يجمع النقاد على اعتبار الشاعر العراقى بدر شاكر السياب صاحب دور ريادى فى إطلاق الشعر العربى الحديث وفى اقتحام ميدانه منذ أربعينيات القرن الماضي. ولقد أتيح لي، عندما كنت أتابع دراستى فى العراق فى الأعوام الأخيرة من الأربعينيات، أن أواكب بدايات تلك النهضة الجديدة فى الشعر العراقي، وأن أقيم علاقة صداقة مع كل من بدر شاكر السياب وبلند الحيدرى ونازك الملائكة وأكرم الوترى ولميعة عباس عمارة الذين عبّروا فى شعرهم عن هذه النهضة. كان واضحاً بالنسبة إليّ أن لكل من الأربعة أسلوبه الخاص به فى التحديث الشعري. لكنهم كانوا يلتقون حول احترام الموسيقى تمييزاً للشعر عن النثر، من دون التقليل من أهمية ما صار يعرف بقصيدة النثر. وأذكر من بين شعراء النثر فى تلك الحقبة الفنان التشكيلى نورى الراوى فى العراق والياس خليل زخريا وبشر فارس وألبير أديب مؤسس مجلة “الأديب” فى لبنان. كان بدر شاكر السياب، فيما أذكرعن تلك الحقبة، الأكثر غنىً وتنوعاً والأكثر إثارة للإهتمام فى الأوساط الأدبية. كان لا يزال طالباً فى السنة النهائية فى دار المعلمين العالية. وكان عضواً فى الحزب الشيوعى العراقي. وكان، بسبب انتمائه السياسى ذاك، على خلاف مع عائلته. ورغم أن ذلك الخلاف كان مربكاً له فى تلك الفترة الحرجة من حياته ومن حياة العراق، فإنه كان صارماً فى تمسكه بانتمائه السياسي، يجاهر به من دون أدنى مساومة. وكانت أكثر لقاءاتى معه فى منزل الأديب اللبنانى - العراقى محمد شرارة الذى كان يقع فى منطقة الكرادة الشرقيةجنوببغداد. وكانت تحضر معظم تلك اللقاءات الشاعرة لميعة عباس عمارة. وكان الشاعران يتبادلان قصائد الحب التى كان فيها بدر أكثر صدقاً من لميعة. وكان ذلك الأمر موضوعاً للأحاديث بين أدباء تلك الحقبة، وكنت شاهداً عليه. كان بدر كتلة من المشاعر. وحين كان يقرأ قصائده كانت مشاعره تفيض إلى الحد الذى كان يوحى للمستمعين إليه وكأنه يقدم إليهم اعترافاً وجدانياً يعبّر فيه بلغة الشعر عن عميق ما كان يجيش فى داخله من أحاسيس لم يكن يطيق أن تبقى كامنة فى داخله، ولم يكن يجرؤ على الجهر بها بالكلام المباشر. كان يعشق النساء والأشياء الجميلة بصدق وبعمق وبخفر كالأطفال. وكان فى الوقت عينه دائم الشك فى قدرته على إيصال مشاعره إلى من يحب من النساء وإلى الآخرين من أصدقائه. كان ضعيف البنية نحيلاً قصيرالقامة غير جميل المحيا. لكنه كان فى مشاعره شديد الحساسية تجاه نفسه وتجاه الآخرين. وكانت حركات يديه، خلال قراءة القصيدة، تذهب فى اتجاهات شتى حول أعضاء جسمه وفى اتجاه المستمعين، من دون أن يحرك عينيه إلا فى اتجاه داخله هو كما لو أنه كان يقرأ لذاته وليس لشهود من أصدقائه ومحبيه ومحبى شعره الجميل. لكننا، أنا وأصدقاءه، كنا نحاول تحريره من تلك الأحاسيس والمشاعر الوجدانية الفائضة عندما كنا ننتقل من الحديث عن الشعر إلى الحديث فى الشأن السياسى وعما كانت تضج به الأحداث. وكانت تلك الحقبة حبلى بالأحداث عراقياً وعربياً. وكانت أبرز تلك الأحداث انتفاضة الشعب العراقى فى عام 1948 ضد المعاهدة العراقية – البريطانية التى حملت اسم “معاهدة بورتسمارث”، اسم المدينة البريطانية التى وقّع فيها رئيس الحكومة العراقية آنذاك صالح جبر تلك المعاهدة. ومعروف أن تلك الإنتفاضة انتهت بإلغاء المعاهدة كهدف مباشر من قيامها. وتبع ذلك دخول العراق فى فترة سماح ديمقراطية كان الشعب العراقى بحاجة إليها لالتقاط الأنفاس بين مرحلة من القمع ومرحلة تليها أشد