«يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    «شعبة المستوردين»: مصر نجحت في كسب ثقة المؤسسات المالية العالمية    إزالة 164 إعلان مخالف وتقنين 58 آخرين في كفرالشيخ    توريد 58 ألفا و99 طن قمح إلى صوامع وشون القليوبية    «التنمية المحلية»: مبادرة «صوتك مسموع» تلقت 798 ألف شكوى منذ انطلاقها    رفع 980 طن مخلفات بحملات نظافة بالمراكز والقرى تزامنًا مع شم النسيم في أسيوط    الطن يسجل هذا الرقم.. سعر الحديد اليوم الاثنين 6-5-2024 في المصانع المحلية    بدء عملية التصويت بالانتخابات الرئاسية في تشاد.. مَن المرشحون؟    «أونروا»: سنحافظ على وجودنا في رفح الفلسطينية لأطول فترة ممكنة    بمناسبة عيد ميلاده.. كوريا الشمالية تدعم الزعيم كيم جونج أون بقسم الولاء    موعد مباراة باريس سان جيرمان وبوروسيا دورتموند في دوري أبطال أوروبا.. المعلق والقنوات الناقلة    ذكرى وفاة المايسترو.. صالح سليم الأب الروحي للقلعة الحمراء (فيديو)    «الرياضة» تستعد لإطلاق 7 معسكرات شبابية جديدة في مختلف أنحاء الجمهورية    تشغيل قطار شم النسيم من القاهرة إلى الإسكندرية اليوم.. اعرف طريقة الحجز    «الداخلية»: 4 متهمين وراء مقتل «مسن الوادي الجديد» بسبب خلافات مالية    «الداخلية»: ضبط قضايا اتجار في العملة ب13 مليون جنيه    إيرادات علي ربيع تتراجع في دور العرض.. تعرف على إيرادات فيلم ع الماشي    4 أفلام تحقق أكثر من 7.5 مليون جنيه في دور العرض خلال 24 ساعة    في ذكرى ميلادها.. محطات فنية بحياة ماجدة الصباحي (فيديو)    رانيا محمود ياسين تعلن وفاة عمها الإعلامي فاروق ياسين    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    استشاري تغذية توجّه نصائح لتفادي خطر الأسماك المملحة    في شم النسيم.. هيئة الدواء توجه 7 نصائح ضرورية عند تناول الفسيخ والرنجة    قبل أولمبياد باريس.. زياد السيسي يتوج بذهبية الجائزة الكبرى ل السلاح    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    سام مرسي يتحدث عن.. عودته للمنتخب.. تأثير صلاح.. ورسائل الشعب الفلسطيني    بالفيديو.. مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية: شم النسيم عيد مصري بعادات وتقاليد متوارثة منذ آلاف السنين    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    الاتحاد الأوروبي يعتزم إنهاء إجراءاته ضد بولندا منذ عام 2017    «المستشفيات التعليمية» تناقش أحدث أساليب زراعة الكلى بالمؤتمر السنوى لمعهد الكلى    استشاري تغذية ينصح بتناول الفسيخ والرنجة لهذه الأسباب    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    لاعب نهضة بركان: حظوظنا متساوية مع الزمالك.. ولا يجب الاستهانة به    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    تعرف على أسعار البيض اليوم الاثنين بشم النسيم (موقع رسمي)    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    إصابة 7 أشخاص في تصادم سيارتين بأسيوط    أول تعليق من الأزهر على تشكيل مؤسسة تكوين الفكر العربي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    هل يجوز قراءة القرآن وترديد الأذكار وأنا نائم أو متكئ    طقس إيداع الخميرة المقدسة للميرون الجديد بدير الأنبا بيشوي |صور    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    كولر يضع اللمسات النهائية على خطة مواجهة الاتحاد السكندرى    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    وزيرة الهجرة: نستعد لإطلاق صندوق الطوارئ للمصريين بالخارج    مع قرب اجتياحها.. الاحتلال الإسرائيلي ينشر خريطة إخلاء أحياء رفح    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    استشهاد طفلان وسيدتان جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا في حي الجنينة شرق رفح    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر مذكرات تحية كاريوكا للكاتب الكبير صالح مرسي «الحلقة الرابعة»
نشر في التحرير يوم 23 - 02 - 2014


أعدها للنشر- محمد توفيق
كاريوكا: هربت من البيت عن طريق «المنور» قبل طلوع النهار
العثور على مذكرات كاريوكا أشبه بالحصول على كنز، فمذكرات تحية كاريوكا لا تعكس فقط قصة حياة أشهر راقصة عرفتها مصر، لكنها تعكس صورة لحال البسطاء والحكومات فى مصر طوال ما يزيد على نصف القرن من الزمن.
