محافظ الإسكندرية يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي (صور)    آخر تحديث لسعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري.. وصل لكام؟    «التضامن»: ضم فئات جديدة لمعاش تكافل وكرامة قبل نهاية سبتمبر المقبل    تفاصيل أعلى عائد على شهادات الادخار 2024 في مصر    البيت الأبيض: لا نريد احتلالا إسرائيليا لقطاع غزة    عاجل.. لحظة اغتيال القيادي بحماس شرحبيل السيد في قصف إسرائيلي    إحالة 12 متهما من جماعة الإخوان في تونس إلى القضاء بتهمة التآمر على أمن الدولة    رئيس مجلس الدولة: الانتخابات الحالية بداية جديدة للنادي    كرة يد.. الأهلي 26-25 الزمالك.. القمة الأولى في نهائي الدوري (فيديو)    طقس ال72 ساعة المقبلة.. «الأرصاد» تحذر من 3 ظواهر جوية    التصريح بدفن جثة تلميذ غرق بمياه النيل في سوهاج    شيرين تهنئ عادل إمام بعيد ميلاده: «أستاذ الكوميديا اللي علم الناس الضحك»    أشرف غريب يكتب: أحد العظماء الخمسة وإن اختلف عنهم عادل إمام.. نجم الشباك الأخير    الاستعدادات الأخيرة ل ريم سامي قبل حفل زفافها الليلة (صور)    النيابة تأمر بانتداب المعمل الجنائي لبيان سبب حريق قرية «الحسامدة» في سوهاج    جداول قطارات المصيف من القاهرة للإسكندرية ومرسى مطروح - 12 صورة بمواعيد الرحلات وأرقام القطارت    وزير الاتصالات يبحث مع سفير التشيك تعزيز التعاون بمجالات التحول الرقمي    أوكرانيا تسعى جاهدة لوقف التوغل الروسي فى عمق جبهة خاركيف الجديدة    استمرار تراجع العملة النيجيرية رغم تدخل البنك المركزي    بعد غلق دام عامين.. الحياة تعود من جديد لمتحف كفافيس في الإسكندرية (صور)    طيران الاحتلال يغتال القيادي بحماس في لبنان شرحبيل السيد «أبو عمرو» بقصف مركبة    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    مدير إدارة المستشفيات بالشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى فاقوس    حسام موافي يوضح أعراض الإصابة بانسداد الشريان التاجي    توخيل يؤكد تمسكه بالرحيل عن بايرن ميونخ    "بموافقة السعودية والإمارات".. فيفا قد يتخذ قرارا بتعليق عضوية إسرائيل    بريطانيا تتهم روسيا بتزويد كوريا الشمالية بالنفط مقابل السلاح    4 وحدات للمحطة متوقع تنفيذها في 12 عاما.. انتهاء تركيب المستوى الأول لوعاء الاحتواء الداخلي لمفاعل الوحدة الأولى لمحطة الضبعة النووية    عمر الشناوي حفيد النجم الكبير كمال الشناوي في «واحد من الناس».. الأحد المقبل    عمرو يوسف يحتفل بتحقيق «شقو» 70 مليون جنيه    سوليفان يزور السعودية وإسرائيل بعد تعثر مفاوضات الهدنة في غزة    علماء الأزهر والأوقاف: أعلى الإسلام من شأن النفع العام    تاتيانا بوكان: سعيدة بالتجديد.. وسنقاتل في الموسم المقبل للتتويج بكل البطولات    "بسبب سلوكيات تتعارض مع قيم يوفنتوس".. إقالة أليجري من منصبه    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    الوضع الكارثى بكليات الحقوق    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان موقع إنشاء مستشفى القوصية المركزي    رئيس جهاز دمياط الجديدة يستقبل لجنة تقييم مسابقة أفضل مدينة بالهيئة للعام الحالي    «تقدر في 10 أيام».. موعد مراجعات الثانوية العامة في مطروح    موعد عيد الأضحى المبارك 2024.. بدأ العد التنازلي ل وقفة عرفات    وزارة العمل تعلن عن 2772 فُرصة عمل جديدة فى 45 شركة خاصة فى 9 مُحافظات    مساندة الخطيب تمنح الثقة    أحمد السقا: يوم ما أموت هموت قدام الكاميرا    فريق قسطرة القلب ب«الإسماعيلية الطبي» يحصد المركز الأول في مؤتمر بألمانيا    «المرض» يكتب النهاية في حياة المراسل أحمد نوير.. حزن رياضي وإعلامي    المقاومة الإسلامية في العراق تقصف هدفا إسرائيليا في إيلات بالطيران المسيّر    بالصور- التحفظ على 337 أسطوانة بوتاجاز لاستخدامها في غير أغراضها    قافلة دعوية مشتركة بين الأوقاف والإفتاء والأزهر الشريف بمساجد شمال سيناء    في اليوم العالمي ل«القاتل الصامت».. من هم الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة به ونصائح للتعامل معه؟    