لكم تمنيت أن أقوم بهذه الرحلة.. وكيف لا يتمنى أحد أن يقف فى المكان الذى كلم اللّه سبحانه وتعالى على قمته سيدنا موسى!! لكم حلمت بأن أخوض هذه المغامرة وأسلك بقدمىّ هذا الطريق مثل كل الأجانب الذين يأتون من آخر الدنيا ليشهدوا شروق الشمس أو غروبها.. ولكنى أعترف وأقولها صراحة: لم أقف ولم أستطع. تحدثت مع نفسى كثيرًا فى هذا الأمر وكانت روح المغامرة تقودنى إلى أن أرتدى ملابسى وأذهب مع الفوج السياحى التابع للفندق فى الواحدة بعد منتصف الليل، لأصل إلى قمة الجبل الخامسة صباحًا، فأشهد لحظة شروق الشمس، الأكسجين يقل كلما قاربت من الوصول.. وربما ينتابنى ارتفاع فى الضغط أو انخفاض.. وصحتى لم تتحمل قسوة البرد.. أعترف: استسلمت وخضعت لأمر صحتى التى قالت لا. لكن جمال حسام دياب، ابن المصور حسام دياب، ذهب فى رحلة لصعود الجبل.. وعنها يقول: كان لدىّ أسبابى للقيام بهذه الرحلة الشاقة جدًا منها وأهمها - بالنسبة لى - أنى أردت أن أصور أدق التفاصيل لوالدتى، حيث إنها زارت المنطقة مرتين، ولم يتوفر لها الوقت كى تتسلق الجبل وأيضًا لأنى أردت أن أرى وأشعر بالمكان الذى كلم اللّه فيه نبيه موسى عليه السلام وأرسل عليه الألواح وفيها بيان للحق والرحمة. بدأ تسلقى كما الكثيرين، ولم أكن أعرف أن هذا الجبل ارتفاعه حوالى 2500 متر فوق سطح البحر، الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، لأستطيع الوصول إلى القمة مع شروق الشمس، عند بداية الطريق الذى كلم الله فيه موسى كان أول مَنْ كلمته بدويًا يحاول إقناعى بركوب جمل خلال الصعود ونظرًا لخبراتى السابقة مع الجمال رفضت تمامًا وكانت حجتى هى أنه سيقصم ظهرى وبالطبع معى كاميرتى جاهزة للتصوير فحاولت تصوير بداية الطريق ولكن «الدنيا كانت كحل» فاستمررت فى التسلق. بعد حوالى ربع الساعة بدأت أصوات شهيقى وزفيرى تعلو وبدأت نظرات السياح الأجانب المتواجدين بالقرب منى تتجه نحوى، حتى وصلت إلى أول استراحة بدوية فى الطريق جلست متلهفًا، أخرجت زجاجة المياه وشربت وأنا أفكر «وأنا عليا من ده بإيه»، لكنى أردت أن أكمل حتى أرى مكانًا تكلم فيه الله، استرحت خمس دقائق وكانت أفواج السائحين تزداد وتزداد، بعضهم راكب والآخر ماشٍ بدأت فى التسلق مرة أخرى منظمًا لنفسى حتى لا أتعب بسرعة ممسكًا بالكشاف الضوئى لأرى أين أخطو فالطريق مظلم وخطر للغاية. تسلق وراحة.. تسلق وراحة، هكذا ظللت حوالى 45 دقيقة، حتى نفد منى الماء، نظرت إلى أعلى لأرى أين أقرب استراحة لأشترى زجاجة أخرى وكانت الاستراحة بعيدة، فواصلت التسلق وكنت مجهدًا للغاية فبدأت أتخيل نفسى كإحدى شخصيات الرسوم المتحركة تائهًا فى الصحراء بدون ماء، ماشيًا على أربع ولسانى يخرج من فمى لاهثًا وراجيًا لبعض من قطرات المياه لترطيبه، عندما وصلت إلى تلك الاستراحة كنت قد أنجزت تقريبًا نصف المسافة، لكنى كنت أفكر جديًا فى الرجوع أو الانتظار هنا حتى مطلع الشمس وبقيت قرابة ربع الساعة أجادل نفسى. اشتريت زجاجة مياه وواصلت المسيرة، ولاندهاشى كانت أسهل، رغم أن النصف الأخير من الطريق هو الأصعب، وفقًا للبدوى الذى باع لى المياه، وكلما ارتفعت أحسست بالهواء ثقيلاً لكن جسدى أصبح أخف.. وصلت إلى مقام النبى إيليا ومنه يجب صعود 750 سلمة