قسوة. لكن تلك الفترة من الحرية التى اتخذت طابعاً فوضوياً لم تدم سوى بضعة أشهر. إذ ما أن سادت الفوضى فى البلاد فى ظل ذلك المناخ النادر من الحرية والديمقراطية حتى انقض أهل النظام الملكى على الإنتفاضة وعلى أبطالها. وكان من أسباب تلك الانتكاسة ذلك الإنقسام المدمرالذى ساد بين الشيوعيين والقوميين، والذى عطل الحياة وقاد كثرة من القوى الديمقراطية الوسطية إلى الإنكفاء. وقد ساهم ذلك الوضع فى عودة القمع إلى سابق عهده. فأعدمت السلطات قادة الحزب الشيوعى بعد أن كانوا قد قضوا فى السجن بضعة أعوام سابقة على تلك الإنتفاضة. ودخل السجون العديد من النخب السياسية والثقافية كان فى مقدمتهم الشاعران الجواهرى والسياب. حصل ذلك كله فى النصف الأول من عام 1949. والغريب فى الأمر أن الصراع بين الشيوعيين والقوميين استمر حتى فى الفترة التى كان فيها قمع السلطات يتزايد ويتخذ أشكالاً فظة بمقياس ذلك الزمان. وكان من الطبيعى أن تترك تلك الصراعات والإنقسامات والمواقف المختلفة هنا وهناك من مجمل القضايا العراقية الخاصة ومن القضايا ذات الصلة بالأوضاع العربية، وبالأخص منها قضية فلسطين، انعكاساتها على المثقفين بعامة، وعلى بدر بالذات أكثر من سواه.. وأصابت بدر بعض سهام تلك الخلافات. فأحدثت اضطرابات فى داخله سرعان ما زعزعت ثقته بانتمائه إلى الحزب الشيوعي. ولم يلبث أن غادر موقعه فى الحزب إلى مواقع سياسية أخرى شديدة الإلتباس. وكان من المؤسف أن يتورط بدر فى مجموعة من المواقف ضد الحزب الشيوعى شجعه عليها بعض خصومه وخصوم الحزب فى العراق وخارجه. وبرزت تلك المواقف فى مجموعة من الرسائل إلى أصدقائه هاجم فيها الحزب الشيوعى والشيوعية بلغة لا تليق بشاعر مثله. وصدرت تلك الرسائل فى كتاب. لكن كل تلك التحولات لم تترك أى تأثير على تطور تجربته الشعرية. بل لعلها ساهمت فى صقلها وفى إغنائها. وظل يكبر كواحد من رموز شعراء الحداثة إلى أن غادر الحياة مريضاً فى منفاه بعيداً عن وطنه وعن أهله وعن سربه الأصلى من المثقفين والسياسيين. وكان ذلك فى عام 1964. ولم يكن قد بلغ الأربعين من عمره. فهو قد ولد فى عام 1926 فى قرية “جيكور” التى تقع على “نهر أبو فلوس” فى شط العرب غير بعيد من منطقة “أبى الخصيب”. توفيت والدته وهو فى السادسة من عمره. وكان شديد التعلق بها. فترك غيابها أثراً كبيراً فى نفسه ربما يكون من أسباب حالة الحزن ومسحة التشاؤم والسوداوية التى ظلت ترافقه على امتداد حياته، وحفلت بها معظم قصائده التى كتبها فى السنوات الأخيرة من حياته. فكان الموت هو القاسم المشترك بين تلك القصائد. وكانت العائلة قد منيت بنكسة إقتصادية فى المرحلة التى أعقبت وفاة والدة بدر. وكان من نتائج تلك النكسة إهمال الأطفال والتقصير فى تلبية مطالبهم. وكان والد بدر قد تزوج من امرأة أخرى بعد وفاة الوالدة. لذلك كان بدر يفر إلى قرية “جيكور” البلدة التى كانت ترعاه فيها أمه وتهتم به. وهذا ما يفسر كيف أن “جيكور” قد احتلت مكاناً خاصاً فى شعره. ولأنه كان يفتقد إلى الوسامة وهو طفل ثم وهو فى سن المراهقة، فقد كان الحب بالنسبة إليه مثل الحلم والخيال. أنهى بدر دراسته الإبتدائية فى “مدرسة باب سليمان” فى “أبى الخصيب”. وأنهى دراسته الثانوية فى “مدرسة البصرة” فى عام 1943. ويقول صديقه محمد على اسماعيل، وفق ما يشير إليه الدكتور إحسان عباس فى كتابه المهم عن بدر شاكر السياب “دراسة فى حياته وشعره”، أن بدراً بدأ الشعر فى المرحلة الإبتدائية من