يظن كثير من عوام الناس- وليس كل الظن إثما- أن الصوفية مظهر بلا مضمون.. خضوع بلا وعي.. زهد بلا نهاية.. دروشة بلا عقل.. طقوس بلا إيمان.. إهمال للدنيا, وتعلق بالآخرة. وكثير من الناس لا يعرفون عن الصوفية إلا بساطة المظهر, وزهد العيش, وحلقات الذكر, وزيارة الأضرحة, والتوسل بالموتي, واتباع المريدين, والاختلاط بين الرجال والنساء في الموالد.. وممارسة مدعي الصوفية لأعمال الدجل والشعوذة.. وإن كان الدراويش, والمحاسيب, والمجاذيب يفعلون ذلك, باعتبارهم من بسطاء الناس, وأقلهم علما, ثقافة, إلا أن في الصوفيين من تبوأ أعلي المناصب, وحصل علي أعلي الشهادات الجامعية, فشيخ مشايخهم السيد عبد الهادي القصبي حاصل علي الدكتوراه! غير أن ممارسات الصوفيين كانت- ولا تزال- محل خلاف بينهم وبين السلفيين, وغيرهم, ممن يرون أن الموالد بدعة, وأن بناء المساجد فوق الأضرحة حرام, وأن الصلاة فيها شرك بالله, وأن احتفالات الصوفية استغلال للدين في إتيان أمور غير جائزة شرعا كاختلاط النساء بالرجال, وأن التوسل بأولياء الله الصالحين, وتقبيل مقصورات الأضرحة, وأعتابها شرك أيضا.. فهل الأمر فعلا كذلك؟! ولكي نقف علي حقيقة مثل هذه الممارسات, وهل هي حلال أم حرام شرعا, ولأننا لسنا جهة اختصاص, ذهبنا إلي العلماء والمتخصصين, وهنا يقول د. عبد الحي الفرماوي أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر إن التصوف في حد ذاته شيء طيب, لأنه يدعو إلي الزهد, والتقشف, والتقرب إلي الله سبحانه وتعالي, والاحتماء بجنابه, حتي أن بعض المؤرخين يؤرخون لنشأته بأهل الصفة, الذين كانوا يجلسون في الصفة عند رسول الله صلي الله عليه وسلم, فيتعبدون لله, ويذكرونه, ويعيشون في كنفه ورحمته, وبعضهم اشتق اسم الصوفية من لبس الصوف, حيث كانوا يرتدونه تقشفا, وزهدا, ولذلك فإن تاريخهم القديم مجيد وعظيم, ولا يزال كثير من أهل الصوفية علي صلة وثيقة بالله, وتقرب منه, وتعبد له, بيد أن الكثيرين ممن ينتسبون إلي الصوفية خرجوا عن هذا الخط, وشغلوا بأمور ليست من التصوف, ولا من الإسلام, مثل اختلاط الرجال بالنساء, والتسول, وتمجيد الأشخاص, وتعظيمهم من دون الله, ومن أسف أن النظام السابق هو من شجع هذه الفرق, وكان يصرح بنشأتها, أيا كان اتجاهها, ودوافعها, أو سلوكياتها بغض النظر عن أن يكون ذلك صوابا أو خطأ, بغرض صرف الناس عن التوجه للإسلام السياسي, أو كالتعرض لفساد الحكام والمسئولين, ومن هنا كنا نجد التشجيع الكامل من المسئولين والرسميين للطرق الصوفية علي كثرتها, وتنوع اتجاهاتها, في الوقت الذي كنا نجد فيه الحرب الشرسة, والاعتقالات المتكررة, والتضييق المقصود, والتعتيم الكامل علي أي فرق تدعو لفهم وسطية الإسلام, وروائعه, ونشرها, والدعوة إليها بين الناس. الأضرحة والتوسل بالموتي وبالنسبة لقضية التوسل بالموتي, والأضرحة- كما يقول الدكتور الفرماوي- لا يقرها الإسلام إطلاقا, خاصة إذا كانت بنفس الواقع الذي يتم الآن, فلا شيء في تقليد العبد الصالح, والتأسي بسلوكياته, أما التوسل في حد ذاته بمخلوق أو معبود, أو بأي شكل كالذي نجده اليوم, فهو يؤدي إلي الشرك إن كان صاحبه يعتقد فيه النفع أو الضرر.. أما ما يتعلق بالأضرحة ففيها وفيها, فيهما- مثلا- ما يستحق التقدير, وهناك من الأضرحة مالا يستحق التقدير إطلاقا, ولذلك اختلط الحابل بالنابل, عند بعض الفرق الصوفية التي تتكسب