من حين لآخر تشتعل النيران في قبر العمدة صقر, يسمع المارة صراخا وأنينا, يخرج مختلطا مع هسيس النار, والدخان يتصاعد عاليا, يحمل الخطايا ويبخرها في السماء, فتتلون السحب بلون رمادي, يجلب الحزن والتعاسة للناس, فمعه تعود ذكري العمدة وتطغي علي العقول دون رغبة من أحد, فقد أودعوا تلك الفترة من حياتهم في سرداب عميق, وصهروا الحديد فوق فتحته حتي لا تعود رائحة الآلام إليهم مرة ثانية. تشتعل النيران وتنطفئ وحدها, ولا يجرؤ علي الاقتراب منها أحد.. فهي نار العذاب والتطهير من الآثام,التي ارتكبها العمدة في حق أبناء قريته.. فما ارتكبه من ظلم وجور يفوق كل تخيل, مهما حاول الإنسان أن يجنح بخياله, ومهما حاول أن يجد له مبررا لما فعل, فلن يجد.. سأل سعيد أباه, وهو يعزق الأرض إلي جواره. كيف سكت أهل القرية عليه..؟ كيف احتملوا الذل والعار..؟ كيف سكتوا عليه..؟! ذلك ماليس له إجابة أو تبرير مهما كانت وسيلة إرهابه لهم, خاصة أن الأمر يتعلق بشرفهم وكرامتهم. وماذا فعل العمدة في حياته حتي يحترق قبره هكذا؟ سأل إبراهيم أباه, وهما يمران من طريق بجوار القبر, وبقايا الدخان, والجذور السوداء المحترقة, للحشائش والأعشاب المحيطة تلفت الانتباه, تدعو إلي التوقف والتأمل. سكت بلبول, لم يستطع أن يجيب عليه.. نبش الولد بسؤاله جرحا عميقا, أعاد إليه رائحة الأيام المنسية بكل قوة.. انطبع مشهد القبر والنيران والدخان والعمدة أمامه.. شاهد كل ذلك في طغيان مهيب اقشعر له بدنه, فجذب ابنه وأسرع في مشيه, هربا من ذلك الطريق الشائك, هربا من ضعفه الذي تجسد أمامه فجأة, ولم يتعرف علي مشعل النار. كان العمدة كلما شم رائحة فرح, أو عرس, في القرية, يذهب إليه في حلة ذئب, يحوم حوله متشمما, وبعد أن يهنئ أهل العروسين, يعود إلي بيته ويطلق كل رجاله, يذهبون وينتظرون حتي ينتهي الفرح, ويدخل العريس علي عروسه, بمجرد أن يغلق عليهما الباب, يجدان رجال العمدة قد ظهروا كالعفاريت, يأخذونهما بالقوة إلي بيته. وهناك يتم كل شئ غصبا وقهرا. يختلي العمدة بالعروس ويذبح شرفها. بعد ذلك تخرج العروس إلي عريسها, منكسة الرأس, دامعة العينين, مصحوبة بالعار, لا يجرؤ أحدهما علي النظر في عين الآخر, فكلاهما متواطئ, كلاهما مغتصب, كلاهما خجل مما هو فيه... يعودان ذليلين, بدلا من فرحهما يبدآن حياة منكسرة صامتة, لا سعادة فيها. سألت تماضر زوجها, وهما بعيدان في تانيس: كيف ارتضي الناس ذلك الوضع؟ سيطر الجبن علي الرجال, ففي المرات التي حاولوا فيها التصدي, لما يفعله, كانوا يغيبون في سراديب سرية, صنعها العمدة في أماكن لا يعرفها أحد, إلا هو وبعض رجاله. كان يحصل علي ما يريد مهما كان الثمن.. أدمن ذبح شرف العذاري في ليلة عرسهن, ولم ينج منه سوي المقربين إليه, والذين كانت لهم مكانة في القرية, والذين استطاعوا أن يزوجوا بناتهم في السر, بعيدا عن أعين رجاله, والويل والعذاب لمن ينكشف أمره بعد ذلك, لذا