ما اشبه ليالي القاهرة ببارحة موسكو. اجواء الترقب التي تعيشها القاهرة انتظارا لمحاكمة الرئيس السابق حسني مبارك تعيد الي الأذهان ما سبق وعاشته موسكو ومعها الرئيس الروسي الاسبق بوريس يلتسين من احداث يوم كان ملاحقا من جانب الشيوعيين والقوميين المتشددين رغبة في محاكمته وانزال العقاب به جزاء ما ارتكبه من جرائم وآثام في حق الشعب والوطن قالوا ان منها ما كان يرقي لحد الخيانة العظمي .مرة اخري تتداول الالسنة في الكثير من اروقة واوساط العاصمة الروسية العديد من التساؤلات حول ما يمكن ان يواجهه مبارك من مصير استطاع نظيره الروسي الاسبق بوريس يلتسين الافلات منه بعد محاولات عديدة. ويذكر الكثيرون ان يلتسين ظل لفترات طويلة يبحث عن مخرج آمن من السلطة وملاذ مأمون يقيه شرور وملاحقات معارضيه ممن دانت لهم الاغلبية في مجلس الدوما رغم فوزه بفترة ولاية ثانية في انتخابات1996 التي شهدت الكثير من وقائع التزوير وسجلت فيها سطوة رأس المال ابعادا غير مسبوقة سمحت باستئثار رموزه بالثروة والسلطة. وكان الصراع اشتعل في مجلس الدوما بين ممثلي مختلف التيارات السياسية حول مدي مشروعية تنحية يلتسين وتقديمه الي المحاكمة وحتي استقر الرأي علي طرح مشروع قرار بسحب الثقة من الرئيس تضمن ضمنا ضرورة محاسبته علي الكثير من قراراته التي اعتبرتها الاغلبية البرلمانية تفريطا في حقوق المواطن وتطاولا علي مصالح الوطن بما يعني عمليا اقالته وتحويله الي المحاكمة في عدد من الاتهامات ومنها تهمة الخيانة العظمي. غير ان توازن القوي الي جانب تدهور الاوضاع الصحية للرئيس والتي كانت تسير من سيئ الي أسوأ حالت دون تحقيق ما كان ينشده الشيوعيون والقوميون. وفيما راح معارضوه يضيقون عليه الخناق املا في الانتقام وسعيا وراء القصاص سواء بسبب التفريط في ثروات ومقدسات الدولة او التضحية بارواح ابناء الوطن في حرب خاسرة في الشيشان كان يلتسين يبحث عمن يمكن ان يوفر له المخرج او الملاذ الآمن. في هذا الاتجاه تركزت تحركات الرئيس المريض في اجواء خيمت عليها روح الانتقام وتكالب الغرماء تحينا لتوجيه الضرية القاضية. آنذاك تعثرت جهود الرئيس ولم يسعد حظا بالعثور علي البديل المناسب وإن وجد السلوي في سطوة راس المال التي تدثر بدفئها واحتمي برموزها وكانت ابعادها تعدت آنذاك حدود السلطات التنفيذية والتشريعية بل وصارت في الكثير من جوانبها تحدد الكثير من توجهات واسس نشاط السلطات القضائية. ولذا لم يكن غريبا ان ينجح اثرياء روسيا الجدد في تدبير فضيحة اخلاقية اطاحت بالنائب العام بعد تصويره مع ساقطات بمباركة مباشرة من جانب يلتسين ردا علي ما اشهره من وثائق حول جرائم مالية تورط فيها يلتسين وابنته وأعضاء ما كانت تسمي ب العائلة. ونذكر ان يفجيني بريماكوف الذي كان يلتسين تعلق باهدابه بحثا عن النجاة بما كان يملك من سمعة حسنة ومواقع راسخة بين اوساط المعارضة اليسارية واليمين الروسي وقف الي جانبه مطالبا النائب العام بالاستقالة. وانقشعت الغمة لكنها سرعان ما عادت ثانية بعد اصطدام الجهود الاصلاحية ليفجيني بريماكوف بمصالح العائلة ولم يكن مضي علي توليه رئاسة الحكومة اكثر من ثمانية اشهر بسطوة الاوليجاركيا ورموز راس المال.. وكانت العائلة اوغرت صدر يلتسين بضرورة توخي الحذر ولا سيما بعد ظهور بوادر تقارب بين رئيس حكومته بريماكوف والشيوعيين والقوميين ما اضطر يلتسين وتحت ضغط ابنته تاتيانا الي استبداله وكان نعم الضامن الامين بعد سنوات طوال ترأس خلالها جهاز الامن والمخابرات. كان يلتسين جادا في البحث عن المخرج الامن قبل انتهاء ولايته الثانية خشية مثوله امام محاكمة قالوا انها لا بد ان تفتح كل الملفات.