ولدت قبل 14 يومًا فقط من قيام ثورة 1919، وعاشت أجواء حرب 1948 ووقفت إلى جوار الفدائيين وساعدت فى نقل الأسلحة إليهم، وحين رأت أن ثورة يوليو انحرفت عن مسارها انتقدتها، ودفعت الثمن، ودخلت السجن.
لكن الأجمل والأهم والأمتع هو أن تقرأ هذه المذكرات بقلم العم صالح مرسى الأديب الذى جعل من الجاسوسية أدبًا وفنًا.
فتحية إلى «كاريوكا» بنت البلد المصرية الصميمة، الخالصة، المُخلصة، الشُجاعة، الجدعة، وتحية إلى المبدع الرائع الراحل صالح مرسى، فكلاهما لم يرحل عن القلب والذاكرة رغم رحيلهما عن الدنيا.
قصة الهروب الكبير الذى أوصل تحية كاريوكا إلى القاهرة!
كانت أمور كثيرة قد تغيرت فى شارع عماد الدين فى تلك الأيام من عام 1935. كانت بديعة مصابنى قد انفصلت نهائيا عن نجيب الريحانى، بعد أن يئست من إصلاح عبقرى الكوميديا المصرى.. انفصلت عنه وكوّنت لنفسها فرقة للمسرح الاستعراضى، كانت تدرى -أو لم تكن تدرى!!- أنها ترسى دعائم نوع جديد من الفن الاستعراضى فى مصر، تخرج فيه عشرات النجوم الذين حفلت بهم سماء الفن طوال تلك الحقبة من الزمان، حتى يومنا هذا.
ولقد كان شارع عماد الدين فى تلك الليلة من ليالى أغسطس، حيث وقفت بدوية فوق سطح البيت مع عثمان، يعج بالحياة.. رغم اقتراب الفجر، ورغم هجرة أغلب نجومه، مع حر القاهرة، إلى الإسكندرية، أو شواطئ النيل فى روض الفرج أو عند كوبرى بديعة!
كان من عادة نجيب الريحانى أن يغلق مسرحه فى الصيف، أما بديعة مصابنى فكانت تنتقل مع فرقتها التى تضم فى الأغلب الأعم نجوما من الشباب.. مثل أسمهان وفريد الأطرش وحورية محمد وإبراهيم حمودة ومحمد فوزى ومحمد عبد المطلب.. كانت تنتقل بهم، وبنظامها الصارم فى إدارة العمل، إلى كازينو الكوبرى، الذى اشتهر باسم «كوبرى بديعة»، والذى أصبح اسمه «كوبرى الجلاء».
أما على الكسار فقد تعود فى ذلك الوقت من العام أن يقدم عروضه الفكاهية فى روض الفرج.. وكان شارع عماد الدين رغم هجرة نجومه العظام يعج بالحياة والأضواء، وقد تناثرت على جانبيه الكازينوهات والمسارح الاستعراضية.. ولم يكن هناك أحد فى الدنيا يستطيع أن يتنبأ بأن بدوية هذه، الصبية الحافية قصيرة الشعر التى تقف على سطح البيت فى الإسماعيلية، تستعد الآن، فى تلك اللحظات بالذات، لأن تخطو خطوتها الأولى إلى شارع النجوم هذا، لتصبح بعد سنوات قليلة نجما يسطع فى سمائه.
