شمشون الذي جعلوه عنترا!! ما بين الحقيقة والسياسة تاريخ طويل من المد والجزر, خصوصا في الدول النامية; فكثيرا ما يتصالح الاثنان, وكثيرا( جدا) ما يتراشقان; فالسياسة دائما ما تزين الحقيقة من وجهة نظرها إذا أعجبتها, ودائما ما تزيفها تزييفا إذا ما تعارضت معها; وكما هو حال الإعلام الآن كأداة للسياسة في ذلك, كذلك كان الفن ولم يزل أداتها المثلي! أما الفن, فهو دائما الضحية أو علي الأقل هو غير المستفيد بالمرة; ذلك لأن السياسة دائما ما تنقض علي الفن لخدمة مصالحها: توجهه, وتسيسه, وتلوي به الحقائق, وتحرف به الكلم عن مواضعه!! والفن في ذلك طيع ومطيع جدا, إلي أن تأتي تلك اللحظة التي يفيض فيها الكيل, فتجد الفن ينقلب علي عاقبيه بالتلميح تارة, وبالتلويح تارة, ثم بالإشهار والتشهير بل والافتراس تارات.. وسيف الفن وقتئذ نافذ لا محالة!! والحقيقة أن جوهر الشقاق بين الاثنين يكمن في اختلاف أدوارهما; فالساسة يصنعون التاريخ; أما الفن فهو يرصد ما يصنعه هؤلاء ويؤرخه! أما الفرق, فهو أن السياسة والساسة زائلون, بينما الفن باق كالشوكة في حلق التاريخ, شأنه في ذلك شأن عدسة الكاميرا, ترصد كل ما حدث ولا يكون أمام المرء حين الرغبة في التملص منها سوي التخلص من كل ما رصدته جملة وتفصيلا أو قبوله علي حاله!! المكان: مدينة غزة الموضوع: باب مغلق يتصدر بناية عتيقة قيل إنها مقام شمشون الجبار, ذلك الرجل الأسطوري في قوته.. هكذا عرف الناس البناية منذ عشرات السنين, وهكذا استقر الحال وكذا المقام طيلة هذه المدة!! فمنذ أيام قلائل قرر المسئولون هناك فجأة معرفة سر ذلك الشخص القابع خلف هذا الباب علي مر السنين, فجاءوا بكل الآلات, والأدوات, والمعدات لفتح الباب العتيق, وكان التاريخ هو الشخص الوحيد الذي ينتظرهم في الداخل بلهفة, لا لشيء إلا ليفصح لهم عما خفي عليهم طيلة تلكم السنين!! فتح الباب علي مصراعيه.. وكانت المفاجأة: فالمقام ليس لشمشون الجبار بالمرة!! وإنما هو لشخص يدعي الحاج محمد أبو العزم, ربط الناس فيما يبدو بين كنيته العزم وبين قوة شمشون الشهيرة, فانحرف المعني مع مرور الوقت نحو ما رغبت فيه نفوس الناس نفسيا هناك وليس نحو الحقيقة.. ولكن الحقيقة لابد في النهاية أن تنكشف!! والرغبة كلمة لا عقل لها, تلتوي أمامها أعظم المعاني دائما, وبخاصة عندما تكون تلك الرغبة جماعية, فيكون حينئذ الالتواء عظيما, ويكون الانحراف أضل سبيلا إذا ما امتزجت المعاني في الأذهان واختلطت الأوراق!! ولقد كانت الرغبة عند الناس هناك وعلي ما يبدو بدون قصد هي( تعريب) شخصية شمشون تلك, وهي الشخصية اليهودية أساسا والمذكورة صراحة في سفر القضاة بالكتاب المقدس( أصحاح13), فيما قد لايعرفه كثير من الناس( عندنا علي الأقل), معتقدين في ذلك أن شمشون قصة مأثورة, وليس قاضيا من قضاة بني إسرائيل بحسب زعمهم والله أعلم! وسواء اتفقت أنت مع صحة الرواية أو أنكرتها, فإن الرواية وبطلها علي حالهما يظلان يهوديين شئنا نحن ذلك أم أبينا, وليسا منتميين للعروبة أو الإسلام من قريب أو بعيد; فإذا كانت القصة قد حدثت, فهي قصة يهودية, وإن لم تكن قد حدثت, فهي أيضا قصة يهودية حتي النخاع!! ومن ثم فشمشون ومعناه بالعبرية قوة الشمس ليس هو الحاج محمد أبو العزم كما وجدوا الاسم