أوقاف دمياط تنظم 41 ندوة علمية فقهية لشرح مناسك الحج    إحباط تهريب راكب وزوجته مليون و129 ألف ريال سعودي بمطار برج العرب    الاتحاد العالمي للمواطن المصري: نحن على مسافة واحدة من الكيانات المصرية بالخارج    سعر جرام الذهب في مصر صباح الجمعة 17 مايو 2024    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    استشهاد شاب فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي شمال الضفة الغربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثوار الحارة والزقاق والبيت الطيب‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 05 - 2011

الثوار في كل مكان وفي كل زمان‏..‏ هم النبات الحسن الطالع الصلب العود الذي يخرج من طين المحن تحت شمس الخلاص تلهب حماسهم بنور التحدي‏..‏ ليحققوا أحلام البسطاء الطيبين الشرفاء في بيت آمن دافئ بالحب . عامر بالخير ترعاه عين امرأة طيبة.. و يرتع فيه الأطفال ضحكا ولعبا ومرحا وشبعا ومن طين المحن ومن أهاجير الظلمة.. تخرج الأصالة كشمعة موقدة, وتتفجر الرجولة كالنبع الطيب من قلب الحجر الأصم.. وتصحو النخوة بعد طول رقاد.. وتطول قامة الشجاعة وتعلو لتطاول أعنة الجبال الرواسي. وهنا كما يعبر بكلمات من نور الروائي الشامخ خيري شلبي بقدر ما يبلغ الظلام أعلي درجات كثافته.. بقدر ما يكون إيذانا بطلوع الفجر.. ومن كتل الظلام يخرج الأبطال كبقع الضوء.. إنهم أبناء المحنة الذين اكتووا بنارها وفي جعبتهم طقوس أسرارها وحل ألغازها.
أصفق فرحا للكلمات المضيئة.. ونحن نعيش أياما من نور في ظل ثورة شباب من ذهب هم شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير بإشراقة شمسه وبنور صبحه, ويصفق معي في جذل كطفل صغير شيخ المؤرخين عبدالرحمن الجبرتي الذي نزل علينا أهلا وحل سهلا.
قلت: أريد منك يا مولانا بوصفك شاهد عيان لثورات مصر ضد التسلط والظلم في كل زمان وكل عصر وأوان.. إن تحدثني عن الأبطال الحقيقيين الذين أشعلوا الثورة وقادوها, ودفعوا من حياتهم ودمهم ويومهم وغدهم عن طيب خاطر ثمنا غاليا فداء وقربانا.
أريد أسماء لم يسمع عنها احد.. ولم تسجلها كتب التاريخ التي لا تكتب إلا عن الملوك والسلاطين والأباطرة الذين جلسوا علي العروش ووضعوا التجان فوق رؤوسهم باسم الوراثة والتاريخ!
أريد أبطالا وثوارا مازالت أسماؤهم محفورة في أذهان الناس.. ومحفوظة في الأشعار والمواويل والسير الشعبية.
قال: في ذاكرتي لكم ثلاثة ثوار خرجوا من الحارة المصرية ومن طين الأرض الطيبة ومن حصاد الفكر والدين والتراث والخلق المصري الأصيل.. ولنبدأ بسبع بولاق العظيم.. هل سمعت عنه؟
قلت: كلي شوق ومعي أهل مصر كلهم لسماع قصته..
قال: قبل واحد وأربعين عاما كتب زميلكم الروائي خيري شلبي قصة سبع بولاق في مجلة الهلال القاهرية وأري أن تقرأها بقلمه أولا.. قبل أن أحكي لك المشهد الاخير فيها..
...................
................
نحن الآن في يوم14 أبريل سنة1800 أنذرت القوات الفرنسية حي بولاق بالتسليم, فرفض أهلها كل إنذار, وأجابوا بإباء وكبرياء, إنهم يتبعون مصير القاهرة, وأنهم إذا هوجموا فهم مدافعون عن أنفسهم حتي الموت.