تذكر يلتسين قضية اناتولي سوبتشاك عمدة سان بطرسبورج زميله ورفيقه ضمن مجموعة النواب الاقليمية التي تزعمت حركة استقلال روسيا في اخر سنوات الاتحاد السوفييتي السابق. كان سوبتشاك ووجه في حينه بسلسلة من القضايا التي لاحقه خصومه من خلالها وكانت في معظمها تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ وهو ما كان يماثل ما توجهه المعارضة والمتشددون من اتهامات الي يلتسين. تذكر يلتسين الدور الخفي الذي قام به بوتين لانقاذ معلمه واستاذه سوبتشاك. وكان بوتين استطاع من خلال بعض اصدقائه العثور علي وظيفة في الكرملين بعد فشل سوبتشاك في انتخابات محافظ سان بطرسبورج عام1996. وفي ذلك الموقع رصد يلتسين عددا من تحركاته التي كانت تقول بان ضابط الكي جي بي القديم يعلي معاني الوفاء ولا يبيع الاصدقاء. استوضح يلتسين بعضا من تاريخ الضابط الشاب ومنها احترامه وتقديره للرموز الشيوعية القديمة علي اعتبار انها لا يمكن ان تتحمل وحدها مسئولية الانهيار وضياع الوطن. تذكر رفضه الانضمام الي الحملات التي اجتاحت البلاد لتشويه ماضي الدولة وتأكيداته ان ليس كل ماضي الاتحاد السوفييتي اسود. رصد تدبير بوتين لطائرة خاصة نقلت سوبتشاك الي فنلندا ومنها الي فرنسا. لكنه لم يكن ليتعجل الاختيار قبل تجربة خياره في اكثر من موقع واكثر من مناسبة. بدأ تعيينه رئيسا لجهاز الامن والمخابرات. ولم يمض من الزمن الكثير حتي حمل الزمن الي غياهبه خيارات وبدائل اخري منها كان يلتسين يتوسم فيها مساعدته في الخروج الامن. فبعد اقالة بريماكوف ولم يكن قضي في منصبه اكثر من ثمانية اشهر والاستغناء عن سلفه سيرجي ستيباشين ولم يكن قد مضي علي تعيينه اكثر من اربعة اشهر حتي اتخذ يلتسين قراره بتعيين بوتين رئيسا للحكومة في اغسطس عام1999, ولم يكن احد آنذاك يعرف الكثير عن شخصية ذلك الغامض القادم من غياهب الجهاز الاداري للكرملين. واذا كان نفر من الاوليجاركيا اليهود وعلي راسهم الملياردير الهارب الي لندن بوريس بيريزوفسكي يزعم انه كان وراء ترشيح بوتين فان يلتسين لم يكن ليكتفي بالشواهد والنوايا. نذكر انه أجلسه مرارا وتكرارا وأسمعه ما يود إسماعه ابان اشهر ولايته كرئيس للحكومة ابلي خلالها افضل البلاء في الشيشان واعاد للدولة الروسية وقارها ولقواتها المسلحة هيبتها ولاجهزتها الامنية سطوتها لكننا نذكر ايضا الساعات الاخيرة من عام1999 التي شهدت مفاجأة تعيين بوتين قائما باعمال الرئيس بعد اعلان يلتسين عن تنحيه قبل انتهاء ولايته بقرابة نصف العام. وكشف بوتين عن بنود اتفاق عقده مع يلتسين ضمن له الابقاء علي الكثير من امتيازاته المادية والعينية بما فيها حقه في الرعاية الصحية المتميزة وطائراته ومساكنه الرئاسية الي جانب الاهم وتمثل في الحصانة التي تكفل له عدم ملاحقته او محاسبته جنائيا او اداريا او احتجازه او اعتقاله او تفتيشه او مساءلته واي من افراد اسرته قضائيا حسب البند ه من المرسوم الرئاسي الصادر في31 ديسمبر1999 والذي جري استصدار قانون علي اساسه من مجلس الدوما. نذكر ايضا ان الاتفاق نص ايضا علي الابقاء علي عدد من رجال يلتسين السابقين ضمن الفريق الحاكم وفي مقدمتهم رئيس ديوان الكرملين ورئيس الحكومة ميخائيل كوسيانوف وهما اللذان لم يستطع بوتين اتخاذ قرار الاستغناء عنهما الا قبيل انتهاء ولايته الاولي باشهر معدودات. غير ان ذلك لم يكن يعني ان بوتين التزم بمراعاة مصالح الطغمة السابقة بقدر ما كان الالتزام ينسحب وحسب علي ضرورات الاستقرار واحترام شيبة الزعيم السابق رغم ادراكه وادراك الملايين من ان ذلك العجوز ارتكب الكثير من الاثام التي اضرت بمصالح الوطن والمواطن. علي ان ذلك كله كان يمكن ان يعني ايضا تفهم ما يقال حول ان الضرورات تبيح المحظورات خلال مسيرة السنوات التالية التي سرعان ما شهدت تصفية اركان الاوليجاركيا ولملمة اطراف الثوب الروسي التي كانت النيران اشتعلت في الكثير من اطرافه في منطقة القوقاز. وهو ما يمكن تناوله في تقارير اخري من موسكو.