مكتوبا علي القبر, وإنما تبين أن أبو العزم هذا عارف بالله مغربي جاء إلي غزة ومات, فبني له قنصوه الغوري مقاما في عام908 هجريا!! ولعلها ليست المرة الأولي التي تحرك فيها شخصية شمشون الخيال وتثير الجدل; فلنا في السينما المصرية في ذلك أسوة حسنة, تمثلت في فيلمين حملا اسم شمشون: الأول, هو فيلم شمشون الجبار, وهو الفيلم الذي تم إخراجه عام1948, واقترب في فكرته صراحة من القصة المعروفة في العقل الشعبي لشمشون, وحكاية قوته الكامنة في خصلات شعره, وحبيبته دليلة التي خدعته; والثاني, هو فيلم شمشون ولبلب وكان أول عرض له عام1952, والحقيقة أن الفيلم الأخير قد لاقي من التحريف ما لاقي; إذ يكفي أن اسم الفيلم أصلا قد تم تحريفه تحت نير رغبة سياسية عارمة وقتذاك لإنكار البطل اليهودي, فإذا باسم شمشون يتحول بقدرة قادر إلي عنتر, وليصبح اسم الفيلم بعد ذلك عنتر و لبلب!! أما عن ثنايا الاسم في الدراما, فقد آثر القائمون علي السياسة وقتئذ دبلجته, بحيث استبدل الممثلون صوتيا( بعد انتهاء التصوير فيما يبدو) اسم شمشون بعنتر, حتي وإن كانت شفاهم تنطقه أمام ناظرينا!! هكذا تصور القائمون علي السياسة أنهم طمسوا أصل الواقعة علي طريقة أبو العزم فجعلوا شمشون عنترا!! أما ما لم يستطع هؤلاء طمسه, وربما دون انتباه, فهو أن دراما الفيلم بعيدا عن تغيير الاسم هي في جوهرها قائمة علي جوهر القصة التوراتية: فشمشون كان قويا, وعنتر( سراج منير) كان قويا; وشمشون أحب فتاة غير مناسبة له( امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين), وعنتر أحب فتاة غير مناسبة( لوزة الفقيرة بنت البلد); والفلسطينيون كانوا يكيدون له, ولبلب( شكوكو) كان يكيد له; وشمشون وضع لأعدائه أحجية يحلونها في7 أيام, وفكرة الفيلم قامت أيضا علي أحجية كان علي لبلب أن يتجاوزها خلال7 أيام كذلك( تحدي السبعة أقلام); والفلسطينيون نجحوا في حل الأحجية, ولبلب أيضا نجح في حل الأحجية, والفلسطينيون نجحوا في الانتصار علي شمشون وجعلوا منه أضحوكة, ولبلب انتصر أيضا علي عنتر وجعل منه أضحوكة!! صحيح أن شمشون انتقم بعد ذلك, وهدم المعبد من بعد أن عاد إليه إيمانه ونبت شعره, بينما اكتفي القائمون علي الفيلم بهزيمة عنتر( الذي هو في الأصل اسم لبطل عربي كان لايستحق أن يهزم بنية هزيمة اليهودي شمشون أصل الفكرة), ولكن السياق العام يظل ينبض بفكرة القصة التوراتية, وصحيح أنه يحق لأي مبدع أن يستند إلي أي رواية من أي مصدر ويعالجها بطريقته, لكن المشكلة هي في لي القصة عن مسارها بتفريغ مغزاها من محتواه لأسباب سياسية من الغرابة أنها لم تخدم أي هدف سياسي أصلا, كما كان القصد, بل أنها علي العكس من ذلك ابتعدت عنه شديد الابتعاد وأفقدت الهدف معناه; إذ كأن شمشون في الفيلم كان هو المعادل الموضوعي لليهود, وكان لبلب هو المعادل الموضوعي للعرب, وكانت الحبيبة هي المعادل الموضوعي للوطن في الصراع بين الطرفين; فإذا بهوس طمس الاسم ينجرف بالقصة بل والفيلم برمته إلي مستوي حواديت الأطفال قبل النوم! الفيلم قديم, ولكن الكشف التاريخي منذ أيام الذي حدثتك عنه في مستهل المقال جددها في مخيلتي.. وليظل المعني واضحا ويظل الخطأ كثير التكرار!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم