"إنفوجراف".. نتائج الجلسة الأولى للمجلس الأعلى للحوار الاجتماعي لمناقشة مشروع قانون العمل    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الأسواق.. عيار 21 بكام    أسعار العدس اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الأسواق    من نوع الأرفد، المقاومة العراقية تستهدف أم الرشراش بطائرتين مسيرتين    سي إن إن: إسرائيل حشدت قوات كافية لتوغل واسع النطاق في رفح    ضابط استخبارات أمريكي يعلن استقالته احتجاجا على دعم بلاده لإسرائيل خلال حرب غزة    تعرف على ترتيب هدافي دوري روشن السعودي قبل الجولة 32    ميدو: أوباما مفتاح فوز الزمالك بكأس الكونفدرالية    كشف تفاصيل حادثة التعدي على سيدة التجمع في أوبر: شقيقتها تكشف الحقائق المروعة    «الأرصاد»: طقس اليوم حار على القاهرة والمحافظات    شك في وجود علاقة مع زوجته.. الحكم على المتهمين ب قتل شخص ببورسعيد    ل برج الحمل والقوس والأسد.. ماذا يخبئ مايو 2024 لمواليد الأبراج النارية (التفاصيل)    هيئة الدواء المصرية تحذر من أدوية مغشوشة وتطالب بسحبها من الأسواق    تباين أداء مؤشرات الأسهم اليابانية في الجلسة الصباحية    كندا تفتح أبوابها للعمال المصريين.. التأشيرة مجانا والتقديم ينتهي خلال أيام.. عاجل    مصرع 12 شخصا وإصابة 60 آخرين في سقوط لوحة إعلانية ضخمة بالهند (فيديو)    حفل عشاء لجنة تحكيم الدورة 77 لمهرجان كان السينمائي (صور)    ما مواقيت الحج الزمانية؟.. «البحوث الإسلامية» يوضح    لماذا تحولت المواجهة الإيرانية الإسرائيلية إلى «نكتة سياسية»؟    طريقة التقديم في معهد معاوني الأمن 2024.. الموعد والشروط اللازمة ومزايا المقبولين    حكم الشرع في زيارة الأضرحة وهل الأمر بدعة.. أزهري يجيب    عمرو أديب ل عالم أزهري: هل ينفع نأخد ديننا من إبراهيم عيسى؟    غرفة صناعة الدواء: نقص الأدوية بالسوق سينتهي خلال 3 أسابيع    مسؤول أمريكي: بايدن لا يرى أن إسرائيل ستحقق نصرا كاملا بغزة    لهواة الغوص، سلطنة عمان تدشن متحفًا تحت الماء (فيديو)    عصابة التهريب تقتل شابا بالرصاص أثناء سفره بطريقة غير شرعية    بديوي: إنشاء أول مصنع لإنتاج الإيثانول من البجاس صديق للبيئة    وزير الزراعة: 300 ألف طن زيادة بالصادرات حتى الأن.. واعتبارات دولية وراء ارتفاع الأسعار    الأوبرا تختتم عروض «الجمال النائم» على المسرح الكبير    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 14-5-2024 في الدوري الإسباني والقنوات الناقلة    فرج عامر: الحكام تعاني من الضغوط النفسية.. وتصريحات حسام حسن صحيحة    هل يجوز للزوجة الحج حتى لو زوجها رافض؟ الإفتاء تجيب    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. دار الإفتاء تجيب    وزير الإسكان العماني يلتقى هشام طلعت مصطفى    جوتيريش يعرب عن حزنه العميق لمقتل موظف أممي بغزة    طريقة عمل عيش الشوفان، في البيت بأقل التكاليف    رئيس شعبة الأدوية: احنا بنخسر في تصنيع الدواء.. والإنتاج قل لهذا السبب    إجازة كبيرة للموظفين.. عدد أيام إجازة عيد الأضحى المبارك في مصر بعد ضم وقفة عرفات    سيات ليون