دراسته. وكانت قصيدته الأولى وصفاً لمعركة القادسية. ويقول الدكتور عباس أن بدراً لم يحتفظ بقصائده الأولى، وإن القصيدة التى يذكرها من البدايات هى قصيدة كتبها فى عام 1941 عندما كان يتابع دراسته فى مدرسة البصرة الثانوية. وكان عنوان القصيدة “على الشاطئ”. وفيها يبدأ بدر فى الشكوى من مأساة حياته قبل أن يكبر ويرى الحياة ويكشف فيها حظه منها. يقول فى هذه القصيدة: على الشاطئ أحلامي طواها الموج يا حب وفى حلكة أيامي غدا نجم الهوى يخبو عزاءً قلبى الدامي انتقل بدر إلى بغداد فى مطلع العام الدراسى 1943-1944 لمتابعة دراسته الجامعية فى دار المعلمين العالية. وكان ذلك الإنتقال بالنسبة إليه مدخلاً إلى حياة جديدة مختلفة عن كل ما سبق من حياته. إذ انفتحت أمام عينيه عوالم جديدة. وبدأ يتعرف إلى الأدباء. وبدأ شعره يتخذ مناحى ومواضيع جديدة. ففى بغداد برزت أمامه كل القضايا التى كانت تواجه العراق داخلياً وخارجياً وتواجه الثقافة والمثقفين. وإذا كان قبل ذلك قد بدأ يتلمس قضايا شعبه بوعى غامض، فإنه قد بدأ فى بغداد يزداد وعياً بالأمور الكبيرة ويرقب بوعى الأحداث ومعانيها. وبدأ يأخذ طريقه إلى الإنتماء السياسى الذى لم يطل الزمن حتى قرر، وهو فى دار المعلمين العالية، الإنتساب إلى الحزب الشيوعى العراقي. لكنه فى تلك المرحلة بالذات كان يزداد شغفاً بالقراءة. ولم يكن الشعر وحده هوايته فى القراءة رغم أنه غاص فى عالمه كثيراً. بل هو وسع مجالات قراءاته لتشمل شتى ميادين الثقافة والمعرفة. إذ رأى فى ذلك مصدراً لتكوّن شخصيته، وربما لصياغة حلم يعوّض فيه عما كان فى داخله يعمق سوداويته. لكنه فى قراءته الشعر لم يكتف بالتراث الشعرى العربى القديم. بل هو ذهب إلى الشعر الأجنبى ينهل من ينابيعه ويغنى موهبته. فى دار المعلمين تنوعت اهتمامات بدر من دون أن يطغى أى منها على أحاسيسه التى كان الشعر هو متنفسها. وفى الوقت الذى كانت تنتهى فيه الحرب العالمية الثانية بهزيمة الفاشية كانت جريمة هيروشيما تثير عنده أحاسيس إنسانية عميقة الجذور. ولم يلبث بدر أن بدأ يمارس مع أصدقائه نشاطه السياسي. وقادته مشاركته فى المظاهرات الطلابية إلى الفصل من دار المعلمين. الأمر الذى اضطره إلى العودة إلى الريف. فترك ذلك الأمر عنده أثراً كبيراً من الغم، أضيف إلى ما كان يملك منه الكثير منذ الصغر. عندما قام الشعب العراقى بانتفاضته المشهودة فى مطلع عام 1948 كان بدر قد أصبح شيوعياً مرموقاً. وكان قد تخرج من دار المعلمين وصار مدرساً. وكان له مثل سواه من الشعراء دور فى تخليد تلك الإنتفاضة. ويقول السياب فى أحد أحاديثه عن تلك الفترة أنه دعى إلى حفلة نظمها الحزب الشيوعى فى منطقة الكرادة تحدث فيها الأديب محمد شرارة، وألقى هو فيها قصيدة يقول فيها: ما زال يملأ مسمع الأحقاب ذاك الهدير من الدم السياب يعلو فيرتجف الطغاة وتمحى أسطورة الأحساب والأنساب فى تلك الفترة كان بدر قد أصبح شاعراً تلتفت إليه أنظار النقاد فى العراق خصوصاً. وفى تلك الفترة بالذات أصدر ديوانه “أزهار ذابلة” الذى طبع فى مصر. وتوطدت علاقته بشعراء وأدباء تلك الفترة وفى المقدمة منهم الجواهرى وحسين مروة ومحمد شرارة وبلند الحيدرى ونازك الملائكة. وبدأ يجدد أسلوبه الشعرى فى المضمون وفى شكل التعبير عن أفكاره ومشاعره وتصوراته. وكانت تلك بدايات دخوله فى الحداثة الشعرية التى ساهم مع شعراء عراقيين ومصريين خصوصاً فى جعلها ظاهرة جديدة فى الشعر العربى الحديث. يتحدث بدر عن السنوات الخمس من دراسته فى دار المعلمين العالية، التى أنتهت بحصوله على الشهادة العليا فى اللغة الإنكليزية والأدب الإنكليزي، فيلخص بعض ما حصل عليه فيها قائلاً: “درست شكسبير وملتون والشعراء الفكتوريين ثم الرومانتيكيين. وفى سنتيّ الأخيرتين فى دار المعلمين العالية تعرفت لأول مرة إلى الشاعر الإنجليزى ت.