فكثيرا ما هاجر من القرية أناس, هربوا بكرامتهم قبل أن تطولها يد المعتدي. إنه نوع من الطغيان يبتكره الإنسان لإذلال أخيه الإنسان, دون وازع من ضمير يوقظه, ويجعله بشرا, سويا, مترفعا عن الظلم, دون أن يري نفسه وما تقترف في عين الآخر, دون أن يري ميزان العدل الذي في السماء. هذا الظلم كان أحد الأسباب التي جعلت بلبول يبني بيته بعيدا عن القرية نسبيا, برغم أن والد زوجته من ذوي المكانة في القرية, وبرغم أنه يعرف أن العمدة لن يطوله ولن يقترب منه, لكنه الإحساس الدفين بالخوف من المغتصب. النأي والابتعاد عنه غنيمة وراحة للبال... فرار من مرض معد, دخل رأس العمدة ولم يخرج منه.. فدائما تدخل الأشياء والأفعال إلي الرأس صغيرة بعدها تكبر وتتنامي تدريجيا, تصبح هي المحور الذي تتشكل عليه الحياة والسلوك... كان يعتدي علي نساء كثيرات, ممن يقعن تحت يده في ظروف كثيرة, وكان ذلك يتم في الخفاء دون مجاهرة.. تحالف مع الشيطان في السر, اعتبر أن كل النساء ملك له, يفعل معهن ما يشاء, مثله مثل كثيرين في ذلك الوقت ممن يمتلكون الأرض, ويتحكمون في مصائر الناس وحياتهم. كبر الأمر في رأسه, بعد أن أتي إليه مصادفة... تلك حكاية يعرفها كبار السن ممن عاصروه في شبابه... وهما يجلسان تحت أشعة الشمس, يأكلان من الفيتامين المجاني الذي تدخله بدفئها في عظامهما, قال لزوجته وهما يجلسان أمام بيتهما ينظران إلي مستقبل ولديهما: رائحة أيام 2 أنتهي المستقبل دائما لا يتحرك بدون الماضي. راحا يسترجعان ما مرت به القرية منذ أن تولي العمدة صقر أمورها, عادا إلي الفرح الذي أقيم لاثنين من أسرتين كان الخصام والتنافر بينهما ليس له حدود, تدخل العمدة للصلح بينهما, تم الإتفاق علي زواج ابن وبنت لتلكما الأسرتين من بعضهما, للدخول في مصاهرة تقضي علي ذلك التناحر والتنافر الدائمين. وافقت الأسرتان علي مضض, وشرعا في إتمام الزواج, وإكراما لهما تبرع العمدة بإقامة ليلة الفرح في بيته الكبير. والفرح علي أشده, حدث شد وجذب بين أفرادهما, تطور الأمر واشتبك رجالهما ببعضهم.. تناثر الناس.. لكن رجال العمدة أحاطوا بالعروسين, أدخلوهما إلي غرفة داخلية تخص العمدة وحده, وأطفئت أنوار الكلوبات للتفريق بين المتعاركين. خرج العريس ليري ما آلت إليه المعركة, ليهديء من ثورة أهله, في الوقت الذي عاد فيه العمدة إلي الداخل في الظلام, يتحسس طريقه, دخل إلي الغرفة واصطدم بالعروس بكامل جسده ووقع عليها, ولما وجدها بين يديه بكامل زينتها, تخيل أنه هو العريس, أن ذلك الفرح قد أقيم له, بدون أن يحدث صوتا طوي البنت بين ذراعيه, وهي مستكينة وخائفة من الظلام.. ربما قد التبس عليها الأمر وظنت أنه عريسها, تمادي العمدة وفعل فعلته مع البنت.. خرج يتحسس نفسه, أعجبه ما قام به, تحسس وجهه الساخن والدماء تفور منه.. فكر في حيلة يداري بها ما فعل, ذهب إلي العريس فسقاه حتي أفقده وعيه, أدخله علي عروسه, بعد أن أقنعه بالنوم