أثارت العمليتان الارهابيتان اللتان وقعتا يوم29 مارس في مترو انفاق موسكو, والتي أعلن دوكو عماوراف, زعيم العناصر الارهابية في شمال القوقاز, في تسجيل منسوب إليه علي شبكة الانترنت مسئوليته الكاملة عن الانفجارين. تساؤلات البعض عن مدي علاقة هذه التفجيرات بالقضية الشيشانية, وكونها محاولة لتأكيد رغبة الشيشانيين وغيرهم من سكان جمهوريات القوقاز في الاستقلال والانفصال عن روسيا. ولاشك أن هذا يطرح التساؤل حول قضية أوسع, وهي التمييز بين الارهاب والمقاومة المشروعة. فهناك أربعة أبعاد أساسية تميز علي نحو واضح بين الأمرين. أولها, عدم مشروعية الدافع وراء الارهاب, حيث يأتي عادة بهدف إلحاق الأذي والضرر, والتدمير, كيدا أو انتقاما, مما تعتبره الجماعات الارهابية سياسات غير عادلة تنتهجها سلطات الدولة ضدهم, أو لإجبارها علي اتخاذ قرار ما يراه الإرهابيون محققا لمصلحتهم. وقد يكون الدافع اقتصاديا, يتمثل في الحصول علي الأموال التي تمكنهم من مواصلة نشاطهم. وفي هذا تختلف المقاومة المسلحة اختلافا تاما عن الإرهاب حيث إن الباعث الأساسي لها هو الدفاع عن الوطن, وتحرير الأرض المحتلة ومقاومة الاحتلال, وهو أمر مشروع ومعترف به دوليا انطلاقا من اعتراف القانون الدولي بشرعية حق تقرير المصير. فقد أقر ميثاق الأممالمتحدة حق تقرير المصير في مادتيه الأولي والخامسة والخمسين. وأكدته قرارات الجمعية العامة, والعديد من المواثيق الدولية التي تبنتها الأممالمتحدة, والممارسة العملية من جانب عديد من شعوب العالم بما فيها الدول الكبري مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا ضد الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. ثانيها, إن الارهاب يثير دائما استياء الدول والشعوب واستنكارهم, حيث يقترن بإثارة قدر كبير من الفزع والرعب بين المواطنين. هذا في حين تحظي المقاومة بتعاطف الشعب في مجموعه بل ومساندته وحمايته لعناصر المقاومة, التي هي أفراد من الشعب المحتلة أراضيه. ثالثها, إن المقاومة المسلحة في إطار حق تقرير المصير ليست مطلقة, ولكنها مقيدة باستخدامها ضد الأهداف العسكرية, أو المصالح المادية للدولة المستعمرة أو دولة الاحتلال, بما في ذلك المعدات والجنود النظاميون. وفي هذا تختلف المقاومة عن الارهاب الذي يتضمن استخدام العنف ضد المدنيين الأبرياء بهدف التأثير علي موقف, أو سلوك دولة ما بغض النظر عن الضحايا المباشرين. رابعها, إنه يجب أن يكون استخدام العنف داخل الأراضي المحتلة بهدف مقاومة الاحتلال وتحرير الأرض وصولا لتقرير المصير. ومن الممكن أن يوجه إلي المصالح المادية لدولة الاحتلال إذا كانت تمارس سياستها القمعية ضد الشعب الذي يسعي إلي تقرير مصيره خارج الأقاليم المحتلة بشرط عدم المساس بالأبرياء. ولاشك في أن تمعن الحالة الشيشانية في إطار المعايير السابقة يوضح حقيقتين أساسيتين: أولاهما, أنه بالنظر إلي الميراث التاريخي قد تعتبر الحالة الشيشانية إحدي صور المقاومة المشروعة في الماضي. فقد عاشت شعوب القوقاز بما فيها الشيشان كجماعات قبلية متناثرة مستقلة في الجبال والوديان قبل خضوعها للسيطرة الروسية في أواخر القرن الثامن عشر. وقد خاضت حروبا طويلة ضد الاحتلال الروسي وقادت الطرق الصوفية النقشبندية والقادرية حركة المقاومة تحت زعامة الشيخ الشيشاني النقشبندي منصور أوشومرا, الذي هزم علي يد القوات الروسية وتوفي في الأسر عام.1793 وقد تجددت حركة المقاومة عام1834 وقادها الشيخ شامل, واستمرت ربع قرن وانتهت بهزيمته عام..1859 وعقب الثورة الروسية, عام1917 أعلن الشيشانيين اسقلالهم ودخلوا في مواجهة مع الجيش الأحمر الروسي خلال عامي1920 و1921 انتهت بهزيمتهم وإحكام القبضة عليهم طوال الحقبة السوفيتية. وفي عام1991 وقبيل تفكك الاتحاد السوفيتي أعلن الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف انفصال جمهورية الشيشان عن الاتحاد السوفيتي, ورفض توقيع اتفاقية الاتحاد الروسي عام.1992 ومع انشغال الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين بترسيخ دعائم نظامه تم تأجيل قرار اقتحام جروزني إلي11 ديسمبر1994, وعلي عكس ما توقعه القادة الروس استمرت الحرب حتي نوفمبر1996 حين أصدر يلتسين مرسوما يقضي بالانسحاب الكامل من الشيشان, ثم توقيع معاهدة سلام بين الجانبين في12 مايو1997, وقد استؤنفت الحملة العسكرية الروسية ضد الشيشان في سبتمبر1999 بعد اتهام القيادة الروسية للعناصر الشيشانية بسلسلة من التفجيرات في العاصمة موسكو والتي امتدت لتشمل الوحدات السكنية لمدنيين روس. وليبدأ فصل جديد من فصول القضية الشيشانية لا علاقة له بالماضي. فالحركة الشيشانية منذ عام1999 لم تعد تستهدف العسكريين فقط وإنما قامت باستخدام العنف ضد مدنيين روس وخارج الأراضي الشيشانية. وقد تأكد ذلك في العديد من العمليات الارهابية التي أعلنت العناصر الشيشانية مسئوليتها عنها, ومن أبرزها احتجاز914 رهينة بمسرح دوبروفكا في أكتوبر2002, ومأساة مدرسة بيسلان في سبتمبر2004, حين قام مسلحون باقتحام المدرسة واحتجاز ألف طفل مما أدي إلي مقتل335 شخصا منهم186 طفلا. كذلك تفجير مترو موسكو في فبراير2004 والذي أدي إلي مقتل42 شخصا, وهي العملية التي تكررت أخيرا بانفجارين في29 مارس الماضي. ولاشك في أن مثل هذه الاعتداءات علي المواطنين الأبرياء كانت هي العامل الفيصل الذي أفرغ الحركة الشيشانية من مشروعيتها, وأكد وصم المنخرطين فيها بالارهاب. ثانيهما, أن هناك انقساما في جموع الشيشانيين بين معارض للانفصال عن روسيا, ومؤيد له, وذلك منذ إعلان دوداييف استقلال الشيشان مطلع التسعينيات. ولاشك أن موافقة الشيشانيين علي الدستور الجديد في مارس2003, والذي يتضمن استمرار الشيشان كجزء من روسيا الاتحادية, وفوز أحمد قاديروف الموالي لروسيا في الانتخابات الرئاسية الشيشانية في أكتوبر2003 بنحو1.81% من أصوات الناخبين, لهو أمر يؤكد عدم شعبية الحركة الشيشانية, خاصة مع فوز نجله رمضان قاديروف برئاسة الجمهورية خلفا لوالده بعد اغتيال الأخير. الأمر الذي يؤكد أن التوجه المؤيد لبقاء الشيشان ضمن الاتحاد الروسي مازال هو التوجه السائد, والغالب بين جموع الشيشانيين. فالحالة الشيشانية وإن بدأت كحركة مقاومة مشروعة منذ أواخر القرن الثامن عشر إلا أنها جنحت عن هذا المسار منذ أواخر القرن العشرين بلجوئها إلي استخدام العنف ضد المدنيين مما أفقدها كثيرا من التعاطف علي المستويين الإقليمي والدولي, هذا إلي جانب التساؤل حول مدي التأييد الذي أصبحت تحظي به وشرعية تمثيلها للشعب الشيشاني في ظل وجود حكومة شيشانية وصلت إلي السلطة من خلال الانتخابات وبأغلبية واضحة.