اقتحام مقار امن الدولة في القاهرة وعدد من كبريات المدن المصرية اعاد الي الاذهان ما سبق وكنا منه علي مقربة في موسكو قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي في اعقاب محاولة الانقلاب الفاشل في اغسطس1991. آنذاك وما ان اعلن زعيم ذلك العصر بوريس يلتسين عن احباط الانقلاب حتي اندفعت الجماهير لتحطم الكثير من رموز وقلاع الماضي وفي مقدمتها تمثال بريجنسكي مؤسس لجنة امن الدولة كي جي بي الذي رفعوه من مكانه في وسط الميدان المواجه لمقر الجهاز في قلب العاصمة والقوا به الي ما سمي آنذاك مزبلة رموز العصر البائد التي ضمت الي جواره تماثيل لينين وبقية رموز ثورة اكتوبر1917. ونذكر ان المبني ولحسن حظ ساكنيه استعصي علي تدافع الجماهير التي حاولت اقتحامه ما جعلها تتحول غاضبة نحو مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي الكائن علي مبعدة امتار من المكان, الغريب ان هذه القلعة الرابضة غير بعيد عن الكرملين لم تبد اية مقاومة ولم يند عن اي من ساكنيها بادرة حياة حيث كانوا سارعوا الي الهرب عبر الانفاق والمسالك السرية التي افضت بهم الي انفاق مترو العاصمة خوفا من مواجهة بطش الجماهير التي وجدت نفسها وجها لوجه مع سجلات التاريخ بكل اطيافه معلنة عن نهاية عصر وفضيحة حزب ودون الحاجة الي اضرام النيران فيه علي غرار ما شهدته القاهرة علي ضفاف نهرها الخالد بالامس القريب وهي السجلات التي سرعان ما صارت في متناول العامة قبل الخاصة. علي ان الذاكرة لا تزال تحمل ايضا ان من المسئولين الروس من لم يطق حسرة وندم مشاركته في الكثير من تجاوزات النظام وخشي لحظة الحساب فالقي بنفسه من الطابق الاعلي ليسجل نهايته مع لحظة نهاية النظام مع وزير داخلية الاتحاد السوفييتي بوريس بوجو الذي كان اقدم علي الانتحار برصاصة مسدسه في اعقاب فشل محاولته الانقلابية مع زملائه وهو ما نعتبره خطوة شجاعة يعجز امثاله من' اللي بالي بالك' عن القيام بها. كان المرسوم الاول للسلطة الجديدة قرار تجميد ثم حظر نشاط الحزب الحاكم ومحاكمة قياداته في الجمهوريات والمقاطعات. وقع يلتسين هذا المرسوم علي مرأي ومسمع من الملايين التي كانت تتابع جلسات الدورة الطارئة لمجلس السوفييت الاعلي لروسيا الاتحادية بعد احباط انقلاب اغسطس1991, كان يلتسين يدرك اخطار الخلايا النائمة في الحزب وجهاز امن الدولة وهو الذي طالما اكتوي ورفاقه من الديمقراطيين الجدد بنيرانها, ورغم عبثية الكثير من التصرفات التي اقدم عليها يلتسين آنذاك في اطار تصفية حسابات الماضي فان ما تلا ذلك من اجرءات كان يشير الي تقديره لما تحمله' الاغلبية الصامتة' في جوانحها من مخاوف واخطار تجاه مستقبل الوطن ومصائر ابنائه. عاد يلتسين الي محاولة استرضاء من' اوهموه' بالقدرة علي التغير والتغيير ورضي بعودتهم شريطة الابتعاد عن المواقع القيادية معربا عن تفهمه لدوافع مسايرة النظام الحاكم سعيا وراء مصالح انانية ضيقة وهو ما كان مقدمة لمراحل فساد جديدة. ولعل في ما فعله يلتسين مع الحزب الشيوعي السوفييتي يظل تذكرة وعبرة ثمة ما يشير الي الحاجة الي استدعائها في مثل هذا الظرف التاريخي الذي نعيشه قبيل الاعلان عن عودة الحياة الحزبية استعدادا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي نتمني ان تكون بمثل هذا الترتيب وليس البرلمانية ثم الرئاسية لاسباب تطرق اليها الكثيرون من ابناء هذا الوطن النابهين والمتخصصين. لم يتوقف يلتسين عند هذا الحد وتحول الي تصفية حساباته مع' جهاز امن الدولة'( كي جي بي) الذي سرعان ما اجهز عليه من خلال تقسيمه الي جهازين للمخابرات احدهما للمخابرات الداخلية وآخر للخارجية نذكر انه عهد برئاسته الي الاكاديمي يفجيني بريماكوف الذي نجح في تحويله الي جهاز للمعلومات قبل ان يكون جهازا للعمليات وهو ما لا نستطيع اليوم التأكد من مدي استمراريته بعيدا عن الآليات التنفيذية التي حرص يلتسين آنذاك علي ان يعهد بها الي وزارة الداخلية وجهاز النيابة العامة واللجنة المركزية للتحقيقات.لكن التالي كان أخطر حيث سرعان ما تحول الكثيرون من نجوم جهاز امن الدولة' كي جي بي' وعدد من الوزارات السيادية وكذلك فلول الحزب الشيوعي والكومسومول الي الانخراط في تشكيلات كانت نواة لاجهزة الجريمة المنظمة التي تداخلت مع اثرياء روسيا الجدد لتشكل ما هو اشبه بالدولة داخل الدولة بكل مؤسساتها الاعلامية والاقتصادية. ونذكر ان هؤلاء وجدوا ضالتهم في الرئيس الاسبق بوريس يلتسين الذي شملهم برعايته مقابل دعم حملة انتخابه لولاية ثانية في عام1996 اعتمادا علي مؤسساتهم المالية وشبكاتهم الاعلامية والتي كانت مقدمة لتسلل بعض رموزها الي الحكومة والبرلمان وما تلا ذلك من جرائم لا تزال روسيا تتجرع مرارة توابعها حتي اليوم. وما دام الشئ بالشئ يذكر نتوقف لنشير الي ما اجتاح العاصمة الروسية من حملات عصفت بالكثير من رموز الماضي ومنها اسماء وتسميات الشوارع والميادين والتي اعادت السلطات المحلية القديم منها بدلا من اسماء ابطال عصر البلاشفة. في ذلك الزمان تعالت الاصوات محذرة من مغبة التعميم وتشويه ما تحقق من انجازات واعتبار ان الماضي لم يكن كله اسود, معيدة الي الاذهان مآثر الكثيرين ممن حملوا روسيا ومعها بقية جمهوريات الاتحاد السوفييتي وشعوبه الي مصاف العالمية في الادب والموسيقي وعالم الصناعة والفضاء. ومن هنا اتوقف لاناشد الكثيرين ممن ينادون بتغيير اسم ميدان التحرير واطلاق اسم ميدان' الشهداء' بدلا من الاسم الحالي, التريث والتفكير في ان' التحرير' كان ولا يزال رمزا لتحرير الارادة واسقاط حاجز الخوف واطلاق شرارة الثورة في كل انحاء الوطن. وعلينا ان نعلم ان العالم باسره يعرف اليوم اسم التحرير باللغة العربية دون ترجمة بعد ان ظل لاسابيع طوال يتداول هذا الاسم بعربيته الفصحي فيما ادرجته الكثير من المنظمات السياحية كاحد معالم القاهرة التي توصي بزيارتها.