تنطلق بتجهيزات إضافية ومنظومة هجينة جديدة    "الناس مرعوبة".. عمرو أديب عن محاولة إعتداء سائق أوبر على سيدة التجمع    في عيد استشهادهم .. تعرف علي سيرة الأم دولاجي وأولادها الأربعة    لطفي لبيب: عادل إمام لن يتكرر مرة أخرى    سلوى محمد علي تكشف نتائج تقديمها شخصية الخالة خيرية ب«عالم سمسم»    «يحتاج لجراحة عاجلة».. مدحت شلبي يفجر مفاجأة مدوية بشأن لاعب كبير بالمنتخب والمحترفين    تفحم 4 سيارات فى حريق جراج محرم بك وسط الإسكندرية    سعر البصل والطماطم والخضروات في الأسواق اليوم الثلاثاء 14 مايو 2024    ارتفاع جديد بسعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 14 مايو 2024    إبراهيم حسن يكشف حقيقة تصريحات شقيقه بأن الدوري لايوجد به لاعب يصلح للمنتخب    ميدو: هذا الشخص يستطيع حل أزمة الشحات والشيبي    «محبطة وغير مقبولة».. نجم الأهلي السابق ينتقد تصريحات حسام حسن    فريدة سيف النصر: «فيه شيوخ بتحرم الفن وفي نفس الوقت بينتجوا أفلام ومسلسلات»    رئيس شعبة الأدوية: هناك طلبات بتحريك أسعار 1000 نوع دواء    رئيس مجلس أمناء الجامعة الألمانية: نقوم باختبار البرامج الدراسية التي يحتاجها سوق العمل    فرنسا: الادعاء يطالب بتوقيع عقوبات بالسجن في حادث سكة حديد مميت عام 2015    أطفال مستشفى المقاطعة المركزى يستغيثون برئيس الوزراء باستثناء المستشفى من انقطاع الكهرباء    «أخي جاوز الظالمون المدى».. غنوا من أجل فلسطين وساندوا القضية    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك يوماً يتجلى فيه لطفك ويتسع فيه رزقك وتمتد فيه عافيتك    إبراهيم عيسى: الدولة بأكملها تتفق على حياة سعيدة للمواطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زمكان


الحلقة الرابعة:
تناولنا فى الحلقة الثالثة من رواية «زمكان» ما قام به بطل الرواية «أحمد» مع زميله المسيحى «عصام» والذى جعله يدخل إلى المسجد ويصلى معه، دون أن يعلم الفرق بين الأديان وبعضها، وكيف تسبب ذلك فى عقاب لصديقيه دون أن يدرى، كما تعرضنا إلى سفر أحد الأصدقاء، وهو ما أعاد التساؤلات إلى ذهن بطلنا حول علاقة السفر بالموت؛ وإلى الحلقة الرابعة من الرواية: -
من بطن البقرة الميتة أخرج الطبيب قدما لبقرة صغيرة، فاشترك معه أحد العمال، وأخذا يجذبان القدم، والعمال يصيحون:«هيلا هيلا، صلى ع النبى» ثم خرجت بقرة صغيرة كاملة من بطن البقرة الكبيرة الميتة، ألقوها على الأرض، ثم حملها عاملان من قدميها الخلفيتين بحيث أصبح رأسها لأسفل، وأخذ الطبيب يضرب ضربات خفيفة على رأسها المضرجة بالدماء، وآخر يصب بعض الماء على هذا الرأس الذى لا تبدو عليه حياة، كرروا هذه العملية عدة مرات وألقوا البقرة الصغيرة على الأرض، وأخيرا حركت قدميها وأخرجت من أنفها صفيرا دل على أن الهواء أخذ يتدفق إلى رئتيها، فصاح العمال: الله أكبر الله أكبر، وأخذوا يحتضنون بعضهم فرحا.
وهنا جلس الطبيب على الأرض وتنفس الصعداء وقد امتلأت ملابسه بالدماء التى تناثرت من البقرة الكبيرة، نظر الطبيب نظرة أسى للبقرة الميتة وسمعته وهو يقول بصوت خافت: سبحان الله «يُخرج الحى من الميت».