كان الجو حارا فى تلك الليلة من ليالى شهر أغسطس عام 1935.. وثمة ريح رطبة تهب على المدينة الساكنة من الشرق، حيث ترقد البحيرات تحت ضوء القمر كالحلم.. وكان فى إمكان بدوية أن ترى البحيرات من مكانها هذا فوق السطح.. هى الآن خالية الذهن تماما من كل شىء فى الدنيا، إلا الهرب.. تركت نفسها لعثمان دون أن تسأله، أو حتى تسأل نفسها: إلى أين؟!
وجاءها همس عثمان: «يالله يا بدوية!».
«حاروح فين يا عثمان؟».
«نطى على بيت أبو المعاطى».
تسمرت بدوية فى مكانها، دهمها الخوف كالغول، ومن بين عشرات الطرق التى تعرفها للهرب، لم يخطر ببالها بيت أبو المعاطى، هذا بالذات.. ولقد كان أبو المعاطى يعمل فى شركة قناة السويس، ومنذ سنوات، عندما كان هذا الرجل شابا يريد الزواج لم يجد فى الإسماعيلية خيرا من المعلم على النيدانى ليناسبه، فخطب منه ابنته «نجية»، وبنى لها بيتا ملاصقا لبيت النيدانى.. غير أن زواجه هذا لم يكتب له الاستمرار، فانفصلا بالطلاق، وتزوج من سيدة أنجبت له أول ما أنجبت، ولدا اسمه رجب.. وعرفت هذه السيدة فى الحى باسم «أم رجب».
فهل تهرب بدوية إلى بيت أبو المعاطى طليق نجية؟.. وماذا يكتب عليها لو أنهم ضبطوها هذه المرة؟!
«يالله يا بدوية.. النهار حايطلع!».
كان الخوف يصفد قدميها لكنها تحركت.. وكانت تعرف الطريق جيدا، ولطالما عبرت الأسطح مرات ومرات، وكانت تعلم أن العابر من سطح النيدانى إلى سطح أبو المعاطى سوف يجد بعد خطوات «منورا» يسقط من السطح إلى قلب البيت.. وكانت تعلم أيضا أن هذا المنور هو الطريق الوحيد -الآن- للهرب!
عند فوهة المنور وقفت بدوية بجوار عثمان، وفى ضوء الفجر دس الصبى فى يدها شيئا: «دول خمسة تعريفة.. خليهم معاكى!».
قبضت يد الصبية على اللفافة التى دسها عثمان فى يدها، كان الصبى قد لف القرشين ونصف القرش فى منديل، وكان صوته يردد:
«اوعى تروحى بيت حد من أعمامى أو عماتى، آدينى باقول لك أهوه.. اهربى لأى حتة.. أى حتة!».
راح عثمان يرتجف بالخوف مع ضوء النهار الزاحف من فوق البحيرات، عندما مالت بدوية على فوهة المنور تستعد للقفز، وفى ارتباك مد لها الصبى يديه:
«امسكى فى إيدى!».
رفعت رأسها إليه وقالت: «لأ».. وقبل أن يفتح فمه بكلمة، كانت قد حسمت أمرها، وقررت، وألقت بنفسها من فوق السطح لتهوى إلى الأرض فى دوى اهتز له سكون الفجر!
عندما انقلب بيت أحمد النيدانى بعد ساعات رأسا على عقب، لم يفه عثمان بكلمة واحدة.. فلم يكن يجرؤ!
وكانت أمه هى أول من اكتشف اختفاء بدوية.. أيقظت زوجها، فاستيقظ البيت كله، ووجد الجميع -لدهشتهم الشديدة- الأصفاد ملقاة فوق الأرض.. فمن الذى أعطى لبدوية المفتاح؟!