حجرية ليست بالهينة، فارتفاع السلمة يبدأ من 50 سم ويصل إلى 80 سم أحيانًا، لنصل منها إلى قمة الجبل الذى سمع صوت اللّه، وكنت فى غاية الحماس، شعرت بالأدرينالين يتدفق فى عروقى فهدفى كان فى تصورى آنذاك، فلم أكن أعرف كل تلك المعلومات على بعد خطوات، فهممت مسرعًا إلى السلالم دون أن ألحظ لافتة تقول: «درجات التوبة»، وهو الاسم المطلق على هذه السلالم، بعد حوالى 30 سلمة بدأ اللهاث مرة أخرى وقفزت الصورة الكارتونية إلى عقلى مرة أخرى، فقررت أن أستريح لمدة دقيقة كل 20 سلمة، وبعد وقت ليس بالقليل وصلت إلى القمة. هنا تحدث اللّه إلى موسى، أقمت هنا بعدما يزيد قليلاً على الساعتين والنصف من التسلق المتعب الشاق فى جو شديد البرودة والمحاورة النفسية. ماذا رأيت؟ الكثير والكثير من السائحين جالسين على الأرض ملاصقين لبعضهم، ملتحفين ببطاطين يؤجرها البدو، الكل منتظر ميعاد شروق الشمس بعد حوالى ساعة ونصف، حاولت أن ألتقط بعض الصور، لكنى فشلت، فالظلام حالك والأنوار الوحيدة هى أنوار الكشافات التى يحملها الكثيرون مثلى، حينها فقط أحسست بالبرد ولم يكن البرد الخارجى فقط بل الداخلى، فبعد كل هذا التعب والتوقع، جلست بجانب أمريكى مستندًا على حائط غرفة حجرية عرفت لاحقًا أنها دير مسيحى صغير، نظرت إلى النجوم ما أبدعها وما أجملها، تتلألأ فى السماء كفستان سواريه ليس من صنع بشر بل من صانع البشر، فرفعت وجهى للسماء ودعوت اللّه قليلاً، وإذا بصوت أذان الفجر من حيث لا أعلم - لم أسمع أجمل منه فى حياتى يدوى فى الجبال والوديان المحيطة، استبدل هذا الأذان الإحساس بالبرد إلى الإحساس بالسلام والابتسام، أردت أن أصلى فاستأذنت الأمريكى الجالس بجانبى أن أستخدم طرف بطانيته للسجود فوافق منشرحًا. بعد الصلاة دردشت قليلاً مع الأمريكى فى موضوعات عامة ونحن ننظر إلى الأفق منتظرين الشروق، وبعد قليل ظهر الخيط الأبيض من بعيد ليشق ظلمة مطبقة على صدورنا، قمت مسرعًا مخرجًا كاميرتى، لأنى أردت أن أرى وأصور المكان الذى تكلم اللّّه إلى موسى فيه فلم أكن رأيته من عتمة الليل فقال لى الأمريكى بروتينية: «لا تستعجل فالشمس أمامها ما لايقل عن 15 دقيقة لكى تظهر» فلوحت بوجهى مبتسمًا وقمت بالتقاط عدة صور مستخدمًا إحدى الخدع الضوئية التى علمها لى والدى، ثم وقفت على صخرة عالية كى أرى الشروق بوضوح وليس من بين أنصاف الدوائر التى تشكلها رؤوس الأجانب المصطفين على السور الحجرى. ضوء أصفر خفيف يخرج على استحياء من خلف الخيط الأبيض، تتعالى صيحات الإعجاب بلغات مختلفة، أصوات كاميرات، ابتسامات وأحيانًا قبلات.. ومازال الظلام هناك، لكن الضوء يكبر شيئًا فشيئًا مع خروج الشمس بجرأة.. أدمعت لأنى حينها فقط أدركت أن الحق والرحمة اللذين بينهما اللّه فى الألواح التى أنزلها على سيدنا موسى فى هذا المكان، وربما على الصخرة نفسها التى كنت عليها ليسا مكتوبين فى الألواح فقط بل فى كل المكان، فالحياة من أجل الحق كهذا الجبل أثناء الصعود لقمته ليلاً، ظلمة وبرد وتردد وخوف من السقوط لكن مع الوصول إلى القمة يتحقق الحق بعد عناء وتشرق الشمس، لتنشر الرحمة، تجد البشر - باختلاف أجناسهم - منتظرين شروقها مهللين معجبين فرحين.. بدأت رحلة النزول ولم أكف عن الابتسام طولها.