أحداث تاريخية كبري عاشها جيلنا تفتحت معها ذاكرته السياسية وإليها يعود الفضل في بعث لحظات التحول المصرية الكبري علي مدي ستة عقود منذ اندلاع ثورة يوليو.1952 ومن بين هذه الأحداث حرب يونيو1967, وحرب أكتوبر1973, واغتيال الرئيس السادات في1981, ثم مؤخرا محاكمة الرئيس السابق مبارك بعد خلعه من منصبه عقب ثورة شعبية رفعت شعارات الديمقراطية والحرية والكرامة, ودفعت بإصرار لا يلين باتجاه ضرورة وقوفه أمام العدالة لمحاسبته علي كل ما نسب إليه هو ونظامه من أخطاء وجرائم. ولعلها تكون المرة الأولي التي يحاكم فيها علانية رئيس دولة عربية عقب ثورة شعبية, وكان المعتاد في حالات مشابهة إما الخلاص منه بقتله أو نفيه بعيدا في الداخل أو الخارج. الجديد إذن في حالة مبارك وقوفه أمام محكمة مدنية, داخل قفص اتهام, وفي لباس المتهمين, وأن يدافع عنه زمرة من المحامين في مواجهة ممثل الادعاء. كل ذلك كان بعيدا عن تخيل الناس ليس فقط في داخل مصر ولكن أيضا في خارجها. وعندما ظهر مبارك علي سريره داخل قفص الاتهام, استشعر الجميع المؤيدون لمحاكمته والرافضون لها أنهم قد جروا ماراثونا طويلا مضنيا, بدأ في25 يناير داخل ميدان التحرير وانتهي في تلك القاعة المهيبة بأكاديمية الشرطة في3 أغسطس, وهي نفس القاعة التي احتفل داخلها مبارك بعيد الشرطة قبل اندلاع الثورة بأيام. خلال فترة عملي في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام بداية من يوليو1998 وحتي الآن مرت بي أحداث متتالية غلب عليها البعد الأمني والعسكري والتحولات الإقليمية الكبري- بداية من حرب كوسوفو وأحداث11 سبتمبر وحرب أفغانستان وغزو العراق الخ لكن أحدا من هذه الصدامات لم يجذب إلي مكتبي وغيري من الزملاء هذا القدر الهائل من الخبراء الأمنيين والسفراء والسياسيين والصحفيين الذين جاءوا عقب ثورة25 يناير ليفهموا ما يجري علي أرض الواقع قبل وعقب محاكمة مبارك. الأغلبية منهم كانوا مبهورين بسلمية الثورة المصرية, ومع ذلك لم يتوقع أحد منهم وقوف مبارك يوما ما أمام محكمة مدنية لمحاسبته. ومعضلتهم الكبري كانت دائما في محاولة فهم المجلس العسكري الأعلي, ومستقبل دوره, ومدي انحيازه للعسكريين في مواجهة المدنيين. كما أربك تفكيرهم موقف المجلس العسكري من الثورة, وحمايته لها, وتخليه عن مبارك وخططه في توريث الحكم. كما أربكهم في نفس الوقت حزم المجلس العسكري في دفع برنامجه الزمني لتسليم دفة الحكم إلي سلطة مدنية. وبرغم كل ذلك لم يصدقوا أبدا أن يسمح العسكريون بمحاكمة مبارك وأولاده علي أساس أن مبارك رجل عسكري مثلهم. وعندما بدا في الأفق أن الحكومة والمجلس العسكري لا يعطيان أولوية كافية لمحاكمة مبارك كان المراقبون من الخارج يرون استحالة وقوف مبارك أمام القضاء وقلة احتمالات إعدامه إذا ثبت أنه قد أصدر أوامر بقتل المتظاهرين. لكن النتيجة في النهاية أذهلتهم, ليس فقط لوقوف مبارك أمام محكمة جنائية مدنية ولكن في قرار الحكومة والمجلس الأعلي إذاعة جلسة المحكمة تليفزيونيا علي الملأ من البداية حتي النهاية, وإتاحتها علي المستوي الدولي لكل شبكات ومحطات النقل التليفزيوني. ويعتقد أن مستوي تغطية جلسة محاكمة مبارك كانت أوسع من تغطية أحداث عالمية كبري مثل نزول أول إنسان علي القمر. محاكمة مبارك في يومها الأول كانت مفعمة برموز موحية أضافت إليها كثيرا من المصداقية والقيمة المجتمعية والحضارية العالية. ولن أكون مغاليا في اعتقادي أن ارتفاع مؤشرات البورصة في نهاية يوم المحاكمة قد يعود إلي ما وقع في ذلك اليوم من أحداث تعكس مدي استقرار مصر وقدرتها علي اتخاذ القرارات الصعبة. وكان القاضي رائعا, سيطر علي الجلسة بحزم أمام عشرات من المحامين ورجال الإعلام ومئات من أقارب الضحايا والمتهمين. وفي خارج قاعة المحكمة تكونت مجموعات من البشر, بعضهم يدافع عن مبارك, وآخرون يهتفون ضد مبارك وأفعاله. وبرغم أن الصدامات