أنا متعب جدا ومشوش الذهن تماما.. أحتاج للراحة، ولكن أين بالراحة لمن وقع فى فخ التذكر وضجيجه.. قبل فترة كنت أذهب للمقهى وأرى الناس، والآن لا ناس ولا مقهى، ولا حكايات فيهم تستدعى أن أعود لسرقتها وكتابتها من جديد فى شكل قصصي، ولا شارع يقذف بى هنا أو هناك، مجرد رجل حبيس غرفة بمحض إرادته، يخشى كل شىء، الزمن يمر برأسى فى شكل قفزات، بلا ترتيب زمانى أو مكانى، أنا بحيرة راكدة محرومة من الأمواج، وهل للبحيرة من ونيس غير الموج؟ أنا بحيرة أصبحت مياهها كالبركة بعد قليل رائحتها العفنة ستغزو العالم، الآن تقفز بذهنى لحظة أن كنت أجلس فى المقهى - وذلك فى الفترات الأخيرة من حياتى - قرابة الساعة الخامسة أو يزيد قليلا بشهر أكتوبر، لا أذكر طبعا بأى عام كان هذا، لكننى كنت أجلس وأنظر عمق الممر فى مواجهتى، ممر بين عمائر أشبه بالنساء، فإحدى العمائر امرأة اختفى نهداها، والثانية المقابلة كالمرأة السمينة نهداها يشبهان الجبل المكتنز، وفى آخر الممر تطل بناية بشكل عرضى فتحجب الرؤية وتعلن نهاية المطاف، وتصبح الرؤية محصورة فى هذا المحيط فقط، ممر وبنايات عن شمال وعن يمين. أنظر فى الجزء الأسفل من الممر ولا أركز فى الجلوس، أركز فى أشجار المنتصف، وفى الإضاءة، أجد ألوانا مختلفة ما بين الأصفر والأحمر، الأرزق والأخضر، البنى والأبيض، كلها ناتجة من لمبات الزينة التى كانت مصاحبة لشهر رمضان الكريم، رحل شهر رمضان وبقيت الأضواء، النصف الأسفل بسبب الإضاءة حَوّل جذوع الشجر لشجر بلاستيكى مقزز، شجر بلا ماهية طبيعية. أعلو قليلا بالنظر فأجد البنايات بيضاء متسخة وتتحول تدريجيا بسبب الاتساخ للون غريب، السماء تطل على الممر من فتحة صغيرة، وهى رمادية، الليل يزحف، فتتحول السماء كسن قلم رصاص، تصبح رمادية وفاحمة اللون فى آن واحد.. أنظر وأتابع ذلك هربا ممن يجلسون معى وهربا من قطة صغيرة نلقبها بالقطة الغبية، كنت لم أبتلع القطط بعد، قطة جائعة تستغيث ولا أملك مساعدتها أو حتى أبعادها، ولا أحتمل مواءها الذى أصابنى بالربكة.. أتذكر ابنى، هذا الذى أكلمه مرة فى السنة عبر التليفون، وإن لم أكلمه تمر السنة أو السنتان دون أن يحاول هو ولو مرة واحدة فقط أن يتصل بي، وأظن أنه سعيد مع أمه وزوجها الجديد.. أهرب من عينيه اللتين تقتربان فى شكل كبير جدا من مؤخرة الممر وتحاول التهامى، عينان كالرصاصة، وهل يمكن أن نوقف طلقة رصاص خرجت من قلب حزين؟ الابن حزين مؤكد لجحودى معه، وأنا مثل" سرور البحر" أقول للعينين/ الرصاصة:- القتل حل لكِ..ولكنى لا أحتمل الموت هنا، فأهرب وأقرر القيام من مكانى والتحرك، وهاهو الليل قد حل، والخوف حل، والحزن حل، والألم حل، ولا الخطوات التائهة فى الشوارع لا تعصمنى مما حل بي، ولا المقاهى الأخرى لها إجابة تسعفنى فى مواجهة ما حل بي.. ولا الفتيات الجدد بهن غواية تستدعى المتاهة فيهن من أجل الخلاص بهن عبر نزوات عابرة السبيل.. أمضى عابرا من شارع لآخر، ولكن أين تمضى الخطى التائهة بلا موعد؟ وأين عساه يهرب تائه الخطى؟ السماء سوادها يرعبنى أيضا، فأهرب ورصاصة ابنى تلاحقنى، أهرب من لحظة مواجهته والاعتذار له.. أذكره عندما كان طفلا عندما كانت اللغة مجرد إشارات بيننا وفى هذا مكر، لأننى أحاول تذكر شىء مبهج بينى وبين ابنى، والأطفال فى تلك المرحلة يكونون أكثر حسما فى تقبل الآخر، فإن أحبك ابتسم لك وإن كرهك لن يكف عن البكاء، أذكر عندما كان يلعب بسلحفاته وكنت فى غاية المتعة باللعب معهما أيضا، يا إلهى الرحمة بى قليلا فالهذيان يقتلنى. مِتُ قبل هذيانى. وسأموت بعده، وخلاله أنا نصف ميت ونصف فكرة لم تكتمل، أنا ميت يطوف بين أموات وكأننى أحج من أجل موتى الكبير، ولا طاقة لحاج الموت بالحياة، والحياة ماهى الحياة؟ الحياة نومة – أو "تعسيلة"- كبيرة، مليئة بمليارات من أحلام اليقظة.. أموت وأقول للحياة سأنتظرك هناك، هناك فى البعيد البعيد.. أنتظرك هناك حيث اللقاء بيننا لا مفر منه، وحينها أيتها الحياة سيفهم كل منا الآخر فى حرية مطلقة دون "لف أو دوران"، فلغة الموتى أيتها الحياة، لغة سهلة، لغة كلغة الأطفال لا تحتاج إلى تصريف نحوى أو بلاغة مرعبة، لغة فيها الإشارات والأيدى تتخذ نصيب الأسد، أهذى وأتوه فى هذيانى، وقدرى أن أحمله فى يدى بجانب اسم معشوقتى، وكأننى صرت محمولا بيد نساء الفراعنة لحظة وزن قلب الميت، فإلى أى كفة سيميل ميزاني؟ الهذيان أم معشوقتى؟ ونحن بشكل عام ياصديقى نتحمل أقدارنا كى نحتمى بها من خوف الدخول فى مجهول آخر.. لا أعلم متى أصحو وأدخن "سيجارتي" الصباحية أو الليلية، أو أن أترك "السيجارة" بالمطفأة، وأنظر كيف ينسحب ورقها الأبيض للخلف وهو يحترق تاركا كتلة الجمر المشتعل تتحول إلى رماد يقاوم السقوط النهائي، ربما أنظر سيجارتى وأبتسم متذكرا المرأة التى كانت تسحب ملابسها إلى الأعلى بنفس الطريقة، وبعد ثوان يسقط رمادها وجمرها فى حجرى وتختفي.. أو ربما أقول ل" السيجارة": - أنتِ تشبهين ذاكرتى التى تصل إلى نهايتها الآن فى المطفأة. وربما أصحو فأبحث عن كسرة خبز أو كأس من خمر أو كوب من الشاى لا أعلم الآن! ولكن من المؤكد أن شيئا ما سأبحث عنه وقتئذ.. أصحو وأعلن تمردى وثورتى الخاصة، فقد سئمت من الزواج ومن الأطفال، وسئمت من محاولة البحث عن ذلك الرجل- عبد الله خادم المقام - الذى قدم استقالته فى سابقة من نوعها أيام جمال عبد الناصر وقرر الذهاب دون رجعة، ترك كل شىء لأولاده وذهب وحيداً باتجاه الريح، "عبد الله" رجل يقف فى مواجهة الريح ب"ضهر" مكشوف وقلب يراه ملاذاً لكل ماضيه، رجل ذهب لمقام ابن الفارض واستقر حتى مماته، ولكن كلما هممت بالكتابة شعرت بضرورة إعادة ما كتبت، أعوام تقارب العشرة وأنا أحاول، وكلما حاولت وفشلت شعرت بالموت..كل الأشباح من الماضى تتجسس على وأنا أفشل فى الكتابة، أرى «عَبْدَةِ الدارِ» تلك التى بعدما فاض الكيل بها، نظرت إلى الأخ الأصغر - المولود فوق رأسها كما يقولون- وسألته معترضة: - لماذا لم يرسل الله امرأة كرسول مثل محمد؟ كان الأخ الآخر - الملقب بالرجل الشبح - يجلس وهو يكتم الضحك، ويختلس النظر إلى أخيه الذى يكبره بعامين منتظرا بمَ سيجيب، ولما "فلتت" منه الضحكة، وجد اللكمة كالمنشار فى جانبه من أخيه، ولكن «عَبْدَةِ الدار»ِ منعت اللكمة الثانية وهى مصرّة على سماع الجواب، فمسح الأخ الأكبر جبينه وهو يتململ فى جلسته على طرف السرير النحاسى المحاط بالستائر البيضاء (الناموسية) نزل من السرير ثم عاد لجلسته وهو ينظر فى عين أخته "عَبْدَةِ الدارِ" وكأنه سيفترسها غضبا وحقدا.. وأجاب:- الله رحم المرأة من تلك المهمة الصعبة، ومن أدرانا فقد تكون هناك نساء رسل أو نبيات.. ثم تلا بصوته العذب قوله تعالى "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِى بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِى بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ". .