من هذا العمل, ومن هذه الاجتماعات وترتزق منها, فدفن الموتي لا يحتاج إلي أضرحة, فإذا كان الميت صالحا فلنفسه, وإذا كان فاسدا فلها أيضا, أما الطواف فلا يجوز إلا حول الكعبة, كما لا يجوز عند قبر النبي, فما بالنا بالطواف حول الأضرحة, وهذه أفعال لا تمت للإسلام بصلة.. أما الموالد فهي بدعة, وكل ما عدا الاحتفال بعيدي المسلمين( الفطر والأضحي) فهو بدعة أيضا, وقد دخل النبي المدينة فوجد أهليها يحتفلون لمناسبات عدة فقال صلي الله عليه وسلم لنا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحي, ويلاحظ في كل عيد عند المسلمين أنه خاتمة عبادة, فعيد الفطر خاتمة عبادة الصوم, والأضحي هو خاتمة الحج, أما الاحتفال بمولد الرسول فقد نشأ في العصر الفاطمي, وسار الناس عليه منذ ذلك التاريخ, وحتي الآن. الزهد في الإسلام وبشكل عام, تري الدكتورة آمنة نصير أستاذ الفلسفة الإسلامية وعميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية سابقا إن ممارسات الصوفية خارجة عن الممارسة الصحيحة لمفهوم التوحيد النقي, وفي ممارساتهم الكثير مما يرفضه صحيح الإسلام, وإنما ينبغي التصويب, والارتقاء بسلوك الناس غير المنضبطين, ولا يكون ذلك بإعادة الكراهية, وهدم الأضرحة, لان ذلك يؤدي إلي فتنة في المجتمع, ومن هنا أوصي بأن تضطلع مشيخة الأزهر بدورها التنويري الحقيقي بمفهوم الإسلام الصحيح, وأن تكون المشيخة جسرا قويا مضيئا للفرقاء قبل أن يستفحل المرض, ويعز الدواء. الصالحون والطالحون! التصوف في أصله تربية للباطن, وتهذيب للنفس, وإعلاء من شأن الروح في مواجهة المادة, وطغيانها.. هكذا قال لي الدكتور عبدالمعطي بيومي- عضو مجمع البحوث الإسلامية, وعميد كلية أصول الدين سابقا, ومن المفترض أن يعمل الصوفية في ظل هذا المبدأ, وعلي ذلك, فإنه يجب علي كل صوفي أن يحاصر نفسه, وأن ينقيها, ويربيها, ويحاسبها, وأن يعودها علي السير وفق القيم النبيلة, والمتسامية, وهناك طرق تسلك هذا السبيل,إلا أنها قليلة- للأسف-, لكن معظم الفرق انهمكت في مناهج, وأوراد, وشعارات, وعادات, وطرق لذكر الله بعضها يلهي عن ذكر الله نفسه, ولذلك فإن التصوف يحتاج دائما إلي مراجعة وتقييم, كما أن الطرق تحتاج إلي محاسبة بين كل حين وحين, وعليها أن تراجع نفسها, وأن تحتفظ بالزخم الروحي, والمنهج الأخلاقي, وأن تستمر في ذلك, أما الطرق التي تنشغل بالمراسم الشكلية, والرايات, والدفوف, والأشكال والرسوم, فهي تستهلك نفسها في هذه الأشكال والرسوم, وما يجري علي الصوفية يجري علي غيرهم من أصحاب الطرق الأخري.. فمنهم الصالح, ومنهم الطالح!.. والإسلام ليس فيه أشكال ولا رسوم, وهو علاقة المؤمن بربه, وهذا هو جوهر التصوف الحقيقي, وكلما شغلت القلب شواغل الحياة, كلما استهوته الشكليات, والشعارات, ولم يعد له من التصوف إلا الاسم فقط.. بوادر أزمة أما ما يدور الآن بين الصوفيين والسلفيين- والكلام للدكتور عبد المعطي بيومي- فهو ينبئ عن بوادر أزمة بينهما, ذلك أن المنزعان مختلفان, فالصوفية تتجه نحو حب الأولياء, والاحتفاظ بالذكري للولي, ولا نعتقد أنهم يعبدونهم.. وعلي العكس تماما يري السلفيون في هذا الحب عبادة, وهذا خطأ في التشخيص, لان هدم الأضرحة يحدث فتنة.. وتري بعض المذاهب الفقهية إباحة إقامة ضريح للأولياء والصالحين, والاقتداء بهم, لان الصوفية لا يعبدونهم بالفعل, ولا أتصور أن يؤدي