راح الجميع يضربون أخماسا فى أسداس.. غير أن أحمد النيدانى لم يضع وقتا، كان يعرف طريقه جيدا.. فأخذ يبحث عن بدوية حيث كان يجدها دائما.. وكان إذا ما دخل بيتا ولم يجدها فيه أيقن أنها لا بد فى بيت آخر.. ولقد مضى النهار دون أن يسمع أحد عن بدوية، ودون أن يراها أحد.. ومع حلول المساء، كانت الدهشة قد تجسدت فى سؤال: أين ذهبت بدوية؟
وكان أكثر الجميع دهشة، هو عثمان.. ظل قلبه يخفق: حقا.. أين ذهبت بدوية؟!
وعندما هوت بدوية إلى أرض المنور، دوى صوت قدميها فى السكون مثل انفجار، ثم ضاع كل شىء فى هذا الإحساس الرهيب بالألم، شعرت وكأن عظامها تتداخل، أرادت أن تتنفس فلم تستطع، انبثق الألم مثل صواريخ تمزق لحمها وعظامها، توقف صدرها عن الشهيق والزفير، ضمت ذراعيها فوق صدرها وتمايلت من حولها الأشياء، ها هو الموت آتٍ، فمن يسمع نداءها، رفعت رأسها نحو السماء، تريد أن تستغيث، فتحت فمها فى صرخة لكن الصرخة لم تنطلق، أرادت أن تنادى عثمان، لكن عثمان كان قد مضى.. اختفى دون أن يفه بكلمة!!
مضى النهار ومن بعده الليل وقلب أحمد النيدانى المدينة رأسا على عقب.. سأل الذين يعرفه والذين لا يعرفهم، فى البيوت والمحلات، لم يترك مكانا لم يذهب إليه.. لكن أحدا لم يعثر لبدوية على أثر..
عندما رفعت بدوية رأسها فى الفجر لتستنجد بعثمان ولم تجده، كانت تشعر وكأن روحها تزهق.. لكن ثمة صوتا لقدمين تقتربان من المنور، كان الصوت يقترب ويقترب، وكان لا بد لها أن تتحرك بأى ثمن، لا بد أن تتحرك، مع تقطع أنفاسها كان عليها أن تختبئ... فبدأت تزحف، زحفت مبتعدة عن الباب، عرفت فى صوت القدمين قدمى الست أم رجب، دارت بعينيها فى المكان حتى استطاعت أن تصل إلى «طشت» كبير، ثم اندست خلفه فى نفس الوقت الذى فتح فيه الباب لتطل منه أم رجب.
نظرت المرأة يمينا ويسارا، ثم أنصتت طويلا، ثم أغلقت الباب جيدا ومضت!
وقتها فقط شهقت بدوية، وكأنها تريد استنشاق هواء الدنيا كله.. بردت أطرافها وارتجفت.. لكن ثمة راحة كانت تزحف إلى جسدها الواهن، فلقد كانت تتنفس.
ولقد مضى النهار الأول وباب المنور مفتوح وبدوية خلف «الطشت» لا تستطيع حراكا، شل التوتر كل حواسها فلم تعد تشعر بالجوع أو العطش.. وجاء الليل وكانت عظامها قد تخشبت حيث كانت، فكانت تغفو حينا، ليداعبها ذلك الحلم الغريب لذلك الشارع الذى اسمه عماد الدين، وتلاطفها ابتسامة «سعاد محاسن» ودقات كراوية على طبلته.. ثم يزحف فوق جسدها فأر فتنتفض من حلمها ونومها مذعورة، فإذا ما اكشتفت أن العابر فأر ابتسمت.. لأنها لم تكن تخاف الفئران، كانت -منذ الصغر- تلعب بها.