خرجت مسرعا من المكان وأنا أجرى ما وسعنى الجهد وكأننى أهرب من شيء، ثم أتوقف فجأة وكأننى أنتظر شيئا، كنت حائرا مضطربا مرتبكا، كيف يجتمع الموت والحياة فى آن واحد، إذن الموت والحياة شيء واحد، إنهما يلتقيان، بقرة جاءت إلى الدنيا، وبقرة ذهبت إلى دنيا أخرى، ولكن أين كانت البقرة قبل أن تولد؟
كانت فى بطن أمها.
وأين كانت قبل أن تدخل لبطن أمها؟
كانت عدما، لاشيء
إذن هل الحياة تخرج من العدم؟
أبونا آدم كان عدما قبل أن يخلقه الله، الدنيا كلها كانت عدما
إذا كان الله خلق الدنيا من العدم، فمن هو الذى خلق الله ؟.
أستغفر الله أستغفر الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذه أشياء ينبغى ألا أفكر فيها أبدا.
تفلت عن يسارى وكأننى كنت فى كابوس وجريت إلى البيت استكين تحت شجرة المانجو، وتحت الشجرة رأيت نبتة صغيرة تحاول شق طريقها للحياة فأحضرت نضحة ماء وألقيت بها على النبتة فاهتزت ففرحتْ، إلا أننى سرعان ما تجهمت، ما هذا الذى كنت أحدث به نفسى ؟! هذا كفر، لقد أصبحت كافرا ويجب أن أقتل نفسي.
تعرضت فى داخلى لتأنيب ضمير قاس، ما هذا التخريف الذى دار فى خاطري، عبيد الذى يعمل عندنا قال لى منذ أيام: لا تفكر فى هذه الأشياء وإلا تكفر، وأنا فكرت، إذن أنا كفرت، والكافر يجب أن يقتل نفسه، هكذا قال الشيخ «على الدين» خطيب المسجد الذى خلف الشيخ محمد عثمان، كان الشيخ على الدين فى خطبة الجمعة يتوعد الكفار بعذاب الله فى نار جهنم خالدين فيها، ويقول إن الله لن يتوب عليهم إلا إذا قتلوا أنفسهم ثم قرأ آية من القرآن تقول: (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) ولكننى لم أعبد العجل، أنا فقط فكرت فى حياته وموته، هذا صحيح ولكننى فكرت فى كلام آخر وسألت نفسي: من خلق الله، وهذا كفر، ويجب أن أتوب، ولكن التوبة كما قال الشيخ تكون بأن أقتل نفسي، لذلك سأقتل نفسي.
ظللت ساهرا الليل أفكر فى طريقة أقتل بها نفسى دون أن أتألم، وفى اليوم التالى بعد أن عدت من المدرسة قلت لنفسي: فلأتمهل قليلا، ينبغى أن أموت وأنا شبعان، أتناول الغذاء أولا ثم أفكر، ماذا أفعل؟.
شبعت وتناولت الفاكهة ثم قلت لنفسي: أنام قليلا حتى أموت وأنا مستريح.
نمت فترة طويلة حتى أيقظتنى أمي، فأخذت أتلكأ فى القيام وكأننى أهرب من موعد ثقيل، ولكن اتهامى لنفسى بالكفر قطع علىَّ طريق التلكؤ، الآن لابد مما ليس منه بد، إلى الموت، فلأتوجه لترعة الإسماعيلية وألقى بنفسى فيها.
وعلى حافة الترعة أخذت الأفكار تتداعى على رأسي، أنا كافر، أنا كافر، ليس كفرا هينا بل إنه أغبى كفر فى العالم، جاءت لحظة المواجهة، سأموت الآن وأعرف حقيقة الموت، هناك أشياء لا يمكن أن نعرفها كاملة ونحن فى الحياة الدنيا، هناك أشياء ستظل الأسئلة فيها معلقة لا تجد إجابة حتى نذهب إلى ربنا، يجب أن أذوق الموت بنفسى لأعرفه، هل يمكن أن نعرف طعم شيء إلا إذا تذوقناه، والميت الذى مات لا يستطيع أن يحضر للحياة فيخبرنا عن الموت.