الحوار بالوضع الراهن بين الصوفية, والسلفيين إلي نتيجة, فهناك فرق شاسع بين السلفية الأوائل, والسلفية المعاصرة, وكذلك هناك فارق كبير بين الصوفية الأوائل, والصوفية المعاصرة, ومن هنا فإني أدعو الصوفية للتخفيف من المظاهر والطقوس الاحتفالية في الموالد, و عند الأضرحة, كما أدعو السلفيين إلي التشبه بالسلفية الأولي, وهي سلفية الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه, عندئذ نستطيع أن نري صوفيا سلفيا, وسلفيا صوفيا. حقيقة التصوف في حين يري الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن- عميد كلية الشريعة والقانون السابق أن بعضا من الجماعة التي تسمي نفسها بالصوفية لا تنبئ عن حقيقة الصوفية, فالصوفية كما هو معروف, أو كما هو شائع عنها, هي التجرد من الرغبات, والزهد في كثير من المناصب, لكن الواقع غير ذلك, فبعضهم يرفعون شعار الصوفية, لكنهم يتكالبون علي المناصب, كما أن بعضهم يطعن في بعض من حيث الصلاحية لتمثيل الصوفية. وما نراه الآن ليس تصوفا بالمعني العلمي المعروف في الكتب التي تتحدث عن المذاهب, والفرق, والإسلام في حقيقته لا يحتاج إلي أن نسمي فريقا من الناس بالصوفيين, أو السلفيين, فالإسلام هو الإسلام, كما أنه يجب الالتفات إلي أن ما يصدر عن أتباع الطرق الصوفية من العوام هي أعمال لا يجيزها الشرع كالتمايل أثناء ذكر الله, مع أن ذكر الله يجب أن يكون بخشوع, وكما أن الإنسان يتعبد بذكر الله, والتمايل يمينا ويسارا يتنافي مع ذلك, كما أن ما يحدث من ممارسات في الموالد التي تقيمها الطرق الصوفية لا يمت للشرع بصلة, والتصوف العلمي الذي كان ينادي به بعض المشاهير من المتصوفين غير موجود الآن في الغالب, والحقيقة أن الذين ينطبق عليهم اسم التصوف قل أن تجد منهم أحدا. الطريقة العزمية وقد حاولنا الاقتراب من إحدي الطرق الصوفية, وتحدثنا مع الشيخ علاء ماضي أبو العزائم شيخ الطريقة العزمية, الذي قال لنا إن الطريقة العزمية واحدة من هذه الطرق الصوفية, وهذه الطريقة لمن لا يعرف- نشأت في عام1896 علي يد مؤسسها الإمام محمد ماضي أبو العزائم, ومن أبرز أهدافها عودة المجد الإسلامي للأمة الإسلامية عن طريق المنهج الإسلامي الصحيح ليس في العبادات فقط, ولكن في العبادات, والمعاملات, والأخلاق. أما التصوف فهو علاقة الإنسان بربه سبحانه, والتصوف أخلاق, ومن زاد عنك في الخلق زاد عنك في التصوف. وحين سألت شيخ الطريقة العزمية عن موقفه من السلفية, قال لي إن السلفية كلمة تنطوي علي قدر من المغالطة, فالعالم الإسلامي كله سلفية, والسلفية كما هو معروف تعني إتباع السلف, والسلفي هو من يتبع السلف, وكلمة سلف كلمة عامة, وهناك فقهاء اختلفوا, وكانت القاعدة الشهيرة: في اختلافهم رحمة وكون البعض يتجمد عن السلف فهذا فهم غير صحيح للدين. أما ما يتعلق بتحريم الصلاة في المساجد التي بها أضرحة, فهو أمر لا نتفق فيه مع السلفيين, فالصلاة تتم في المساجد التي بها قبور وهي حلال, وإذا كانت المساجد بجوار القبور فالصلاة فيها حلال, وإذا لم تكن الأرض نجسة, فالصلاة حلال, والمساجد طاهرة, وإذا كنت تصلي في مسجد الإمام الحسين فهل أنت تقول الحسين أكبر؟.. إن الله أكبر من الجميع, وهل أنت تترك قبلة الكعبة؟, وهل أنت تصلي للحسين؟