بوابة الأهرام العربي فى صبيحة أحد الأيام استيقظت الزوجة واهنة صفراء تسعل سعالا حادا ناشفا ، وضع زوجها يده على جبهتها فوجدها شديدة السخونة ؛ جرى على طلمبة المياه فوجدها مشحطة ، وضع بفوهتها بعضا من ماء الترعة ، وظليرفع يدها ويخفضه بسرعة لاهثا حتى خرج ماؤها، حمل جرته وبلل منديله وكرر تغيير الكمادات حتى تنخفض الحرارة ،لم يفلح فحملها ووضعها بطشت الاستحمام وأفرغ فوقها جردلين متتالين من الماء البار دفهقت وارتعشت ولم تهدأ الحرارة إلا قليلا ،سحب حمارته العجوز ووضع بردعهتا فوقها ووضعها ومضى يسندها حتى محطة القطار للطبيب الذى يعرفه بالمركز..... بعد فحص طويل وأسئلة كثيرة مرهقة طلب الطبيب عمل أشعات وتحاليل وكتب مسكنات قوية زادت السعال حدة وابتعدت بالنوم أكثر وراح الهم وجاء تتقلب ببطن كالبحيرة الصاخبة كل ما فيها يتحرك كالقدر المغلى، يكاد فورانه يلفح شفتاها ، يجلس الزوج بجوارها يود لو ألصق فوهة الطلمبة بفمها علها تهدأمن لفح النار الصاعدة..... فى اليوم التالى خرجت نتيجة التحليلات والأشاعات فأمرالطبيب زوجها أن يصحبها للإنتظار خارج غرفة الكشف وأحكم غلق الباب وقال : إنه السرطان....!! تعلق بصره بسقف الغرفة وأخرجت طبقات الذاكرة لعبهم سويا ،وهم صغار ومنديلها الوردى المزركش، وعيناها السوداوان وفرحة أمها الغامرة بخطوبتها وأبيها المتوفى الذى قال ستتزوجها وتكون أخا أكبر لإخوتها الصغار... لا تهملهم ....هم برقبتك... دار الطبيب حول منضدته يغلق جهاز قياساً لضغط ويسحب ستارة سرير الكشف قائلا : ...أقدار..... ما عليك سوى أن تظل معها بالعلاج حتى الرمق الأخير ،هذا واجبك وكتب على عجل تحويلا لمستشفى حكومى بالعاصمة ، يود أن يدخل المريض التالى ويكون سليما وبعد فحصه يضحك بوجهه ساخرا ؛ يا رجل أنت أسد دع الأوهام لا تفسد حياتك وتمتع بها.....! حين تسلم الزوج التحويل ربت الطبيب على كتفه وقال: قل لها ارتفاع بالحرارة والعلاج سيخفضه .. قطعاً الليل ببيتهم وسط الحقول النائمة إلا من عواء الكلاب التى يقال : أنها ترى عزرائيل وهو بطريقه لقبض أحدهم فتعوى من شدة منظره، وغالبا فى الصباح ستعلو ميكروفونات المساجد بالنداء ؛ عليه ليخرج المشيعون لأداء صلاة الجنازة، أيكون قادماً نحونا ؟ تمتلئ الغرفة بالظنون، ما بين الجحيم والجحيم هويقبض على السر الفاجع وهى تنظر بعينيه وجسمها لا يكذب،لا يريد البوح فقد تسقط منهول الصدمة ولا يرحمه ضميره بقية عمره ، تتقلب من ألم الغول الهائل الذى يغتصب ويلتهم خلاياها بصمت ، صمت خائن يبعث فيها إحساسا بحدوث أىشيء ،تتمتم لو يأتى عزرائيل مرّة واحدة وينهى كل شيء ، لو تنسرب روحى لكنها تتدارك نفسها وتقول : قد ينقذني طبيب العاصمة ويذهب كل شيء.....! عند الثامنة وقفت السيارة البيجو البيضاء أمام بيتهم تدور عيناها بسقف غرفتها تتذكر الليلة الأولى وطفلتها الأولى وفرحتها بوصول الولد الذى جاءها بعد ستة بنات ، تتعلق عيناها بعروق السقف الخشبية المشققة التى ذكرتها بخشبة غسل الموتى التى تستقر هناك بجوار حائط المسجد ،كانت تشاهدها وهى تعبر لتضع الصدقة عند ضريح الوليّ ، تجهش بالبكاء وهى تراهم يحملونها لداخل بيتها بعد أن رشوا على سطحها الماء البارد فهى تظل طوال اليوم بلفح الشمس ولا تهنأ إلا مع الغروب أو بالشتاء حين تتمدد ألواحها المدهونة بالأخضر حتى تلتحم ،أخذها بحضنه وقال : ستشفين والصهد يأتى متصاعدا بوجهه من فمها فالغول يعمل بجد وهى صارت نحيلة واهنة لا تكاد تصلب طولها ومن أمام غرفتها دارت عيناها الغائرتان بوسط الدار الكبير وسُلمه، وشاهدت بقعة الشمس الساقطة من مسقط السُلم والطلاء المتقشر يكاد يتفتت ويسقط كأنها تدخل الدار التى عاشت بها ثلاثين عاما لأول مرّة ،عبرت الباب الخارجى فشاهدت الجمل البارك يثغو ويزوم محركا رأسه بوقار مهيب وتحركت الدجاجات أمامها حركة كسولة صامتة حتى الشجر حين رفعت رأسها كأنه تحجر ومع حركة قدمها اليسرى وهى تضعها بالسيارة البيضاء تعالى الصراخ والعويل كأنها تذهب لقبرها حية.....!!