أخذ الجنرال فريان يحاصر المدينة وبدأ يصب عليها من المدافع ضربا شديدا, أملا في إجبار الاهالي علي التسليم لكنهم أجابوا بضرب النار, واستبسل الاهالي في الدفاع, ولجأوا الي البيوت فاتخذوها حصونا يمتنعون بها, فاضطر الجنود الي الاستيلاء علي كل بيت فيها والتغلب عليها بقوة الحديد والنار, وبلغ القوم في شدة الدفاع حدا لا مزيد بعده, وفي هذا البلاء عرض العفو علي الثوار, فأبوا.
واستمر القتال, وأشعلت النار أحياء بولاق من أقصاها لأقصاها, وعادت تلك المدينة العامرة الزاهرة, هدفا للخراب, وأهلكتها أهوال الحرب وفظائعها.
هكذا يشهد المؤرخ الفرنسي مسيو جالان الذي رأي تلك الأحداث رؤية العين.
ومن المؤكد أن مسيو جالان لو قدر له أن يعيش داخل حواري وأزقة بولاق لاستطاع ان يضيف الي ماكتبه فصلا حافلا عن الروح المتوثبة التي كانت تحرك جمر النار في تلك الأحداث التي أوردها ولتجسدت هذه الروح في شخصية البطل مصطفي البشتيلي الذي يسمونه سبع بولاق
كان مصطفي البشتيلي سبعا حقيقيا. يرجع نسبة الي قرية بشتيل بجوار امبابة. استطاع ان يصنع من نفسه احد نجوم ثورة القاهرة الثانية. لا عن حب في النجومية أو رغبة في الخلود بل عن حب حقيقي وصادق لبلده ولأهلها. لم يكن طامعا في جاه أو منصب أو مكسب مادي فقد كان ثريا واسع الثراء, كان أكبر تجار الزيت الذي يبيعه للناس. لكن حبه للناس وارتباطه بهم أضفي علي قدوره قيمة عليا وملأها بزيت جديد, زيت لا يستخدم في الطعام بل ينير للمناضلين طريقهم نحو تحرير بلدهم من سيطرة العدو المغير. يمد يده داخل القدور ويستخرج ماخزنه فيها من بارود ويوزعه علي المجاهدين.
وانكشف أمره فقبضوا عليه وأودعوه السجن ثم أخرجوه. بعد ان تأكد له ان بعض الخونة قد وشي به لدي القوات الفرنسية.
أفرغ البطل قدور زيته وحمل بارودها في حزام تمنطق به حول وسطه ومضي يحرض علي الثورة ويدعو لها ويبادر إلي إشعالها, المقاتلون في حاجة الي سلاح, فليذهب بنفسه ويجمع لهم العديد من البنادق والعصي. وهم في حاجة أيضا الي طعام, ومخازن الفرنسيين تكتظ بالغلال, والمكافحين أولي بما في هذه المخازن وأصحاب الحق الأول فيها ولابد من أن تعود إليهم والأمر بعد ذلك يحتاج الي حسم وتنفيذ..
ويذهب البطل البشتيلي الي مخازن الغلال فيفتحها عنوة ويوزع كل ما فيها علي المجاهدين. نعم ستثور الحامية الفرنسية في بولاق, ولكن لا بأس من إيقافها عند حدها. إنها الحامية تبعث الي رجال البشتيلي برسول يطلب الصلح فكيف يتصالح النقيضان؟
لابد أن يقتلوا هذا الرسول. وقد حدث.
وقبل أن تثور الحامية من جديد كانت ثورة البشتيلي قد اندفعت الي الحامية وفتكت بها عن أخرها. وامتدت ثورته إلي خارج بولاق وتصدت لمحاولات كليبر في عقد الصلح مع أهل القاهرة فعارضتها وخلقت حولها المعارضين..
ليجيء المشهد الأخير في قصة سبع بولاق العظيم..
لم يكن غريبا ان ينتهي علي يد كليبر بالذات هذه النهاية الوحشية الفاجعة. فرغم ان الثورة كانت قد انتهت, إلا أن كليبر أمر بالبحث عنه. وظلوا به حتي امسكوه وأودعوه سجن القلعة وحده إمعانا في تعذيبه.