لم تقتنع "عَبْدَةِ الدارِ" بإجابته، وتأملت غرفة أمها وكأنها تراها لأول مرة، كانت كالغريق عندما يفقد الأمل فى النجاة، وكانت الغرفة التى شهدت شقاءها أيضا من معاملة الأب القاسية، هى نفس الغرفة التى شهدت آلام أمها وبكاءها الذى لم يتوقف فى ليال معتمة بلا قمر.. غرفة كانت كالسجن فى مقدمة الدار.. تمتمت "عَبْدَةِ الدارِ" بكلمات غير مسموعة ولكن بوجهها كان واضحا أنها لم تجد ما يشفى غليلها فى إجابة أخيها دارس الأزهر. "عَبْدَةِ الدارِ" هو الاسم الغريب الوحيد بقريتنا، ذلك الاسم الذى صاحب أمى طيلة خمسة وستين عاما، اسم أطلقته جدتى انتقاما من كونها أنجبت أنثى، والحقيقة لم تكن جدتى تعنى الانتقام بمعناه اللا أخلاقي، ولكنه كان اسما يحمى "حتة اللحمة" من الوأد، كان اختراع ذلك الاسم بمثابة حماية لأمى من غضب أبيها فقط، فعندما - كما روت جدتى ذات يوم - جاء الجد ورأى تلك التى ولدت توا، كانت جدتى "تلطم" وتصرخ، وتكاد تنزع شعرها من رأسها، كمحاولات لإلهائه عن النظر للمولودة، وعندما انحنى لرؤيتها، احتضنتها جدتى كالكلبة عندما تحمى صغارها، واستجمعت قواها وقالت: - لا تلمسها.. أستحلفك بحبيبك الغالى محمد لا تلمسها، دعها وشأنها.. ستكون "عبدة" للجميع، تخدم الكل دون كلل، فهى "عَبْدَة الدارِ"، أنت كنت تريد "عبد الستار" ولكن "عَبْدُه" من "عَبْدَةِ ِ" لا تفرق كثيرا وكلهم عباد الله أليس كذلك؟ وبعد كم من السباب واللعنات نفخ جدى فى وجه جدتى ولم ينطق بكلمة، وصار اتفاقاً ضمنياً بين جدى وجدتى على هذا العقد، وأصبح اسم أمى هو "عَبْدَةِ الدارِ"، وراعى جدى وجدتى الاتفاق بكل حذافيره وأصبحت "عَبْدَة الدارِ "خادمة للكل بالفعل فى الدار.. وفى سن العشرين من عمرها تزوجت أمى وكان أبى يكبرها بعشر سنوات، وأنجبتنى فى عام يسمونه ثورة يوليو 1952. لم تحك لى أمى يوما عن أيام الملكية، وإن كانت جدتى لم تكن تمل من الخوض فى تلك الأيام، وكانت تلعنها أحيانا وتمدح فيها أحايين أخرى، ومن الواضح أنها كانت مضطربة الفكر حول هذه الفترة كحال الكثيرين، كانت جدتى تكره الإنجليز كراهية عمياء وتتعاطف مع نساء الملك وليس مع الملك ذاته.. أيضا كان الخال الثانى لى الذى لم يكمل دراسته مع أخيه بالأزهر وأصبح عاملا بهيئة الرى، وبرغم أن الناس كانوا يتوسطون له من أجل تقديم دورهم فى الرى، فإنه كان غريبا ولا يبد أهمية لإلحاح الآخرين عليه، فقد كان الرجل الشبح على حد وصف جدتى له، رجلا طيبا لدرجة أنه يوحى لك بأنه فقد عقله، كان يمضى يومه هائما فى داخله، كان أشبه قليلا بعبيط القرية، ولكنه كان بالفعل رجلاً لايهتم بشيء سوى بما داخله الذى لم يعلم أحد مطلقا ماهو، لذا لا يمكن أن نعتمد على رأيه أبدا فى رؤيته لأيام الملك أو أيام الضباط الأحرار، والغريب أن " عَبْدَة الدارِ" كانت ترى أخاها – الرجل الشبح - طيباً لدرجة أنه يصلح لأن يحكم البلاد، فقد كانت نظرته لها عندما غضبت من أبيها كافية لأن تهون عليها مصيرها المشئوم، وكانت أمى "عَبْدَة الدارِ" تدافع عنه عندما يزجره دائما أخوه الأكبر دارس الأزهر.. أما أبى فكان كالأخرس فى تلك الرؤي، لايحب الملك ولم يحب الثورة وأحب الجنية وأمى وحكايات كليلة ودمنة.