عزمى عبد الوهاب فى صمت يعكف الروائى «ياسر عبد الحافظ» على كتابته، يسعى لأن يكون عمله معبرا عنه فى الدقة والتأني، لذا لم يقدم للمكتبة العربية سوى روايتين، الأولى «بمناسبة الحياة» والثانية صدرت حديثا بعنوان «كتاب الأمان»، عن دار التنوير بالقاهرة، وهو فى كل الأحوال يختلف عن أبناء جيله الذين يستسهلون عملية الكتابة، حتى إنهم يمتلكون وصفة جاهزة، تجعلهم يقدمون على نشر عمل روائى كل عام. فى هذا الحوار نقترب أكثر من الروائى "ياسر عبد الحافظ. فى بداية عملك الصحفى أجريت مجموعة حوارات مع عدد من الأدباء الشباب وكان السؤال الأساسى فيها: لماذا تكتب؟ هل توصلت إلى إجابة تخصك؟ لم أصل إلى إجابة نهائية، كل فترة تتكون لدى إجابة، سرعان ما تُنسى وتحل محلها أخرى، الزمن والتجارب يتلاعبان بقناعاتنا، عندما كنت أصغر قليلاً أحببت التفكير فى الكتابة على أنها وسيلتى للانتقام، الآن أظن أنى أكتب لأنها المهارة الوحيدة التى أملكها، لعدم قدرتى على فعل شيء آخر، إنها تعويض عن الضعف، لفشلى فى التمرد والخروج على النظام والقانون. ما الذى يغرى فى كتاب «جمهورية أفلاطون» حتى تظل منشغلا به على مدار روايتين؟ ليس الكتاب بالتحديد، إنما الفكرة التى تقف وراءه وتستند إليها الفلسفة بشكل عام، فى «الجمهورية» بعض الأفكار التى لا أتفق معها وبالذات الموقف الأخلاقى من الشعر أو الفن، لكن عندى هوس بالمدرسة التى تقف وراء الكتاب والتى أصبحت فيما بعد أساساً للتفكير والبحث. فى روايتى "كتاب الأمان" هناك جدل حول الخير والشر، لا يتوقف عند النقاش، لكنه يجد طريقه للتحقق على الأرض، من خلال مصطفى إسماعيل الذى يختار التحول من كونه أستاذا جامعيا إلى لص، ليس فقط لاختبار الخير والشر، إنما للإيمان بأن كل الأفعال متساوية من حيث المبدأ، وممارسة الأفعال تخضع لمفاهيمنا الخاصة عنها بعد استبعاد ما لحقها من تعريفات. ترفض أولئك المثقفين الذين لا يجتهدون فى تقديم إجابات بدعوى أنه لا توجد حقائق مطلقة.. هل هذا هو سر أزمة المثقف؟ لا أدعى أنى أعرف سر أزمة المثقف العربي، إنما ربما يكون ذلك أحد أسبابها بالفعل، فالفارق كبير بين السعى للمعرفة، مع التسليم بأن ما سنصل إليه ليس نهائياً، وبين الركون إلى المعلومة، على اعتبار أن كل ما سنعرفه هو من البداية مشكوك فيه. اعتاد القارئ أن يرى الرواية حكاية مسلية فى حين أن كتاباتك تراهن على قارئ غير تقليدى ألا تخشى من ندرة القراءة؟ من المفترض أننا قطعنا شوطاً لا بأس به فى تأسيس فن الرواية العربي، غير أننا نرتد إلى المحاولات الأولى من جديد، هذا يحدث بفضل علاقة محرمة بين ثلاثى التقت أهدافه على تقويض هذا الفن: روائى غير جيد، ناقد سيئ، قارئ كسول، الرواية لم تعد مجرد حكاية مسلية، وفى الأساس هى ليست كذلك فقط، ويكفى للتأكد مراجعة تاريخها الذى نستند إليه، الرواية عملية إعادة بناء للعالم بكل ما فيه وفق تصور الروائي، والحكاية مجرد وسيلة، ضمن وسائل أخرى، لتعزيز هذا البناء. أحترم كثيراً القارئ وأؤمن أن له دورا أساسياً فى العمل، فالقراءة التأويلية جزء مهم يقوم عليه عملي، وذلك القارئ موجود، أما القارئ الذى يبحث عن عمل سهل وحكاية مسلية فلا أظن أنه سيرتاح لعملي، لا أتعالى عليه لكنى أفضل بقاء المسافة بيننا على حالها، إلى أن يقرر هو عكس ذلك. تهتم كثيرا باللغة كيف ترى أهميتها فى العمل الأدبي؟ اللغة جزء من تركيبة العمل، أحد العناصر المكونة له، ولا بد من الموازنة بينها وبين بقية التقنيات بحيث تؤدى الغرض منها، اعتدت سماع مبدعين يقولون: "أسعى للغة خاصة بي" فى ظنى أن هذا خطأ، الأفضل أن تسعى للغة خاصة بالعمل، وهو ما أحاول تحقيقه، اللغة فى روايتى الأولى "بمناسبة الحياة" مختلفة عنها فى الثانية "كتاب الأمان"، الموضوع والشخصيات وطرائق تفكيرها تفرض ذلك. أغلب كتابات جيل التسعينيات تميل إلى اجترار جوانب من السيرة الذاتية هل ترفض مثل هذه الأنماط فى الرواية؟ الرواية تحتمل أن تكون أى شيء بما فى ذلك أن تحول ذاتك إلى مادة فنية، لكن الشرط أن تكون هذه المادة ثرية بما يكفي، وأن تكون مقنعة فنياً، نحن نعرف أن الروائيين الكبار استغلوا جوانب من سيرهم الذاتية فى أعمالهم، لكنهم امتلكوا القدرة على تحويلها إلى فن، نحن نستغل أنفسنا فى الكتابة بالتأكيد، إنما الفكرة أن ننسى تماماً أن ما نكتبه يخصنا، هذه ليست ذكرياتنا ولا رؤانا ولا أفكارنا، منحناها لشخصيات العمل يخضعونها إلى منطقهم وأهوائهم. يرى البعض أن روايتك تنتمى إلى فن الكتابة على الكتابة بمعنى أن هناك شخصية تعمل على نسخة أصلية مما يسمى "كتاب الأمان" لماذا لجأت إلى هذه الحيلة الروائية؟ كانت لدى رغبة فى كشف "مطبخ" الكتابة، التراوح الدائم بين وجهات النظر المختلفة، أى شخصية أحق بتبنى رؤيتها والانحياز لها، كيف نصيغ الفكرة التى تراودنا، وكيف يمكن التضحية (ربما) بالقناعات استجابة لمطامعنا، من ناحية أخرى كانت تلك الحيلة مهمة فنياً لتجنب تقديس "كتاب الأمان" فى نسخته الأصلية، فقد سمح هذا بتعدد الرؤى حول الكتاب وصاحبه. تنتقد القارئ الكسول، ومع ذلك تقدم له رواية تحتاج إلى مجهود صعب فى القراءة ألا تعتبر أنت ذاتك كاتبا كسولا؟ لا أعتبر نفسى كاتباً كسولاً، نعم لم أصدر سوى روايتين خلال ثمانى سنوات لكن لدى ثلاث مخطوطات أخرى، الفكرة فى أنى أتمهل كثيراً فى النشر، لن أدفع بعمل للناشر إلا عندما يوافق شروطى الخاصة فى الكتابة، إلا إذا قرأته فى مسودته النهائية ولم أجد أن هناك تعديلات ينبغى القيام بها. فى ندوة بعنوان "أحفاد نجيب محفوظ" قدمت قراءة مختلفة عن صاحب نوبل ماذا عن ذلك؟ لدى فرضية أختبر مدى صدقيتها، وهى أن نجيب محفوظ رغم موهبته اللافتة، وعظمة إنجازه، لم يكن مخلصاً بالكامل لشروط الفن، بمعنى أن محاكاة الواقع يمكنها إنتاج أعمال عظيمة، لكن هذا ليس كافياً لإنتاج فن عظيم. وما الذى ينتج فنا عظيما من وجهة نظرك؟ الأمر لا يتوقف على ابتكار شخصيات، وطرائق فى السرد، ولغة محكمة، هناك شيء أبعد من ذلك، يضعك أمام أسئلة مربكة، ليس مهماً لأى مجال تنتمى، لكن علاقتها ليست بالواقع المباشر، بقدر انتمائها إلى ما هو أعمق، إلى حيث يعود الوجود نفسه، وحيث يسكن الفن. هل أنت ضد استخدام الواقع فى الفن؟ لا... لكننى فقط ضد البقاء رهن شروطه، وهذا يجعل النص فى تقديرى سجين زمنه، وكلما اتسع الزمن بين القارئ وبينه فقد أهليته، فى ظنى أن محفوظ كان يلجأ للتوفيق بين عناصر لا يمكن لها الاجتماع، لا يمكن بالتأكيد إنكار مدى عبقريته، لكننى لا أعتقد أن هذا هو الفن، ميزة الفن أنه يسمح لك بأن تكفر بكل المثل المنصوص عليها، الفن له قيم ومبادئ مغايرة تماماً لما هو موجود فى الواقع الحي. ألم تعد تقرأ نجيب محفوظ؟ مازلت أقرأ محفوظ وأتعلم منه، أتعلم الابتعاد عنه وعن وصفته، أقرأ محفوظ لأتعلم الابتعاد عن لغته، أعود إليه لأتعلم أن الرواية عمل يلزمه الدقة والانضباط، لكن أيضاً أحاول ألا أستغرق تماماً فى هذا، حتى لا أنسى أن الفن لا قانون له.