وبعد حوالي ثلاثة أيام أخرجوه. وجاءوا وسلموه لرجاله, وأمروهم بأن يطوفوا به أنحاء القاهرة تحت حراسة الجنود الفرنسين. ثم أمر كليبر المجاهدين بقتل زعيمهم بأيديهم فلم يملكوا رفضا. وانهالوا علي البشتيلي بالنبابيت حتي قتلوه. غير أنهم كانوا وهم يقتلونه يهتفون بحياة.. سبع بولاق العظيم!
قلت: ولكن جاء القصاص العادل قبل أن يجف دم سبع بولاق العظيم علي يد سليمان الحلبي الذي قتل كليبر وهو بين جنوده!
...............
................
وهذا البطل الأسطوري حسن طوبار..
مازال جراب مولانا مليئا بالحكايات الأسطورية لأبطال لم نسمع عنهم, ولم تذكرهم كتب التاريخ التي يدرسها أولادنا في المدارس.. ولكنها محفورة في سمع البسطاء من خلال ملتقي النضال الشعبي في روايات شعراء الربابة علي المقاهي وفي الأسواق وفي الأحياء وموالد أولياء الله الصالحين..
عبدالرحمن الجبرتي يعلن: سأحكي لك حكاية بطل مصري أسطوري آخر اسمه حسن طوبار..
نحن الآن في أوائل أكتوبر عام1798 بعد ثلاثة شهور فقط من دخول الفرنسيين القاهرة...
لم تكن المعركة معركة جيش لجيش إنما كانت معركة جيش لشعب, لأن ميدانها كان قاع المدينة وساحة القرية وحول العزب والكفور وعلي شواطئ المصارف والترع كان هدف العدو هو الغزو, والسيطرة علي البلاد من أقصاها إلي أقصاها.
ولعله قد وضع في اعتباره وهو يخطط لذلك الغزو انه سيقوم برحلة سياحية مثيرة تلعب المغامرة دورا كبيرا في خلق جو من الاستمتاع بها.. لكن لعله أيضا قد تعلم درسا قاسيا أقنعه بأن الشعب نفسه هو أعظم الجيوش, وأن أعظم سلاح يدافع به عن نفسه هو الصمود, إحساسه بنفسه, بكرامته, بحقه في الحياة والحرية..
ولكن حملة نابليون وجدت نفسها مضطرة إلي استعمال هذين الأسلوبين الخداع والدسيسة مع المناضل الشعبي حسن طوبار في إقليم المنزلة, لم يكن في يقينها أنها وقعت في أشد أنواع الهزيمة قهرا أمام ما تصورت أنه أشد أهدافها ضعفا.. لدرجة أن نابليون نفسه بكل جبروته وقوته أرسل إليه بعض الهدايا ليستميله ويشتري بها سكوته فرفض حسن طوبار بكل إباء وشمم!
وللحق فإن قصة الحملة الفرنسية مع حسن طوبار تمثل أروع ما يمكن أن يقدمه الشعب المصري العملاق من قدرات خارقة في مواجهة الأعداء الغزاة
كان حسن طوبار في ذلك الوقت شيخا لإقليم المنزلة. وكان في حالة من الرواج كفيلة بأن تقعده عن اتخاذ أي موقف يمكن أن يهدد ثروته, اذ كان يملك أسطول صيد قدرته بعض المصادر الفرنسية بحوالي خمسة آلاف مركب, وعددا لا بأس به من مصانع نسج القطن, ومن المتاجر, ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية, وفوق ذلك كان يملك حب الناس وتقديرهم.
ويقول الجنرال لوجييه هنا.. ان كل الجهات التي مروا بها في طريقهم الي المنزلة لم تكن تهتف الا بالحب لطوبار والثناء عليه
ولذلك فحينما عين الجنرال فيال حاكما علي دمياط لم يكن يورق ذهنه شئ سوي شبح طوبار.. فأهدي اليه سيفا مذهبا ولم يشأ أن ينحيه عن منصبه. لكن حسن طوبار قابل ذلك بالسخرية الشديدة, فكيف يستميله سيف مذهب وهو يستطيع أن يسلح نفسه بالذهب تسليحا كاملا ثم كيف يهنأ له بال وهو يعيش في ذل مقيم يضغط العدو علي حريته ويذيقه هو وأهله أنواع الضيم وقد يعتدي علي كرامتهم ويهتك أعراضهم مثلما فعل في مناطق أخري؟
لابد أن أسئلة كهذه كانت تطل برأسها في أعماق حسن طوبار وهو يشتري من ثروته الخاصة أسلحة ويجهز أسطولا بحريا من القوارب لكي تذهب وتحارب الفرنسيين في البحيرة وتهاجمهم في دمياط وتقض مضاجعهم ليل نهار..