غير أنها مع انبثاق ضوء النهار الثانى بدأت تحس بالعطش.. وكان عليها إذا أرادت الوصول إلى الصنبور فى آخر المنور أن تعبر من أمام الباب، وإذا ذهبت إلى المنزل فقد يأتى أحمد ويعيدها إلى بيته من جديد، ومنذ أربع سنوات لم تر سعاد محاسن، فهل تذكرها إذا ما ذهبت إليها؟.. ولقد سمعت أهل البيت يتحدثون عن هروبها، إذن فقد شاع الأمر وعرفه الجميع، ومهما اكتوت بنار العطش فعليها أن تتماسك وأن تصبر حتى ولو كان خيط الماء ينساب من الصنبور بلا توقف.. يهبط الليل الثانى فإذا الجوع والعطش وتخشب العظام جحيم لا تطيقه.. خيط الماء ينساب بصوت كأنه الهدير، ولا بد لها أن تشرب أو تموت، يغلبها العطش وقد ران السكون تماما، فتحركت.. وندت عن حركتها آهة كتمتها بكفها لكنها زحفت.. اشتدت بها الآلام لكنها لم تتوقف، مرة بعد أخرى، وها هى تقترب من المياه.. كان عليها الآن أن تنهض عندما توسطت المنور.. وإذا ذهبت إلى القاهرة فلسوف تسأل الناس عن شارع عماد الدين، وفى الشارع سوف تسأل عن سعاد محاسن، هى تجاهد وتجاهد حتى تقف، ينتابها الدوار حقا لكن المياه على بعد خطوتين، الليل ساكن صامت وبعد خطوة أخرى تستطيع أن ترتوى.. خطت الخطوة فدهمها ظلام دامس، وسبح وعيها فى فراغ، فطار جسدها فى الهواء، وضاع كل شىء، فلا عطش ولا جوع، وإذا صرخة واهنة تند عنها كمن تأتى من أعماق بئر سحيقة.. وإذا هى تسقط على الأرض فاقدة الوعى.
أفاقت بدوية لتجد نفسها ممدة فوق الفراش، وكان وجه أم رجب يطل عليها فى إشفاق وحنان، وبجوارها كان أبو المعاطى يطل عليها هو الآخر.. فهل ضاع كل شىء؟!
مدت لها المرأة يدها بكوب لبن:
«اشربى يا بدوية.. اشربى يا بنتى».
كانت المرأة تهمس، فلماذا تهمس؟!
«اشربى يا بدوية اللبن علشان تتقوى!».
وكان الرجل يهمس، فلماذا يهمس؟!
وصعدت ابنة أم رجب إلى جوارها وحملت رأسها، ومدت المرأة يدها لتسقيها اللبن.
«بلاش عياط يا بنتى أحسن يسمعوكى!».
قالت المرأة هذا ففتحت بدوية عينيها فى دهشة.. إذن فلقد كتموا الخبر حتى الآن، انتابها الفرح فازداد انهمار الدمع من عينيها.
«والنبى ماتقولوش لاخويا!».
كانت تتوسل، وكان الأسى واضحا على وجوههم فطمأنوا قلبها.. نامت بدوية فوق الفراش لأول مرة منذ وقت طويل، وجاء الصباح، فإذا قواها تعود إليها، وإذا الحديث فى البيت لا يزال همسا.. مضى اليوم الأول، والثانى.. و... ومضت خمسة أيام، والحياة فى بيت أبو المعاطى تسير همسا، كانت بدوية لا تزال تحتفظ فى يدها بكنزها الصغير، ورغم الحب والحنان والعطف كانت عيناها مثل أذنيها، ترقبان كل شىء وتتسمعان إلى كل شىء.. لم تكن تنام حتى تطمئن إلى أن البيت كله قد نام.. حتى كانت الليلة الخامسة، وكان الرجل يحدث زوجته على مائدة العشاء عندما سمعت بدوية حديثهما..
«ما احنا كمان مالناش عليها يا أم رجب.. أحمد برضه أخوها!».
«حيأذوها يا خويا!».
«أنا حاكلم أحمد، حاجمع عليه الرجالة وأحلفه اليمين!».
«وهم دول بتوع يمين يابو المعاطى؟!».
ولا تسمع بدوية شيئا بعد ذلك.
لا تسمع شيئا لكنها كانت جالسة فى الظلام وقد حسمت أمرها.. لسوف تهرب.