ولكن انتظر هناك معضلة كبرى، فالشيخ نفسه قال فى خطبة أخرى إن من يقتل نفسه يموت كافرا !! فهل التوبة من الكفر تكون بالكفر؟! هذا أمر عجيب، يعنى لو لم أقتل نفسى فإن الله لن يتوب علىَّ، ولو قتلت نفسى حتى يتوب الله علىَّ فإننى سأموت كافرا، وبذلك لن يتوب الله علىَّ، لقد أغلقت فى وجهى جميع السكك، أنا فى حيرة.
ابتعدت قليلا عن حافة الترعة وجلست أتأمل وأفكر بهدوء، من هو الكافر ؟ ومن هو المشرك؟
هل كل من لا يؤمن بالله يصبح كافرا ؟
وهل كل من يعبد غير الله يصبح مشركا؟
وهل كل من لا يؤمن بالإسلام يصبح كافرا؟
لم يجد ذهنى الصغير إجابة عن هذه الأسئلة، ولكننى قفزت فجأة: أنا أؤمن بالله، وأؤمن بالإسلام وسيدنا محمد، أنا أصلي، وأصبحت أصوم، بل أنا أفعل كل التعليمات الدينية التى يقولها لنا الأستاذ محمود مدرس الدين، وأقرأ القرآن، وأحفظ كثيرا من الأحاديث، الشيخ علىّ الدين غلطان، وعبيد غلطان، ربنا لن يحاسبنى على التفكير أبدا، ووجدتنى فجأة أصيح: هييييه، وأخذت أجرى وأنا أقول بنغمة واحدة، أنا مسلم، أنا مسلم، أنا مسلم، وبعض الفلاحين العائدين إلى بيوتهم ينظرون لى باستغراب، ونساؤهن ينظرن لى ويضحكن، وواحدة من الفلاحات تقول: ابن الباشمهندس اتجن، وعند الفيلا توقفت وفكرت: هل أنا مجنون، ياللمصيبة، أنا مجنون مثل الأستاذ أسعد المدرس فى مدرسة الشهيد هاشم الرفاعى الثانوية.
يمر الزمن ولكن الأطفال لا يشعرون به، وكأنهم لا يكبرون أبدا، ومع ذلك فكل أمنياتنا أن نكبر ونصبح مثل الكبار، لنا شوارب، ونلبس النظارات، ونمسك الغليون مثل الأستاذ أسعد المدرس المجنون، لماذا يرد الأستاذ أسعد على بالي، الأنه يمسك الغليون ويرتدى بدلة بيضاء وببيونة حمراء، ولماذا يرتبط الغليون عندى بالأستاذ أسعد مع أن أبى وكل أصحابه يستعملونه فى تدخين دخان «التوباكو» نعم هذا صحيح ولكن الأستاذ أسعد يتميز عن الجميع بشرب الهواء من غليون فارغ لا يوجد فيه دخان، ولا يتم إشعاله بالولاعة أو الكبريت، لذلك كنت أحيانا ما أمسك غليون أبى وأضعه فى فمى وأنفخ فيه وهو فارغ من الدخان مثل الأستاذ أسعد بالضبط، وبهذا أكون مجنونا، ينقصنى فقط أن أرتدى البدلة البيضاء والببيونة الحمراء حتى يكتمل المشهد، ولكن ما الذى جعل الأستاذ أسعد مجنونا؟.
يقولون إنه كان عبقريا، مدرس رياضيات عبقري، والعباقرة مجانين، ويقولون إنه ضبط زوجته فى وضع مخل مع أحد طلبته فأصابه الجنون، المهم أنه دخل مستشفى الأمراض العقلية بالخانكة عدة أشهر ثم فر منها وأخذ يظهر فى أنشاص أحيانا ويختفى فى أحايين كثيرة، وكان عندما يظهر يتصرف بغرابة تجعلنا نخافه، فقد كان يدخل المسجد ليصلى جماعة، وفى نصف الصلاة كان يترك الصلاة ويقول بصوت مرتفع: أنتم لا تعرفون الصلاة، أين أنتم من صلاة زمان وفاتحة زمان وقرآن زمان، أتعتبرون هذه صلاة.