وقد استطاع بالفعل أن يلقي الرعب والفزع في قلوبهم.
ورفض في الوقت نفسه كذلك ان يلتقي معهم في أي مفاوضات حتي ولو كانت مع القائد الأكبر نابليون. رفض أيضا مقابلة الجنرال داماس ودعوة الجنرال دوجا للصلح.
ورفض كل شئ ماعدا قتالهم حتي أخر قطرة من دمه.. وراح يجوب القري ليؤلف الكتائب ويجهز الفدائيين ويزودهم بالأسلحة وبالروح المعنوية الخارقة..
ويستجمع نابليون كل طاقاته لمحاربة حسن طوبار, جهز له حملتين: برية وبحرية بقيادة كل من الجنرال أندريوس والجنرال داما, تحت إشراف الجنرال دوجا قائدا عاما.. وهاجم مدينة المنزلة ودخلها في6 أكتوبر سنة1798 ولم يتمكن من الإيقاع بحسن طوبار, لأنه تمكن من الفرار الي الشام.
والواقع أن حسن طوبار في غيابه لم يكف عن المقاومة, فقد ذهب الي غزة واستأنف نشاطه من جديد, وكون جيشا من المناضلين وأسطولا مكونا من خمسين قطعة لكي يبحروا به إلي دمياط لمباغتة العدو. ورغم ان الظروف لم تمكن طوبار من إتمام هذه الحملة, إلا أن رعب الفرنسيين منها جعل نابليون يسمح له بالعودة الي مصر..
ينهي مولانا قصة الثائر البطل حسن طوبار بقوله: ومات الزعيم الثائر في29 نوفمبر سنة1800, ولم يمت برصاص العدو.. ولكن ظل كفاحه يهدد زعماء الحملة الفرنسية حتي بعد موته!
................
.................
يارب يامتجلي اهلك لنا العثمانلي:
يفاجئني مولانا الجبرتي وهو سلطان المفاجآت بقوله: سأحدثك عن ثائر مصري أصيل قاد ثورة شعبية وعزل حاكما ظالما.. واجلس مكانه علي عرش البلاد من قاد حملة النور والتنوير في العصر الحديث..
قلت: تقصد محمد علي باشا؟
قال: هو هذا.. أما اسم البطل فأنت تعرفه جيدا.. انه نقيب الأشراف السيد عمر مكرم..
ولأن عمر مكرم هو الثورة.. والثورة هي عمر مكرم.. فلنبدأ بحديث عن القاهرة الثائرة للمرة الثالثة علي مدي خمسة أعوام لا أكثر..
نحن الآن في يوم الأربعاء أول مايو عام..1805
مصر يحكمها خورشيد باشا من قبل الخديو العثماني في الأستانة.. جيش خورشيد باشا وهو من أسوأ الجنود العثمانيين سيرة وخلقا وقوامه ثلاثة آلاف جندي يعتدون علي أهالي مصر القديمة يخرجونهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وأمتعتهم وقتلوا بعض الأهالي الآمنين, فعظم الهياج في مصر القديمة وحضر جميع سكانها رجالا ونساء الي جهة الجامع الأزهر, وانتشر خبر الاعتداء والهياج بسرعة البرق في أنحاء المدينة.
وفي اليوم التالي( الخميس3 مايو) عمت الثورة أنحاء العاصمة كلها..
واجتمع العلماء بالجامع الأزهر وأضربوا عن إلقاء الدروس, وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها, واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين يضجون ويصخبون, فادرك الوالي خطر الحالة, وأرسل وكيله صحبة رئيس الانكشارية( المحافظ الآن) الي الأزهر لمقابلة العلماء ومفاوضتهم لوقف الهياج, فلم يجدهم بالأزهر, فذهب الي بيت الشيخ عبدالله الشرقاوي وهناك حضر السيد عمر مكرم وزملاؤه فأغلظوا له في القول فانصرف علي غير جدوي, ومضي يقصد القلعة, لكن الجماهير لم تكد تبصره حتي انهالوا عليه رجما بالأحجار, ورفض العلماء ان يتدخلوا لإيقاف الهياج, وطلبوا جلاء الجنود الدلاة عن المدينة في مدة حدودها.
انتهت المهلة التي حددها العلماء لجلاء الجنود عن المدينة يوم السبت11 مايو سنة1805, وبات الناس ليلة الأحد في هرج ومرج, والزعماء يتشاورون فيما يعدونه للغد.
