ، والوظيف العمومي ، والانتساب إلى الجيش والشرطة والأمن ، وتتضمّن معلوماتٍ عن أصل العائلة ، وعمّا إذا كانت من التبعية العثمانية أو الإيرانية .

عربيٌّ من العراقِ ...
أنا : البصرةُ ، بيتي ونخلتي . وأنا النهرُ الذي سُمِّيَ باسمي ورملةُ اللهِ دربي وخيمتي . الأثَلُ الشاحبُ سقفي وملعبي ، وخليجُ اللآلئ - الوعد ِ لي . والبحرُ لي . والسماءُ دوماً سمائي .

عربيٌّ من العراقِ ...
أنا : الكوفةُ ، ما خُطَّ في العروبةِ خَطٌّ قبلَها . والعواصمُ الألفُ ما كانت سوى من كِنانتِها . بيتُ عليٍّ ، والمسجدُ الجامعُ ، والنهرُ . هل تخَطَّينا الكتابةَ؟ الحرفُ كوفيٌّ ، وقرآنُنا وصيٌّ عليها .

عربيٌّ من العراقِ ...
أنا : المَوصلُ، خيلٌ وخُضرةٌ . كان سيفُ الدولةِ الأميرَ ، وكانت حلبٌ أُختَها . السفائنُ في النهرِ . المُغَنّونَ في الضفافِ . هنا صاحبُ البريد أبو تمّامٍ . المرمرُ الصقيلُ هي الموصلُ ، والأهلُ ، والنضالُ الطويلُ .

عربيٌّ من العراقِ ...
أنا: هذا الفراتُ ، الذي يوحِّدُ أهلاً ، وبلاداً ، وأُمّةً . كلُّ كفٍّ من مائهِ موعدٌ في جنّةِ الخُلْدِ . يا صبايا الفراتِ ، صبراً ! لكُنَّ النهرُ والفخرُ ...
سوف يأتي زمانٌ للتهاليلِ . نحن نُقْسِمُ بالنهرِ ، وباللهِ ، والسوادِ الأصيلِ .

عربيٌّ من العراقِ ...
أنا: بغدادُ، موصوفةً بما ليس في الوصفِ . الكتابُ العصيُّ. والجنّةُ.
الدربُ المؤدِّي إلى الدروبِ . أتاها كلَّ عصرٍ برابرةٌ . لكنّها أحكمتِ الأنشوطةَ.
العزيزةُ بغدادُ .
والأسيرةُ بغدادُ،
والأميرةُ بغدادُ...
والجدارُ الأخيرُ .
لندن 20.9.2006
الفلبين ..
«ثم وصلنا إلى بلاد طواليسي، وهي بلادٌ واسعةٌ، وملكهم منافسٌ وندٌّ قويٌّ لملك الصين، ويمتلك العديد من السفن الشراعية التي يشنّ بها حرباً على الصينيّين حتى يقبلوه ويحترموه ويفاوضوه على بعض الشروط. وهم وثنيّون ويشبهون الأتراكَ في الشكل ولكنّ لون بَشَرتهم حمراء نحاسيّة وهم شجعان ومحاربون أقوياء ونساؤهم فارساتٌ يركبن على ظهر الفرس ويقاتلن كالرجال ويستخدمن النبال والسهام بمهارة فائقة، ورسونا في ميناء بلدة كايلوكاري، وكان يحكمها ابن الملك، وهي من أكبر وأجمل مدنهم، وأحاطت بالسفينة القوّاتُ والجنود المحليّون، فذهب إليهم قائد السفينة حاملاً معه هدية لأميرهم وسألهم عنه، فأخبروه بأن أب الأمير، الملك، عيّنه حاكماً لمنطقةٍ أخرى، وجعل ابنته أوردوجا حاكمةً لهذه المدينة.
وفي اليوم التالي استدعت الأميرة قائد السفينة وجميع ركّابها وكبار الشخصيات المحلّيّين وقائد الجند لحضور مأدبة غداء، وهذه من عاداتهم في إكرام الضيف. وحضر إليّ قائد السفينة وترجّاني أن أذهب معهم، ولكني رفضت أن أهبط من السفينة وآكل غذاء الكفّار الوثنييّن. وعندما ذهب طاقم السفينة سألتهم الأميرة هل بقي منكم أحدٌ لم يحضر؟
ساعدتنا في رحلة البحر للصين.
وأخبرني القائد بأن هذه الأميرة عندها نساء في جيشها وخدم نسائي وجوار يحاربن كالرجال. وتخرج بنفسها للقتال مع جيشها المؤلف من النساء والرجال، وتهاجم الأعداء وتخترق الصفوف. وأخبرني القائد بأنها رفضت الزواج من الأمراء وتقول إنها سوف تتزوج فقط الفارس الذي يغلبني. والفرسان يتجنّبون محاربتها لقوّتها وشدة بأسها، والخوف من الخزي والعار إذا تغلّبتْ عليهم».
حيدر ينام
كالمستريحِ إلى النعاسِ دقيقتَينِ
ينام حيدر...
حوله الأزهار، والشمعُ الطويلُ
وضجّةُ الناسِ الذين يغمغمون
ويلعبون لأجْلِه ورَقاً... (هي الفلبين)
حيدرُ مغمضُ العينين
في شفتيه شيءٌ مثلُ شكوى، مثلُ لونٍ للمَلامةِ؛
كان حيدرُ ناعمَ الخدَّينِ
في أبهى أناقتِه...
نظيفاً
لامعاً
مترقرقَ النُّعمى كعادتِه،
وكان ينام...
يا ولَدي
قطعتُ الكونَ
أسبِقُ شمسَه لأراك...
يا ولَدي،
تفارقُني كعهدكَ؟
خلِّني ألمسْ يديكَ
وخلِّني أخبرْكَ عن وجَعي
وما صنعت بيَ الدنيا...
لمن أشكو إذا لم أشْكُ عندكَ؟
هكذا انقطعتْ بنا الدنيا. إذاً!
أرجوكَ...
يا ولدي،
تَنَفّسْ بُرهةً!
افتَحْ، ولو لدقيقةٍ، عينيكَ!
أبصِرْ، لحظةً، شيبي
وماءَ دمي الذي يَنهَلُّ من عينَيّ...
أبصِرْني
انتظِرْني...
كيف تسبقُني،
وتتركُني وحيداً في المفازةِ؟
يا صغيري نَمْ
تحَرَّرْ
طِرْ بعيداً
واسترِحْ من لعبةِ العبَثِ الطويلةِ ...
نَمْ
ودعْني في الجحيمِ!
(عَمّان 03.08.1999)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.