س. إليوت. وكان إعجابى بالشاعر الإنجليزى جون كيتس لا يقل عن إعجابى بإليوت.” عيّن بدر بعد تخرجه من دار المعلمين مدرساً فى مدرسة الرمادى الثانوية. لكنه فصل فى الفترة الأولى من ممارسة التدريس بسبب انتمائه الشيوعي. فاختار العمل فى شركة نفط البصرة. لكنه عاد فترك العمل فيها واختار التفرغ لعمله الأدبي. وفى العام الأخير من دراسته فى دار المعلمين صدر ديوانه “أساطير”. ويقول الدكتور إحسان عباس فى كتابه المشار إليه آنفاً إن هذا الديوان يصوّر الكفة الذاتية العاطفية فى ميزان السياب، وإن ديوان “زئير العاصفة” يمثل الجانب الإجتماعى فى شعره. ترك السياب العراق هرباً من القمع الذى ساد ابتداءً من عام 1949. وذهب إلى الكويت. وهناك تابع إبداعه الشعري. وظهر إلى الوجود عدد من القصائد الطويلة التى عبّرت عن ثبات موقعه فى حركة التجديد فى الشعر. عاد السياب إلى الوطن من الكويت بعد فترة هدوء كان قد شهدها العراق فى مطلع الخمسينات. لكنه رأى الأمور قد تغيرت، ورأى رفاقه القدامى قد بدأوا يشككون بانتمائه الأصلى إلى الحزب وإلى أفكاره. وكان البياتى قد برز فى تلك الفترة شاعراً مبدعاً من جيل رواد حركة التحديث فى الشعر. وكانت قصائده تلقى الترحيب من النقاد من أهل اليسارخصوصاً. إذ صار البياتي، فى غياب السياب، شاعر أهل اليسار أكثرمن سواه بمن فيهم السياب ذاته. ويتحدث البياتى فى سيرته الشعرية عن بداية الخلاف بينه وبين السياب. ويرجع ذلك الخلاف إلى التناقض بين أهل المهنة الواحدة. كما يرجعه إلى كونه، أى البياتي، كان أكثر التزاماً بقضايا بلده فى مواقفه السياسية وفى شعره من دون أن يكون ملزماً بإعلان انتسابه الرسمى إلى الحزب الشيوعي. فى تلك الفترة بالذات بدأت عملية الخروج التدريجى للسياب من أسرة أهل اليسار. فغادر العراق إلى لبنان. والتقى مع جماعة مجلة “شعر”. واهتمت به مجلة “الآداب” التى كانت قد شكلت قصائده المنشورة فيها مصدراً من مصادر قوتها. لكنه فى لبنان بالذات بدأ يشعر بالكآبة. وهى الكآبة التى يولدها المنفى عند الشاعر إزاء إحساسه بالغربة عن وطنه العراق وعن أهله فيه وعن ذكرياته وعن رفاقه الذين تركهم وتركوه. وازدادت سوداويته. ثم أصيب بمرض السل الذى كان يأكل منه بالتدريج عافيته ومشاعره ويلقيه فى بحر هائج من التشاؤم. وقاده ذلك المرض إلى الموت باكراً. وكان لشدة إحساسه باقتراب أجله قد بدأ ينبئ جميع الناس بذلك بأعلى الصوت: الداء يثلج راحتيَّ ويطفِّئ الغد فى خيالي ويشل أنفاسى ويطلقها كأنفاس الذبال تهتز فى رئتين يرقص فيهما شبح الزوال مشدودتين إلى ظلام القبر بالدم والسعال واحسرتا! أكذا أموت كما يجف ندى الصباح ما كاد يلمع بين أفواف الزنابق والأقاحي فتفوح أنفاس الربيع تهز أفياء الدوالي حتى تلاشى فى الهواء كأنه خفق الجناح وهكذا يموت الشاعر قبل الموعد المحتوم بزمن طويل. يموت وهو فى ريعان الشباب. يموت فقيراً ومريضاً ومتعب المشاعر. يموت فاقداً الأمل فى كل شيء، فى الحب وفى الحياة وفى الفرح. لكنه يموت شاعراً كبيراً مخلّداً فى شعره الريادى كواحد من كبار رواد الشعر الحديث. لمزيد من مقالات كريم مروَّة