وعندما اشرق صبح يوم12 مايو سنة1805 اجتمع زعماء الشعب واتفقوا رأيا علي الذهاب الي دار المحكمة الكبري( بيت القاضي) لاختصام الوالي واصدار قراراتهم في مجلس الشرع.
ولم تكد تعلم الجماهير بما استقر عليه رأي الزعماء حتي احتشدت جموعهم واتجهت الي دار المحكمة. وأقبلت الجموع من كل صوب علي دار العدل واحتشدت بفنائها وحولها, وبلغت عدتها نحو أربعين ألف نسمة.
فكان اجتماع هذا البحر الزاخر من الخلائق هو الثورة بعينها, وظهرت روح الشعب قوية ناقمة علي الوالي وعلي الحكم التركي.
ويكفيك لتتعرف نفسية الشعب في ذلك اليوم العصيب أنهم كانوا يصيحون يارب يا متجلي, أهلك العثمللي.
فهذا النداء يدلك علي ما كان يجيش بنفوس المصريين من روح السخط علي الحكم التركي.
وهنا ظهر لأول مرة في تاريخ الحياة السياسية في مصر ما يطلق عليه الغرب وثيقة الحقوق السياسية والتي قال عنها المؤرخ الفرنسي فولابل في كتابه مصر الحديثة واسماها وثيقة الحقوق المصرية وهي تكاد تكون نفسها وثيقة الحقوق الإنجليزية, واهم ما جاء فيها: لا يجوز للملك أن يفرض ضريبة علي الناس إلا بموافقة البرلمان..
وماذا تقول وثيقة الحقوق المصرية؟
ألا تفرض من اليوم ضريبة علي المدينة إلا إذا أقرها العلماء وكبار الأعيان.
هذه هي المطالب التي أملاها وكلاء الشعب في اجتماع12 مايو سنة1805 وسلموا صورتها إلي القاضي وقام وكلاء الوالي ليبلغوها إلي خورشيد باشا بالقلعة.
قلت: يقول مؤرخنا الكبير عبدالرحمن الرافعي هنا: كان هذا الرفض معجلا لسير الحوادث. فاجتمع وكلاء الشعب من العلماء, ونقباء الصناع في اليوم التالي( الاثنين1805) بدار الحكمة ليتداولوا في الموقف.
واحتشدت الجماهير في فناء المحكمة وحولها يؤيدون وكلاءهم, وهنا اتفقت كلمة نواب الشعب واجمعوا رأيهم علي عزل خورشد باشا, وتعيين محمد علي واليا بدله, وعندئذ قاموا وانتقلوا إلي دار محمد علي لتنفيذ قرارهم وأبلغوه ما اتفقوا عليه وقالوا:
أننا لا نريد هذا الباشا واليا علينا ولابد من عزله من الولاية.
ونادي السيد عمر مكرم بالنيابة عنهم وقال:
إننا خلعناه من الولاية.
فقال محمد علي: ومن تريدونه واليا؟
فقال الجميع بصوت واحد: لا نرضي إلا بك وتكون واليا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير لنا ولمصرنا..
وأخذوا عليه العهود والمواثيق أن يسير بالعدل وألا يبرم أمرا إلا بمشورتهم.
فقبل محمد علي ولاية الحكم, ونهض السيد عمر مكرم والشيخ عبدالله الشرقاوي وألبساه خلعة الولاية, وكان ذلك وقت العصر.
وبذلك تمت مبايعة نواب الشعب لمحمد علي, وأمروا بأن ينادي به في أنحاء المدينة واليا لمصر.
.......................
.......................
كان هذا هو اليوم المشهود الثاني عشر من مايو..1805 الذي تولي فيه محمد علي حكم مصر بإرادة الشعب.
وكانت تلك أول مرة في تاريخ مصر الحديث: يعزل الوالي, ويختار بدله بقوة الشعب وإرادته.
أما الثانية عندما تحرك شباب مصر وشعب مصر كله يوم11 فبراير وخلعوا رأس الفساد وأخر الفراعين ومعه عصابة الفاسدين في الأرض.. بعد خلع خورشيد باشا آخر الولاة من قبل الباب العالي صباح12 مايو1805 قبل206 سنة بالتمام والكمال!
أيها السادة إن مصر لا تنام أبدا.. قد تغفوا أحيانا ولكنها أبدا لا تنام!.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.