(1) خذلتني نجمة في السماء كنت قد تعودت الاهتداء بها أثناء سيري في الصحراء ليلا اختفت دون أن تترك خلفها أثرا أو أعلم عنها خبرا, غابت خلف سماء سوداء, فلم أستطع في غيابها تمييز الاتجاهات ولم استطع بالتالي أن أحمي نفسي من الضياع (2) كان شيئا غريبا أن اسمع وأنا أكاد أغيب عن الوعي, بعد أن تهت في الصحراء, وصرت أزحف فوق الرمل والحصي لا أقوي علي المشي أو الوقوف انهاكا وتعبا, أواجه مصيرا مرعبا هو الموت ظمأ, أقول كان شيئا بالغ الغرابة موجبا للدهشة والعجب أن أسمع صوتا يأتيني وأنا علي حافة الغياب عن الوعي يسألني أن اختار ماذا اريد أن أشرب. أي خيار يعرضه هذا الصوت, وأنا الذي أتحرق لقطرة ماء تنقذني من الموت. واوضح الصوت قائلا: إن هناك الحليب وهناك معصور الفاكهة, وهناك الرائب, وهناك الماء, لم اتبين إلا بعد أن تم انقاذي بسكب قطرات من الماء في فمي من طرف امرأة عجوز, ان صبيا صغيرا كان يرعي الجديان هو الذي وجدني علي هذه الحالة وسمعني أردد فيما يشبه الهذيان انني اموت عطشا فكان عرضه السخي بتقديم أنواع من المشروبات يتوافرون عليها في بيتهم, لم أكن في واقع الأمر استطيع أن اختار بينها لأن الأولوية هي لشيء ينقذني من الهلاك, أما وقد استعدت العافية والأمان, فأهلا قلت للصبي بهذه الخيارات التي تعرضها علي, وسأروي نفسي من حليبك وعصير فاكهة البساتين والرايب الممخوض في قرب مصنوعة من جلد الغزال ممزوجا بالعنبر ورحيق البردقوش. (3) كان شيئا مرعبا يحدث لي وأنا أقطع هذه المفازة القاحلة الموحشة الجرداء, لا تحف بي إلا كثبان الرمال, ولا يصافح بصري إلا السراب يلمع في نهاية الأفق, صانعا انهاره الكاذبة, أقول: كان شيئا مرعبا ان التفت فأجد أن رفيقي الذي يسير بجواري, وكنت اسمع صوته يسرد بعض حكاياته مع السفر في الصحراء, قد اختفي, بعد ان توقف عن الحديث وهو في منتصف الحكاية التي ظلت منقوصة, كنت ألتفت إليه لأحرضه علي إكمال الحكاية, فلم أجد غير الفراغ, وفي فزع صرت اصرخ مناديا عليه باسمه, فلا اسمع احدا يجيبني غير رجع الصدي, وأمسح الصحراء ببصري متنقلا به عبر الاركان الأربعة, فلا أجد له أثرا, كأنه حقا تبخر في الفضاء أو أن أحدا من أهل الخفاء جاء وأحاله إلي كائن اثيري مثله لا تراه العين المجردة, ولا تصل إليه حواس السمع والبصر واللمس, ونبت في ذهني يقين ارتعش له جسمي خوفا ورعبا, وهو ان مصيري في هذه البيداء لن يختلف عن مصير صاحبي, وأنني قبل ان أتمكن من قطع هذه الفيافي سوف ألاقي مصيرا مثل مصيره علي ايدي القوي الخفية المجهولة التي تملأ هذا الفراغ المهول. (4) اتقاء لشمس الصحراء الحارقة الخارقة, جلست في ظل كثيب رملي كبير وأوقدت بعض الاعواد, اصنع نارا لإعداد كأس من الشاي أقاوم به التعب, حرصت علي ان تكون النار في الحد الأدني الذي يؤدي المهمة, لكي لا اضيف بوهجها حرارة إلي حرارة الطقس, وادخن سيجارة انفث مع سحائب دخانها شيئا من سحائب الضيق في نفسي, واكتشفت وأنا أستأنف المسير أنني أعود من نفس الطريق الذي جئت منه, وقد اختلطت امامي الاتجاهات, ولم أعرف والشمس تقف في قبة السماء فوق رأسي, محلي من اتجاهات الشرق والغرب والشمال والجنوب, فاستدرت عائدا لاستئناف الطريق في الاتجاه الذي رأيت أنه الاتجاه الصحيح, وسرت مسرع الخطئ أسابق الليل والنهار لأنفذ من هذا البون الصحراوي الهائل في شساعته وطول مسافاته, وكان الاكتشاف الساحق الماحق الذي جعلني انكفي فوق الرمل باكيا صارخا نادبا حظي هو انني بعد ثلاثة أيام من المسير الشاق المضني أجد نفسي وقد عدت إلي نفس الكثيب الرملي حيث رماد النار التي اعددت فوقها الشاي, وعقب السيجارة التي دخنتها, انزلت من علي كتفي الجراب ومطرة الماء واتكأت علي كثيب الرمل أوقد اعواد نار أعد عليها كأس شاي, ربما يكون كأس الشاي الأخير في حياتي وأوقد سيجارة ربما تكون هي الأخيرة ايضا بعد ان نفد الزاد ونضب الماء ولم يعد في وسعي إلا أن أواجه مصيري بصبر وشجاعة وأسلم اموري لما كتبته لي الاقدار في اللوح المحفوظ. (5) يهماء يكذب فيها السمع والبصر هكذا وصف ابوالطيب المتنبي الصحراء من واقع عمر قضاه يعبر فيافيها وحزونها واكوارها, ولاقي حتفه فيها علي أيدي بعض الاشقياء وقطاع الطرق من لصوصها ومجرميها. انها فعلا متاهة يكذب فيها السمع والبصر والدليل انه لاحت لي وأنا أعاني قيظ القيلولة وتهبط فوقي أشعة شمس الظهيرة كأنها صهاريج من النار ايكة من الاشجار استغربت وجودها وسط الصحراء, واعتبرتها هدية إلهية تنقذني من الشر المستطير لسعير هذه الظهيرة, كانت أيكة ذات اشجار تلوح من بعيد كبيرة ظليلة غزيرة الاغصان والأوراق وعندما اقتربت منها وجدت أنها لم تكن غير مجموعة نبتات عجرم ضيئلة الاحجام لا يزيد ارتفاع الواحدة منها علي شبرين, يابسة الاعواد, جافة, منزوعة الورق, لا تنفع لمقيل سحلية لا لمقيل إنسان, فلم ازد علي ان رددت قول المتنبي بصوت عال يهماء يكذب فيها السمع والبصر, فجاء الصدي مرددا البيت كأن هناك مجموعة صوتية من عشرات الاشخاص تنشد من ورائي بيت الشعر تأكيدا لقول المتنبي أنه ليس البصر الذي يكذب لكنه السمع ايضا.