وفى مرة أخرى دخل المسجد بعد صلاة الجماعة، فوقف يصلى منفردا، فإذا بمجموعة من الفلاحين لا يعرفونه يدخلون للصلاة خلفه، وفى منتصف الصلاة سلَّم وقال: أتموا صلاتكم فإن إمامكم كافر، فوقع المصلون فى حيرة، ماذا يفعلون، وخرجوا جميعهم من الصلاة وهم يلعنونه، لولا أن أحد المتواجدين بالمسجد كان يعرفه فأخبرهم بحاله عن طريق الإشارة فسكتوا عنه، وإلا لكانوا قد فتكوا له.
السؤال الذى كان يحيرنى وقتها: هل الأستاذ أسعد المجنون يعتبر كافرا كما يقول عن نفسه؟
هو مجنون، والمجنون لا عقل له، طيب لو كان واحد من الناس غبيا ولم يفهم معنى الدين، والإسلام، وان الله هو الذى خلقنا، فهل يعتبر كافرا ؟ وبنفس الطريقة لو أن المؤمن الحقيقى لم يستطع شرح معنى الإيمان بالله لواحد كافر، والكافر بالتالى لم يقتنع، فهل هذا كافر حقيقى وسيعذبه الله ؟ هذا ليس عدلا، ربنا هو الذى خلق عقولنا، وعقولنا التى خلقها لنا الله لم تفهم، ثم يعذبنا الله لأنه خلق لنا عقولا لا تفهم! أين العدل إذن ؟ إذا كان الموضوع بهذا الشكل فإن الله غير عادل.
ياللمصيبة، سأعود للتخريف مرة أخرى... ولكن هذا ليس تخريفا، هذا مجرد تفكير، وربنا لا يحاسبنا على التفكير لأنه عادل.... يالله، ما هذا التناقض! هذه موضوعات يجب أن أغلق عليها عقلى بالضبة والمفتاح، الشيطان هو الذى يوسوس لى بها، فإذا جاءت على خاطرى سأقرأ «قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس».
ولكن كيف أقنع عقلى بالسكوت وعدم التفكير ؟ عقلى يؤلمنى جدا بهذه الأشياء، ولكن تمهل يا عبد الله، أنا ما زلت صغيرا، لم أكبر بما فيه الكفاية.
ولكن الكبار أنفسهم ليست لديهم إجابات لكثير من أسئلتي.
اصمت، لا تفكر.
وكيف أصمت ؟
اقرأ القصص الجميلة المسلية.
عندما أقرأ مجلة ميكى تزيد الأسئلة فى ذهني، فكل الشخصيات التى فى ميكى لا تموت، وتظل فى نفس العمر لا تكبر أبدا، سوسو، ولولو، وتوتو، يظلون صغارا طول الوقت، وميكى وبندق وبطوط يظلون كبارا، وعم دهب والجدة بطة يظلون جدودا، ثم إن كل الشخصيات لا تتغير، الطيب يظل طيبا، والشرير يظل شريرا، والساحرة تظل ساحرة، عندما أبدأ فى كل قصة من ميكى أعرف نهايتها من البداية لأنه لا جديد، فلماذا فى ميكى لا يمر الزمن على الناس ؟ وما هو الزمن ؟ ولماذا نكبر ؟ لماذا لا نظل كما نحن مثل شخصيات ميكى ؟.
ما بال هذا الطفل النكد الذى يفكر فى أشياء غريبة، لماذا لا يفكر مثل باقى الأطفال، وما الذى حرك عقله ناحية هذه الأشياء، وكيف يفكر بهذه الطريقة ؟.
يبدو أن هذا كله كان تجهيزا له حتى يستقبل فى قابل الأيام سرا رهيبا يعجز العقل البشرى عن تصديقه، ولكنه حدث.
فى ثلاث سنوات حدثت أشياء مرعبة، وقعت نكسة 1967 ومصر التى كانت زعيمة المنطقة، تلقت هزيمة ساحقة مؤلمة من إسرائيل! ورأينا فى السماء الطائرات الإسرائيلية وهى تغير على مطار انشاص وتلقى عليه بالقذائف، ثم رأينا الجنود المصريين الذين كانوا فى المطار وهم يهربون ويسلكون الحدائق ويغيرون ثيابهم حتى يسهل لهم الهرب من الجندية والحرب، انتاب الفزع أنشاص كلها، وأخذنا أبى إلى قرية السعيدية القريبة من أنشاص والتى كان جدى لأمى عمدة لها، لنقيم عنده أيام الحرب، فى المحن يقترب الناس من بعضهم ويتآزرون، فما بالك بالأقارب والجدود والأبناء والأحفاد.
وفى العام التالى مات محمد الميت، مات محمد الميت ذلك البستانى الطيب المستكين، مات محمد الميت الذى حكا لى قصة قابيل وهابيل وبعض قصص الأنبياء، مات حقيقة لا خيالا ولا تمثيلا ولا إغماءً، عندما وصلنى الخبر من عبيد ذهبت إلى بيته فى الفلاحين، وعلى باب الدار صحت بأعلى صوتى متشنجا: محمد الميت مغمى عليه، لم يمت، هاتوا له دكتور.
ولكن الدكتور جورج خرج من الدار واقترب منى وربت على كتفى وهو يقول: محمد الميت مات.. ثم وجه حديثه لعبيد: يا عبيد خذ عبد الله إلى بيته.
وفى العام الذى يليه مات عبيد، مات الذى كنت أركب خلفه الدراجة فيسابق بها الريح وأنا أصرخ وهو يضحك، مات الذى كان يحملنى فوق كتفيه ويجرى بى فى البيت، ويصعد السلالم عدوا، مات الذى كان يمسك سلكا كهربائيا عاريا ثم يلمس يدى لمسة خفيفة فتنتابنى رعدة الكهرباء فأجرى هاربا وأنا أكاد أموت من الخوف والضحك فى آن واحد وهو يجرى ورائى ضاحكا وأنا أقول محذرا: عبيد بيكهرب، عبيد بيكهرب.
وفى العام الثالث كانت الطامة، كنت قد أصبحت فى الصف الثانى الإعدادى بمدرسة الشهيد هاشم الرفاعى فى أنشاص الرمل، ذهبت إلى المدرسة صباحا مع أصحابى إلا أن أحد المدرسين كان واقفا عند باب المدرسة واجما، وإذ اقتربنا من الباب قال لنا: عودوا إلى بيوتكم فقد مات جمال عبد الناصر، لم نستوعب الكلام، هل من الممكن أن يموت جمال عبد الناصر مثل باقى الناس، إنه مختلف عنهم جميعا.
عدنا إلى بيوتنا فوجدنا الخبر قد وصل إلى أهالينا، رأيت الرجال فى طرقات التفتيش وهم يبكون، ورأيت النساء فى الشوارع يولولن بحرقة، كل الفلاحين كانوا فى الطريق العام وكأنهم لا يصدقون بل يرفضون التصديق، فهؤلاء أخذ كل واحد منهم خمسة أفدنة بعد أن كانوا إجراء لا يملكون شيئا، وهم على ذلك يعملون فى الإصلاح الزراعى ولهم رواتب ومعاشات.
أما الموظفون والمهندسون فقد رصوا كراسى أمام مقر هيئة الإصلاح الزراعى وجلسوا فى حزن وصمت، وصوت الشيخ مصطفى إسماعيل يخرج من إذاعة القرآن الكريم، وعن بعد جلسنا على الأرض وأخذنا نبكى بأصوات خافتة أقرب ما تكون إلى الأنين، ثم سرعان ما تصاعد الأنين وصار نحيبا.