, إنما يريد السلفيون أن يدخلوننا في دائرة الشرك, ولا شبهة شرك في ذلك, الصوفية والمناصب في حين يري السيد محمود أبو الفيض عضو المجلس الأعلي للطرق الصوفية وشيخ الطريقة الفيضية الشاذلية, أن ما ينسب للصوفية من ممارسات في الاحتفالات, والموالد, هو أمر منسوب زورا إلي الصوفية, وهم براء منه, فما نشهده من ملاه, وباعة جائلين, وغير ذلك من تصرفات لا يمكن احتسابها من ممارسات الصوفية, أما البسطاء الذين يشاركون في الموالد, ويفترشون الأرصفة, فهم في الغالب من محبي أهل البيت, أو الولي صاحب الموالد, وهؤلاء لا ينسب تصرفهم إلي الصوفية الحقة, المشيدة بالكتاب والسنة, لان السادة الصوفية يستندون في كل تصرفاتهم وأفعالهم إلي أحكام الشريعة, ولكن يبدو أن البعض ممن يحاولون انتقاد الصوفية ينسبون بعض الصور, والمشاهدات إلي السادة الصوفية, وسأعطيك مثالا, ففي الموالد الكبري مثل مولد الحسين رضي الله عنه وأرضاه هناك سرادقات كبيرة للسادة الصوفية, ومشايخ الطرق تقام فيها الاحتفالات بالمولد, ويغلب عليها الإنشاد الصوفي, والندوات العلمية. وتتعمد بعض وسائل الإعلام التنقل في الأزقة المحيطة بالمسجد, والتقاط بعض الصور والمشاهدات, ونسبتها زورا علي الصوفية. والسادة الصوفية, بخلاف ما شائع عند البعض من كبار العلماء في مجالات العلم المختلفة, سواء الدينية, أو غيرها, وأصحاب مناصب مرموقة جدا في المجتمع, فمنهم وزراء, ورؤساء مجالس إدارات البنوك, والشركات, ورجال أعمال كبارا, ومحامون, ومهندسون, وأغلبهم من صفوة المجتمع, وهم علي مدي التاريخ الإسلامي هم السادة, وهم أشراف القوم ورؤساؤهم.. عندك مثلا- صلاح الدين الأيوبي كان صوفيا, وشيخه, وأستاذه نور الدين محمود كان صوفيا, وضريحه المشهور في دمشق, والسلطان عبد الحميد الثاني كان صوفيا من أتباع الطرقة الشاذلية, والمجاهدون العظام مثل عز الدين بن عبد السلام شيخ الإسلام الذي كان صوفيا, وكان عبد القادر الجزائري صوفيا, وغيرهم كالكواكبي, وعمر المختار, والإمام السنوسي, وغيرهم كثير, وأقطاب الصوفية كالسيد أبي الحسن الشاذلي, والسيد أحمد البدوي, وكان لهم جهاد مشهور في صد الصليبيين, والسادة الصوفية هم الذين نشروا الإسلام في بقاع الأرض المختلفة. قلت: كيف تزهدون في الدنيا, ومنكم من يتولي المناصب في الدولة, وفيكم من يملك أفخم السيارات, ويرتدي أفخم الثياب, ويسكن في الشقق والفيلات الفاخرة ؟ - أبو الفيض: المناصب تأتي إلي السادة الصوفية, وهم لا يسعون إليها, وهذا مشهور عنهم, ومنهم من يرفضها, مثل الشيخ محمد متولي الشعراوي- رحمه الله- الذي أخذ الطريق الصوفي من شيخ الطريقة الهبرية بالجزائر, وقد رفض وزارة الأوقاف حين عرضها السادات عليه, ثم قبلها بعد إلحاح, ومكث فيها قليلا ثم استقال, وكان معظم شيوخ مشيخة الأزهر من الصوفية, مثل الإمام المراغي, والشيخ حسنين مخلوف, والشيخ عليش, وفي العهد القريب الدكتور عبد الحليم محمود, والآن الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب, فهو من بيت صوفي عريق, وخلال مشيخة هؤلاء للأزهر كانت أجل العصور, والفترات في عمر الأزهر الشريف.. والزهد في القلب, وليس في الملبس, والمسكن, والمشرب, والزهد هو أن تزهد فيما هو في أيدي الناس, إنما الصوفي هو مسلم صحيح الإيمان, يحافظ علي نظافته, ويعيش كأوساط الناس, ولن تجد الصوفي الذي يعيش حياة مرفهة جدا كغيره من الدعاة من جماعات دينية أخري, وهو يحافظ علي نظافة مسكنه, وملبسه, ولا يسرف في ذلك, فيكون وسطا كأوساط الناس.