ريم عزمى - يعشقون وجودهم فى كبد القاهرة حيث تتركز كل التعاملات اليومية، ويطلقون العنان لأحلامهم الوردية، فربما يضخون المال للبلاد مثل هؤلاء الأثرياء، أو يمتلكون أحد هذه المقاهى الشهيرة أو حتى يعودوا لمأواهم بقوت يومهم مع زيادة طفيفة..يفترشون الأرض فى مدخل شارع طلعت حرب، وفى محيط الإسعاف وبامتداد شارع التوفيقية على الجانبين وفى ميدان رمسيس ونادرا ما نجدهم خارج هذه الحدود، ربما يتطفلون علينا فى المقاهى الشعبية والمواصلات العامة ويلحون كى نشترى أشياء مهمة أوغير مهمة بالنسبة لنا. مناديل ورقية وألعاب للأطفال وأدوات منزلية، أما نحن فلا تعجبنا حال الباعة الجائلين فى مصر..ظروفهم بائسة وصورتهم الذهنية لدينا أنهم أشبه بالمتسولين.أما فى دول أخرى فهم يتمتعون بالشرعية بل بالإعجاب أيضا! نسير بجانبهم ويتملكنا الفضول لإلقاء نظرة عما يعرضون حتى لو كانت بضاعة متواضعة، وربما التقطنا يوما من أحدهم جرابا للتليفون المحمول بسعر رخيص ولم تواتنا الشجاعة لنعلن ذلك للمحيطين بنا، أو امتعضنا من شغلهم للطريق العام أو تعاطفنا معهم عندما كان يتم التعامل معهم بقسوة قبل الثورة.وبعد الثورة ظهرت مناشدات كثيرة لهم موجهة للجيش كى يتركوهم فى أماكنهم، وبالفعل شعروا أكثر بالأمان حتى أنه زائد على الحد وبدأت أعدادهم تتنامى ليشغلوا مساحات أكبر فوق الرصيف وتحته ويمتد نشاطهم للطريق العام، بحيث يعرقلون مرور السيارات!أما المدهش فهو ظهور البائعات الصينيات بجوارهم بعدما كن يكتفين بالمعارض فى الأندية أو الزيارات المنزلية! وبعدما بدأ الحديث عن إيجاد حلول لهم، سواء لحفظ كرامتهم أو لإبراز الجمال المعمارى خاصة فى منطقة القاهرة الخديوية بوسط المدينة، نظرنا للباعة الجائلين فى الخارج ووجدنا أن كل بلد كانت له طريقة فى توظيف الموضوع بشكل إيجابى.ومن ضمن النماذج المفيدة هى فكرة الأسواق الشعبية فى المدن الأوروبية وكل مدينة متميزة فى جانب.فلا يوجد مكان ثابت للباعة الجائلين بل ينتقلون من مدينة إلى أخرى طوال أيام الأسبوع وغالبا فى إجازة نهاية الأسبوع وبالتحديد يوم السبت، ويتم إغلاق بعض الشوارع لتقتصر على المارة لتسهيل عرض البضائع لأن غالبا هذه الأنشطة تتم فى الهواء الطلق. ولنلقى نظرة بانورامية على جزء مهم من أوروبا فى هذا المجال، وذلك من خلال عدة رحلات سابقة، فحتى فى العواصم مثل العاصمة البلجيكية بروكسل والتى تعد أيضا عاصمة غير رسمية لدول الاتحاد الأوروبى، نجد فى الميدان الكبير حيث أعرق المبانى وتمثال مانيكان بيس، ساحة واسعة يشغلها بائعو الزهور واللوحات الفنية، وفى شوارع أخرى من العاصمة يوم السبت نرى السوق الشعبى وأبرز بضائعه من الملابس المختلفة.أما سوق مدينة نامور فهو من أكبر الأسواق بفضل اتساع المساحة فى عدد من الشوارع الرئيسية والجانبية التى يشغلها وروعة المنتجات وتنوعها، وهؤلاء التجار يمتلكون سيارات ضخمة تحملهم وتحمل بضائعهم وتساعد أحيانا فى عرض هذه البضائع عند فتحها، وفى نفس الوقت تروج للمتاجر المجاورة، فربما لا يملك الجميع فرصة للتسوق خلال أيام الأسبوع لأن المتاجر تفتح مبكرا فى التاسعة صباحا لكنها تغلق مبكرا أيضا فى السادسة مساء وهو غالبا موعد خروج الموظفين، فتكون فرصة طيبة لمشاهدتها أيضا فى إجازة نهاية الأسبوع. سنجد الملابس أيضا من بلوفرات وبنطلونات جينز وأحزمة من الجلد الصناعى وجاكتات من الجلد الطبيعى، وإكسسورات نسائية مبتكرة، وبارفانات مقلدة، ونباتات الزينة والزهور، والدواجن الحية، والخضر والفاكهة، وأنواع العسل، والزيتون والمخللات، والأجبان، واللحوم والأسماك ، ويقول أحد تجار الأسماك إنه يفضل التنقل على إقامة متجر ثابت، ونشاهد أيضا عروضا هائلة من الحلويات، منها المخبوزات الطازجة مثل الخبز والدوناتس، والوجبات الجاهزة وعلى رأسها البطاطس المقلية التى تشتهر بها بلجيكا، والحلوى السويدية الجيلاتينية التى تتخذ ألونا رائعة، أو أنواع البسكويت الشهيرة بسعر الجملة، فينادى أحد التجار قائلا 11 نوعا ب 10 يورو فقط فيضعنا فى حيرة من أمرنا لاختيار الأنواع وعدها!