جاء الصحفى والروائى خليل صويلح من دمشق إلى القاهرة لينتزع جائزة نجيب محفوظ للرواية ويعود. ورغم أنها روايته الأولى قبل أن يكتب «بريد عاجل» و«دع عنك لومى» و«زهور وسارة وناريمان» إلا أن «ورّاق الحب» (دار دمشق 2002 ودار الشروق 2008) نالت إجماع لجنة التحكيم التى وصفتها بالرواية الذكية المشغولة بثقافة واسعة، تستدرج القارئ من خلال حيل سردية متعددة إلى متاهة الكتابة. فى روايته الفائزة، يبدو نموذجا للكاتب المحرض والمراوغ بامتياز، يأخذ القارئ عنوة، يعده أن يقص عليه مثل ورّاق الحب قصص الغرام على مر العصور، لكنه يحمله إلى عوالم ماركيز وأبى حيان وإيزابيل الليندى، ليأخذه إلى آخر سطر فى روايته ولم يكن قد كتب روايته بعد. يتمرد على القارئ ذاته موجها دفة القراءة إلى اكتشاف التراث. الشروق: كانت كلمتك فى احتفالية الجائزة مراوغة، تضمنتت أول علاقة لك بأدب نجيب محفوظ الذى تحمل الجائزة اسمه، حيث حملت المصادفة وحدها إليك «عبث الأقدار»، وذكرت أنه «ربما كان نجيب محفوظ نفسه، هو من قادنى إلى التهلكة». ما موقع محفوظ بالنسبة لك وسط بحثك المحموم عن الحداثة؟ خليل: كان عنوان كلمتى فى احتفال الجامعة الأمريكية «شهوة مضادة»، فهى اشتهاء كتابى لمغايرة النص الأقدم، فقد كان محفوظ نفسه يحرض أى كاتب على مغايرة الآباء، فكتب الفرعونى والتاريخى والاجتماعى وتنوعت السرديات لديه إلى آخر ما كتب «أحلام فترة النقاهة» حيث التكثيف والاختزال الأقرب إلى الشعر واللجوء إلى الفانتازيا. أى أن هناك نصا مضمرا يحرضنى محفوظ فيه أن أغادر منطقتى. ستضعنى الجائزة مجددا كما قلت فى كلمتى أمام مرمى مكشوف، أنا الحارس الأعزل بكامل رعبه، لأنى سأدخل فى فخ المقارنة مع محفوظ وعلاقتى به، هو صاحب المنجز الكبير، وأنا بمقترحى المتواضع. لكنى على أى حال وبعد حصولى على الجائزة ليس لدى أوهام بالعالمية، فجائزة البوكر وجائزة محفوظ اللتان تعنيان بترجمة الرواية إلى الانجليزية وتفتح الباب لترجمات فى لغات أخرى تعكس رغبة الكاتب العربى فى العالمية. فنحن الكتّاب العرب يتم قراءتنا من اللغات الأخرى كمناطق مضطربة وليس كنص أدبى صرف، فالقارئ الأوروبى يقرأ للتعرف على الشارع العربى وليس لولوج النص الأدبى. الشروق: فى «ورّاق الحب» يعبر الراوى فى البداية عن شغفه أن يكتب رواية «تشد القارئ من أذنيه إلى جحيمها الخاص»، يعده بأن يجمع فى روايته كل ما كتب عن الحب، لكنه عبر 129 صفحة خليل: هى مجمل الكتاب خليل: يصل فى الصفحة الأخيرة إلى عنوان الرواية، وقد أخذ القارئ معه فى رحلة ماكرة فى الكتابة ذاتها. هل كانت فكرة الكتاب هى تحريض القارئ؟ خليل: أكتب دائما من موقع القارئ وليس المؤلف، كنت أراجع نصى أولا بأول وأجد فى الكتابة ذاتها متعة وبحثا معرفيا أحاول أن أشرك القارئ فيها، فقد كان دائما مطبخ الكاتب مطبخا سريا، راهنت على فكرة الكتاب المكشوف الذى يتشكل على مهل وكأنه يطهى أمام القارئ على نار هادئة. وكنت حين أشعر بضجر مما كتبته ألغيه وأعيد كتابته من جديد. نفس هذه الفكرة القائمة على الكتابة والمحو أتبعتها فى بناء الرواية نفسه. فالبطل فى الرواية الاعتيادية لديه مشروع ثابت، يأتى بحلول للمعضلات، أما بطلى فليس له يقين ثابت، يكتب ويمحو عبر أساليب سرد متعددة ولا يمكن أن يكون كلىّ المعرفة، بطلى هش وأعزل. مشروع الرواية بالأساس هو بحث فى الحب ونفض الغبار عن النص التراثى المكشوف، فنحن بحاجة إلى اعادة اكتشاف منطقة ابداعية مهمة فى التراث الاسلامى القديم، وإضافة نص آخر من الموقع ذاته بنفس الجرأة التى كان يتمتع بها الكتّاب السابقون. الشروق: ولكن ألا يمثل ذلك تحديا كبيرا، أن تكتب الرواية على كتابة السابقين وتتفاعل مع أسماء وأعمال ابن حزم وأبى حيان التوحيدى والجاحظ مثلما تتفاعل مع ماركيز وبورخيس والليندى، ألم تخش وقوع الكتاب فى النخبوية؟ خليل: المسألة لها علاقة بالأساس بتعدد السرديات، فنحن كعرب اعتدنا أن يكون هناك زى موحد سواء فى السياسة أو فى الكتابة أو فى التعليم وغيره، بينما ليس هناك طريق موحد فى أى المجالات، فالكتابة كانت بالنسبة لى تمرينات ديمقراطية على تجاور الأصوات. وأعتقد أنى بهذا التفاعل الذى تشيرين إليه مع كتابات سابقة قد اختزلت رفوف المكتبة لقارئ لم يدخلها من قبل، فهو تحريض لدخول نصوص لم يدخلها من قبل، خصوصا فى نظرته للتراث، فما زالت هناك نصوص فى باب الحب والجنس لم يتم اكتشافها أو بالأحرى يتم دائما إغفالها. تحريض لأن لدىّ أسلافا كتبوا بجرأة فى مناطق محرمة فى الكتابة وكان لديهم فسحة أوسع فى التعبير وأحاول إذن استعادة موقع الكاتب المفقود، هذا الموقع الذى أخذ عنوة من الكاتب والمبدع العربى. الشروق: تشغلك صورة المثقف فى أعمالك فى «دع عنك لومى» وكذلك فى وراق الحب، وفى أحد مقاطعها يتهكم الراوى من عبثية وضعه «مرة وحيدة حزت فيها على تنويه من لجنة التحكيم فى مسابقة لرواية الخيال العلمى واحتل اسمى الرقم التاسع عشر فى القائمة، وكانت أحداث تلك الرواية التى مزقتها بلا رحمة تدور فى كوكب صغير يصطدم به مذنب هالى فيتحول إلى غبار، وكان جميع سكان هذا الكوكب من سلاحف النينجا الضخمة». كيف ترى صورة المثقف العربى اليوم؟ خليل: التهكم من تعالى الكاتب عموما الذى يظن أنه صاحب تيار أو نظرية، لكنه فى حقيقة الأمر أعزل ولديه الكثير من الادعاءات. فقد تغيرت الصورة، لا يوجد المثقف الطليعى إلا فيما ندر. اليوم يتماهى المثقف مع السلطة وينتظر دوره فى هذا التماهى، فالنخب المثقفة لا تقود الشارع اليوم بل تبحث عن مصالحها الشخصية وعلى الانضواء تحت عباءة السلطة، فالكاتب يظل معارضا حتى تفتح له السلطة الباب. لذا أنا ضد فكرة البطل الايجابى لأن صورة المثقف قد تغيرت فى ظل الأنظمة التعسفية وأصبح إما متماهيا معها أو ظلا على الهامش. الشروق: أرجعت فى النص تعريفك للرواية لفعل «روى» الذى يعنى فى لسان العرب «جريان الماء»، كيف ترى تعريف البعض لروايتك بأنها تقع على حدود الرواية؟ خليل: فكرة تشبيه الرواية بجريان الماء فى النهر صحيحة، لأنى مع تعدد الأساليب لالتقاط أسلوب كتابة شخصى، فالرواية تنتهى وقد التقط الراوى للتو عنوان روايته «ومثل الهام سماوى جاءنى عنوان روايتى الذى طالما أرقنى خلال أيام الكتابة»، ففى نهاية الكتاب يكون الراوى لا يزال على العتب، فالروائى الجديد يحتاج إلى مكابدات أكثر لكتابة نص مغاير. فأنا جئت بجماليات قصيدة النثر إلى الرواية (حيث بدأ شاعرا وقدم ثلاثة دواوين) وعملت على سرديات صغيرة متجاورة لكتابة جدارية تحمل سمات وفضاءات سردية متشابكة فى فنون عدة لها علاقة بالتشكيل والسينما. لا توجد هوية مغلقة للكتاب، فقد أصبح العالم جدارا واحدا نكتب عليه مدونة متشابهة المعطيات، نعم الخصوصية موجودة لكنها منفتحة على كتابة أخرى. فالرواية لم تعد إلهاما خالصا، بل مكانا للبحث السوسيولوجى واقتصاصا للمحيط واكتشافا لأنواعه. الشروق: جئت متأخرا إلى الرواية بعد ثلاثة دواوين شعرية فى الثمانينيات وآخرها فى 2001، أين تضع نفسك فى الساحة الأدبية السورية؟ خليل: أنا محسوب على الجيل الجديد رغم عمرى بسبب دخولى متأخرا عالم الرواية العربية، الكتابات الجديدة فى سوريا اليوم فى العراء النقدى لصعوبة التقاط أدوات تواكب هذه الكتابة. فمعظم النقاد لا يجدون لديهم أدوات للنص الجديد فيلفظونه بسهولة بدلا من تطوير فضاءات مناسبة للنص الأدبى.