أريد أن أقهرك أيها الموت، حين أكبر سأصير طبيبا وسأبحث عن علاج للموت، سأجعل الناس يعيشون للأبد، لن تقهرنى أبدا، ولكن يبدو أن الموت أخذ فى اعتباره هذا التحدى فناوشنى فى أغلى من أملك، إذ ما كاد العام الدراسى يمر وبعد الامتحانات وقبل ظهور النتيجة، وفى أحد أيام الخميس عاد أبى إلى البيت فى موعده المعتاد، ودخول أبى للبيت كانت تعقبه مراسم معينة، إذ كنا نصمت جميعا ولا نتكلم إلا همسا، إذ لا يصح أن نتكلم أمام أبى بصوت مرتفع، فإذا كنا نتشاجر كففنا عن الشجار، وإذا كنا نلعب ونلهو كففنا عن اللعب وانضبطنا، ثم نقترب منه الواحد تلو الآخر ونسلم عليه ونقبل يده، ويدخل هو إلى غرفته ليغير ملابسه ريثما تضع أمى مائدة الغذاء فيقوم أبى بالنداء علينا، فنأتى من حجراتنا ونجلس على المائدة، كل واحد منا على الكرسى المعتاد له، فيتلو أبى دعاء الطعام ثم يبسمل فنفعل مثله ونبدأ فى الأكل.
بعد ذلك يدخل أبى إلى غرفته لينام القيلولة، كان لا يمكث فى نومه أكثر من ساعة، ولكنه فى هذا اليوم ظل نائما فترة طويلة حتى أيقظته أمى ليلحق صلاة العصر، وفى المساء نده علىَّ فذهبت إليه، أجلسنى بجواره على كنبته المفضلة، ووضع يده على كتفى ضاما لهما، كان أبى رجلا طيبا بلا حدود، كل الناس تعرف أنه صاحب قلب أبيض شفاف، لم يحمل حقدا ولا ضغينة لأحد، وكان بالرغم من صرامته الظاهرة وجديته الواضحة يسبغ علينا دائما حنانه المفرط، فسكن فى قلوبنا حبه واحترامه.
قال أبي: أنت كبرت الآن يا عبد الله، أصبحت رجلا.
سررت من طريقة الحديث إلا أننى قلت له: نعم.
قال: وتؤمن أن الموت والحياة بيد الله.
نعم !.
أنت رب الأسرة من بعدي.
سكت ولم أرد.
أنا أجلى اقترب وسأموت فى هذه الأيام.
بعد الشر،هل أنت مريض ؟.
لا لا أشعر بأى مرض ولكننى رأيت فى أحلام كثيرة أننى سأموت، جاء لى الأموات من أهلى فى المنام وأخبرونى أنهم ينتظروننى قريبا.
هذه كوابيس اتفل عن يسارك يا أبى وقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ابتسم أبى وقال: لا ليست كوابيس إنها حقيقة، المهم أن تتماسك بعد موتى لأنك ستكون القائم بشأن هذه الأسرة، وقد تركت لك فى هذا الظرف كل الأوراق التى ستساعدكم فى المعاش، وتستطيع أن تلجأ للباشكاتب الأستاذ عبد الشكور وهو سينهى لك كل الإجراءات، وقد كتبت لك ورقة وضعتها فى الظرف فيها وصيتي، عليك أن تقرأها بعد أن أموت مباشرة.
غاب صوت أبى عن أذنى فقد لفنى اكتئاب مريع، وتاهت أفكارى وانفصلت شعوريا عن اللحظة التى كنت فيها وكأننى أصبت بالعمى والطرش، ولم أشعر إلا وأبى يخبط على كتفى ويقول لي: مالك ؟ أنت رجل، يجب أن تتمالك نفسك، الموت مكتوب علينا جميعا.
اغتصبت ابتسامة باهتة وقلت لأبى وأنا أهم بالانصراف: هذه كوابيس وأنت بخير والحمد لله يا بابا، ربنا يطول عمرك.