وربما تأخذنا الحماسة لزيارة السوق الشعبى يوم الأحد فى مدينة إيجيزيه القريبة من نامور، لكنه لا يرضينا تماما لأنه أصغر، وربما نملك مزيدا من الوقت فنلقى نظرة على سوق شعبى لكنه مصغر فى نامور أيضا يوم الأربعاء. ويظل العدو الأول لهؤلاء هو الأمطار الغزيرة فى بلجيكا، فإما أن يحاولوا الصمود تحت مظلاتهم أو يفضلوا عدم المخاطرة بالذهاب أصلا بعد متابعة النشرة الجوية، أو أن يمسكوا العصا من المنتصف، فيبقوا حتى إذا شعروا بزيادة الأمطار يلملمون أغراضهم ويرحلون! وفى قلب باريس الملىء بالحيوية قرب الحى اللاتينى متعدد الأعراق والثقافات، يوجد سوق شعبى يوم السبت حيث تتراص طاولات التجار وتظللهم الشماسى ليعرضوا بضائع جذابة مثل هذا التاجر الذى جاء من إقليم كشمير ليبيع الإشاربات من الحرير الطبيعى الناعم والشيلان من الصوف الفاخر بألوان ساخنة! وبجانبه جنسيات أخرى كل يعرض منتجات مدهشة. وفى ظل منظومة أوروبية قائمة على الدقة، لن نتعجب من أن الباعة الجائلين فى فرنسا لديهم رابطة!ولذلك لتنظيم نشاطتهم وتقديم معلومات عنهم وبالقوانين التى تحمى الباعة المتنقلين والتى صدرت منذ عام 1969، وعن أماكن عرضهم، وهذه الرابطة تسمى اتحاد نقابات تجار الأسواق وشعارها "تقليد نتشاركه". وفى إيطاليا، حتى لو كان سوقا فى مدينة صغيرة مثل فنتيميليا فى منطقة الريفييرا على حدود فرنسا وإمارة موناكو، سنجد له شعبية كبيرة، سنشاهد الفرنسيين والموناكيين يفضلون الذهاب إليه يوم الجمعة من أجل التوفير، فيأتون من المدن القريبة ويركبون القطار الذى يربط منطقة الريفييرا من مارسيليا حتى فينتيميليا وهم يجرون حقائب الترولى لتزويدها بالخيرات.هذا السوق اختار أن يكون مكانه على شاطىء البحر الأبيض المتوسط، ومعروف عن الإيطاليين ذوقهم الراقى فى الأزياء والمأكولات، لذا سنجد هذه اللمسة الجميلة فى الأسواق الشعبية فحتى لو كانت هذه المنتجات مشهورة بسمعتها الفاخرة فهى تباع بأسعار فى متناول الجميع، فيحافظون على الجودة والمميزات اقتصادية فى نفس الوقت وربما تكون أرخص من بلادنا!! فنرى المعروضات من الملابس على أحدث صيحة، والأحذية الأنيقة، وأنواع المكرونة والجبن خاصة البارميزان. وإذا شعرنا بالجوع يمكننا العودة مباشرة قرب محطة القطار لنختار ما بين البيتزا والشاورمة! وليس ببعيد عن هذا المكان وعلى نفس الساحل الأزرق وعلى نفس طراز تخطيط المدن، نسير مباشرة من محطة القطار حتى الشاطىء فى مدينة كان الفرنسية، فيوجد على الشاطىء باعة للوحات الفنية الذين يشكلون لوحة فنية وسط جمال المدينة والنخيل الذى يزين الكورنيش، كذلك سوق شعبى ثابت فتوجد أكشاك بسيطة وفنية للباعة، لذا يمكن زيارة فى أيام مختلفة، وهو يركز على منتجات غريبة، مثل محفظة النقود السحرية، وتقوم البائعة بتقديم عرض أمام الجماهير الواقفة ويحظى بالنجاح قبل بيعها، وربما نمضى قبل أن نفهم تماما كيفية استخدامها لكنها تظل تثير خيالنا! وإذا نظرنا لتركيا وهى دولة تجمع بين الشرق والغرب، سنجد أن عملية الباعة الجائلين لها حلول وسط أيضا فيبقون فى أماكنهم لكن تظهر صورتهم بشكل حضارى أو فولكلورى، مثل بائعى السميط وأبو فروة والذرة المسلوقة والمياة المعدنية.حتى إنهم يعدون من معالم ميدان التقسيم وشارع الاستقلال فى وسط اسطنبول أو فى منطقة أمينونو الأثرية حيث قصر توبكابى وجامع السلطان أحمد والسوق المصرى، ويؤكدون الطابع التركى الأصيل، خاصة وأنهم يتمتعون بالنظافة الشديدة والملبس اللائق والعربات المزينة. وبخلاف فكرة الباعة الجائلين، قامت سلسلة فنادق شهيرة فى مصر بتخصيص يوم يسمى "جراج سيل" حيث يقوم مواطنون عاديون بتأجير طاولات لعرض أغراضهم المستعملة وهى فى حالة جيدة، ثم وثب التجار على هذا النشاط وزادت أسعار الإيجار، ولكن الفكرة تنفذ بأسعار زهيدة أو مجانية فى أوروبا، فيتم تخصيص أيام للمواطنين لبيع أغراضهم القديمة، ومن أشهر هذه الأسواق فى مدينة سانوا التى تعد واحدة من ضواحى باريس، فيخرجون للشارع المحدد ويعرضون البضائع على الرصيف، لكن ما بدأ يزعج الفرنسيين هو ظهور نظام “المفاصلة"، حيث يقلد الأوروبيون ما يفعله العرب والأفارقة، فيحاولون الوصول مع البائع لأرخص سعر وودوا لو أخذوا البضاعة مجانا!!