ويمضى الليل كله وهى جالسة دون نوم وقد عقدت العزم، فى يدها منديل معقود على «خمسة تعريفة» وهذا كل ما تملك.. وإذا ما لاحت تباشير الفجر سوف تتسلل من البيت.. إلى المنزلة، أو إلى القاهرة.. أو إلى الجحيم نفسه، لا بد أن تهرب.. بنداء أذان الفجر فى سماء المدينة الساكنة، وتتسلل الصبية من مكانها خافقة القلب، بجوارها ابنة أبو المعاطى وعليها أن تسبح على أطراف أصابعها، ليس فى البيت شىء غريب عنها، فهى تعرف الطريق حتى ولو كان الظلام دامسا، عبرت باب الغرفة وتوقفت، كان عليها أن تنحرف إلى اليمين وتدور حول مائدة تتوسط الفناء، ثم تخطو خطوتين أو ثلاثا وتصبح أمام البيت!.. ها هو المزلاج يطيعها دون صوت، وترتفع دقات القلب كالطين لكن الباب يفتح، تهدج صدرها بالانفعال عندما لفحها هواء الصباح البارد... خطوة، خطوة واحدة وتصبح فى الطريق.. وخطت بدوية هذه الخطوة، مرقت من الباب إلى الشارع لا تلوى على شىء حافية القدمين كانت قصيرة الشعر شاحبة الوجه حمراء العينين من السهر والبكاء، فى يدها منديل تقبض عليه بعنف، تطلق ساقيها للريح فى الشوارع الخالية، لم تكن تعلم إلى أين، اختفت الأم والمنزلة، والقاهرة بعماد دينها وسعاد محاسنها، ولا شىء سوى الهرب، الجرى بكل قواها وشوارع الإسماعيلية خالية إلا من بائعى الخبز واللبن والمخابز ترسل دفء خبزها فتهرب بدوية إلى الحوارى، ومن الحوارى إلى الشوارع، ومن الشوارع إلى الخلاء.. تترك الإسماعيلية كلها وهى تجرى دون توقف، كأن شيطانا يطاردها كانت تعدو، يتهدج صدرها، وتجد نفسها بجوار القناة وشريط السكة الحديد الذى يسافر إلى بعيد فتتبعه، إلى الشمال أو الجنوب، هى لا تدرى، لكنها تريد أن تبتعد ولن يجرؤ أبو المعاطى ولا أم رجب ولا أولادها أن يخبروا أحدا أنها كانت عندهم، لن يجرؤ أبدا.. ظلت تعدو وتعدو خمسة عشر كيلومترا حتى وجدت نفسها أمام محطة صغيرة للسكة الحديد.
هنا فقط.. توقفت بدوية، نظرت خلفها وكان الطريق خاليا مثل رصيف المحطة، صعدت إلى الرصيف وهى تلفظ أنفاسها، دارت بعينيها فوجدت رجلا فى آخر الرصيف يرتدى بدلة صفراء، اقتربت منه عندما أيقنت أنها لا تعرفه وأنه لا يعرفها، فى ضوء الصباح هذا رفع الرجل رأسه نحو بدوية:
«بتسألى على القطر ليه يا بنتى.. انتى رايحة فين؟!»
كانت تعرف أن المنزلة لا تصل إليها القطارات...
«رايحة مصر!».
قالتها دون وعى فلم يكن أمامها سوى هذا.
«زمان القطر جاى يا بنتى.. زمانه جاى!».
وجاء القطار بعد نصف ساعة، وكانت صورة سعاد محاسن قد ملأت رأسها، وإذا كان القطار ذاهبا إلى القاهرة، فهى لا تعرف سوى اسمين: عماد الدين.. وسعاد محاسن.
ولم تكن بدوية تعرف، وهى تصعد إحدى عربات الدرجة الثالثة، وتنزوى فى ركن منها بجوار النافذة، لا تملك ثمن التذكرة، لم تكن تدرى فى ذلك الصباح الغريب لأحد أيام شهر أغسطس 1935، أنها تركب قطار المجد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.