وعند فجر الجمعة سمعت صوت أبى وهو يخرج من غرفته ذاهبا للحمام حتى يتوضأ فقمت مسرعا، كنا نصلى فجر الجمعة فى المسجد دائما، وبعد أن توضأت أنا الآخر، قال لى أبي: أنا متعب بعض الشىء وسأصلى الفجر فى البيت.
قلت له: وأنا سأصلى خلفك.
انضمت أمى إلينا فى الصلاة وبعد أن انتهينا، قامت أمى وهى تقول لأبي: سأصنع لك كوب الشاى باللبن، فرد عليها رافضا وقال لها أن توقظه بعد ساعتين، وساعتها سيشرب الشاى باللبن.
دخلت إلى فراشى لأستكمل نومي، إلا أننى استيقظت على أمى تهزنى بعنف وهى تنتحب: أبوك مات يا عبد الله، أبوك مات يا عبد الله.
قفزت من الفراش قفزا وأسرعت إلى حجرة أبى فوجدته نائما على شقه الأيمن، أمسكت يده فوجدتها باردة، ووجدته وكأنه فى نوم هانئ، رأيت على الكومود المصحف الذى كان يقرأ منه فأمسكته وفتحته واخوتى يحيطون بالفراش ويبكون، كانت الصفحة التى فتحت عليها المصحف هى أول سورة النحل، قرأت أول آية « أتى أمر الله فلا تستعجلوه » فأغلقت المصحف.
كانت مقبرة الأسرة فى قرية الجوسق التابعة لمركز بلبيس والتى ينتمى لها أبي، صممت على أن أدخل القبر مع أبي، سأكون آخر من يخرج من القبر، حاول أعمامى أن يثنونى عن ذلك، إلا أننى رفضت بجدية مفرطة، وكان أن دخلت معه وأخذت أراقب أحد الأعمام واثنين من الأقارب وهم يجمعون بعض العظم الذى فى المقبرة ويكومونه فى جانب داخل قطعة قماش مهترأة، قال العم: هذه عظام الأجداد والأعمام رحمة الله عليهم، الفاتحة لهم.
تلقى القريبان اللذان معنا جثمان أبى الملفوف فى كفنه، وساعدناهما أنا وعمي، أدار عمى الجثمان كى يكون مستقبلا القبلة، ثم فك الأربطة وأمسك بعض التراب من القبر وَرَشَهُ على الجثمان وأنا أتعجب مما يفعل.
كنت منفصلا تماما عن ذاتى وكأننى لست أنا، ولكننى لم أبك أبدا رغم انفطار قلبي، ومع ذهولى الذى كان باديا علىَّ عرفتُ لماذا دخلت إلى القبر، فقد وضعت فى ذهنى أننى أريد أن أواجه الموت فى عقر داره، أليس القبر دارا للموت، أنا الآن معه فى داره وأتحداه، أأنت يا موت أبليت عظام أجدادى وأعمامى وستبلى عظم أبي، لن اهتم بك ولن أبالي، أنت يا موت لا شىء.
حين عدت للبيت قرأت الوصية:
«ابنى الحبيب عبد الله، هذه وصيتي، عن المدخرات فلا تقلق فهى مع والدتك وهى ستكفيكم كثيرا إن شاء الله، اهتم بنفسك وبإخوتك وكن أبا لهم جميعا، الدفن فى الجوسق والعزاء على المقابر ولا داعى لغير ذلك».
ولكن الأعمام والأخوال صمموا على إقامة عزاء كبير على مدى ثلاثة أيام أحدهما كان فى الجوسق، والثانى كان فى أنشاص، بعد مراسم العزاء تغيرنا كثيرا إذ أصبحنا أسرة حزينة لا تعرف مكانا للسعادة، وزاد من حزننا أننا يجب أن نترك السكن فى الفيلا لأنها مخصصة للعاملين فقط، أما الذين تركوا الخدمة موتا أو معاشا فعليهم المغادرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.