مع عروسه عنده حتي تهدأ الأسرتان. اهتاج العمدة بما صنعه, أشعرته اللذة التي حصل عليها أن الشيطان ساعده علي فتح باب لم يكن يقدر علي أن يقترب منه. بدأ رويدا, يبتكر الحيل والألاعيب, ليكرر فعلته مع أخريات, في ليالي زفافهن حتي تمكنت منه الرغبة, صارت هي كل عقله, تبجح مباهيا بما يفعل, أصبح يمشي يتقدمه موكب حرس, خلفه بنادق مشرعة. سور البيت بأسلاك شائكة, أحكم المداخل من كل الجهات.. فالظالمون والطغاة وحدهم هم الذين يشددون الحراسة علي حياتهم, خوفا من أن يلتقطها مظلوم عابر. من بعيد, كانت الشمس تولي ظهرها, تلون الأفق بلون أرجواني غامق, تصبغ الوجوه بغضبها, وتفر تاركة الليل والظلام, ليملأ القرية نعيق البوم.. وأجنحة الخفافيش تضرب الهواء وتخيف الصدور.. فها هو الشيطان يموج في سمائهم, يتلصص علي خصوصياتهم, ينهبهم ويدنس شرفهم. صحا شباب القرية من نومهم واجتمعوا علي رأي واحد, لا رجعة فيه مهما كلفهم تنفيذه. مضي زمن طويل, وكل ما يفعله العمدة يتراكم تحت جلود الناس.. جوره وسلبه لزراعتهم وأرضهم.. بطشه بمن يريد.. عدم مبالاته بكبير أو صغير.. إبلاغه المركز عن أولاد كثيرين, كانوا يرتبون لعدم الخدمة في الجيش بما فيهم سعيد بن بلبول وغيره من الشباب, الذين ليس لديهم إخوة, ويعز علي آبائهم إرسالهم إلي الجيش, فاض الكيل وطفح الغضب في الوجوه فتحركت المشاعر كلها ضده. رصاصة طائشة رتب الشباب لها وتبعتها رصاصات عديدة ثقبت جسد العمدة, أردته قتيلا أمام بيته, وهو خارج في عصر أحد الأيام. القاتل بدا واضحا في العيون.. القاتل كل الناس.. كل القرية انتقمت لشرفها, رتبت, وساعدت الذين فعلوها علي الهروب والاختفاء.. ولم يستدل علي أحد. وأصبح رجال العمدة جرذانا مختبئة في جحورها. ابتسمت الوجوه وفرحت, مات الطاغية بسواعد أبنائهم, ودوا لو مزقوه إربا, وخلطوا لحمه بالتراب وأحرقوه. اعتلي كرسي العمودية من بعده ابن عم له, كان قد مل من انتظاره لدوره, فأتي ذلك الحادث بما كان يتمناه, وحقق له ما يريد, فطوي القضية طيا: قذفها في سراديب صقر, الممتلئة بالضحايا الأبرياء. أخرج من كان حيا وأطلق سراحه, ردم السراديب علي الأموات الذين خرجت أرواحهم, وانغرست في الأرض, وتحركت تلك الأرواح في باطن الأرض تجاه قبر العمدة وأحرقته. وكلما شعرت بالظلم الذي وقع عليها, تذهب إليه وتحرقه, ويظل القبر مشتعلا, لا يجرؤ علي الاقتراب منه أحد. ذلك هو التفسير الذي أراح أهل القرية, حول مصدر إشعال النار. عن الكاتب: صدر له خمس روايات: غادة الأساطير الحالمة, نبع الذهب, تفاحة الصحراء, هالة النور, وخيال ساخن. في طبعات عربية مشتركة: القاهرةبيروتالجزائر. وحاز علي عدة جوائز في الرواية: جائزة نادي القصة عام9991, جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة عام1002/0002, جائزة إحسان عبدالقدوس عام8002, وجائزة وكالة سفنكس في أدب العشق للقصة القصيرة( في دورتها الأولي) لعام9002.