بين الطرفين لم تتوقف لحظة, إلا أن وجودهما في نفس المكان خارج قاعة المحكمة قد أكد وجود اختلافات علي المستوي العام في وجهات النظر والرؤي والمصلحة. وقد أعلي ذلك بشكل غير مباشر من مصداقية المحكمة, ورغبتها في الوصول إلي الحقيقة, علي عكس ما توقع البعض. كذلك كان أداء ممثل النيابة متميزا, فقد عكس قدرته علي دراسة قضية صعبة وشائكة, والوصول إلي المعلومات الدقيقة الخاصة بها وصياغتها في تصورات مقنعة ومفيدة لفهم أبعاد القضية. وكما توقع الناس أن زمن تزييف الانتخابات قد ولي وانتهي أو أنه علي الأقل في سبيله إلي ذلك بدأوا في النظر إلي محاكمة مبارك وأعوانه كمثال آخر سوف يحتذي به في محاكمات أخري قادمة. ومن المنتظر أن يختفي بالتدريج ترزية القوانين والقضاة الفاسدين, ولن يسمح في المستقبل بوجود تأثير سلبي من السلطة التنفيذية والتشريعية علي السلطة القضائية. وفوق كل ذلك فتحت محاكمة مبارك الطريق إلي وضع قواعد وقوانين لمحاكمة الوزراء ورئيس الجمهورية وكل ما يتعلق بالفساد السياسي والإداري في المناصب العليا. وسوف تطرح محاكمة مبارك للنقاش موضوعات أوسع بكثير مما تحتويه الحالة المعروضة علي المحكمة بما في ذلك مدي مسئولية الأفراد والمناصب العليا المختلفة, والحد من تداخل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وقد يؤدي ذلك بالضرورة إلي إلغاء قانون الطوارئ بكل ما فيه من قسوة وتعد علي الدستور وحقوق الإنسان. وكل رئيس قادم للجمهورية وكل صاحب نفوذ يميل إلي الانحراف عن الصراط المستقيم سوف يعي الدرس عندما يستدعون صورة مبارك الملقي فوق سريره أمام القاضي منتظرا لحكم المحكمة. لن يقتصر تأثير محاكمة مبارك علي مصر وحدها, فقد تابعت الشعوب رئيس أكبر دولة عربية وهو مقبوض عليه بعد أن ظنت الأغلبية أنه سوف يعامل بطريقة مميزة إلا أن ذلك لم يحدث, بل دخل إلي قفص الاتهام فوق سريره وتهمته كانت واضحة وهي قتل أفراد من الشعب احتجوا في عملية سلمية. كما وجهت لمبارك وحاشيته تهم الفساد المالي والسياسي وهي نوعية من الجرائم منتشرة في البلاد العربية. وعادة كان الرؤساء والأمراء في البلاد العربية بعيدين عن المساءلة في مثل هذه الأمور, لكن مبارك وبن علي من تونس فتح الباب لمساءلة الرؤساء مهما كانت جرائمهم. وهناك جوانب أخري ودروس للحكام العرب خرجت من تحت عباءة محاكمة مبارك. لقد حكم مبارك مصر نحو ثلاثين عاما وكان ينتوي تجديد مدة حكمه إلي فترة أخري أو توريث الحكم إلي نجله وهي وصفة انتشرت في العالم العربي مؤخرا وصمته بالجمود ومحاربة التجديد. وفي معظم الدول العربية كان الرؤساء يغيرون الدستور من أجل البقاء في الحكم حتي وصل حكم بعضهم إلي أكثر من40 عاما ومازالوا يطلبون المزيد. وفي حالة مبارك, ومن خلال ترزية الدساتير, تم تشويه الدستور حتي ينطبق علي حالة جمال مبارك بصورة فيها كثير من الاستخفاف بالشعب وعدم الاحترام لإرادته. وقد تبدو مثل هذه التجاوزات هامشية في أعين بعض الناس إلا أنها تمثل نوعا من الفساد السياسي والتشريعي الفاحش يستحق المساءلة والعقاب عليه لكل من تجرأ علي المساس بالدستور من أجل تحقيق منافع خاصة. والشئ الأهم والأعظم في محاكمة مبارك هو معرفة الحقيقة وتسجيلها بعد فترة زمنية عشناها كانت مشحونة بعشرات ومئات من القصص لم نتيقن أبدا من صوابها وسط إعلام يجري وراء الإشاعات قبل الحقائق, والاتهام قبل البراءة. ولحسن الحظ أن الجلسة الأولي من محاكمة مبارك لم تخل من بصمات لنظرية المؤامرة وما تبعثه في بعض الأحوال من ابتسامات. فقد طلب أحد المحامين أخذ عينة من مبارك وأولاده للتيقن أن الموجود أمامهم هو فعلا الرئيس السابق محمد حسني مبارك الذي يعتقد أنه توفي خفية منذ سنوات. وبرغم ضحكات الحضور في قاعة المحكمة إلا أن القاضي لم يبتسم, ولم يعلق, وتجاهل ما قيل, كأن ما قاله الرجل برغم غرابته قد لا يكون بعيدا تماما عن صواب ما.