لم أكن وحدي الذي تساءلت منذ أسابيع عن ذلك الشبح المجهول الذي استولي علي الثورة; فقد سبقني ولحق بي كثرة طرحت السؤال عمن نجح في اختطاف الثورة أو سيطر عليها أو امتطاها أو ركب موجتها أو أزاح جموعها المليونية وجلس في مقعد القيادة بعد أن مضي وقت نضال الشباب وجاء زمن أصحاب الحرفة السياسية؟. كانت مثل هذه الأسئلة كثيرة علي ثورة لا تزال وفقا للمعايير العالمية في مهدها; فهي من الناحية العملياتية استمرت ثمانية عشر يوما حتي تمت الإطاحة برئيس الدولة, وفتحت السجون أبوابها لجناح في الحكم كان قريبا من نجل الرئيس أغلبيته من رجال الأعمال والأقلية فيه من الساسة, وبعض ممن اختلط الأمر بينهما. وفي وقت من الأوقات كان الظن قائما أن الثورة مستمرة لأن مظاهرات الجمعة المليونية ظلت علي حالها حتي لو لم يهتم أحد عما إذا كانت الملايين تتظاهر بالفعل أم أنها ذهبت إلي مكان آخر تتظاهر فيه من أجل مكاسب فئوية, أو الاحتجاج استنادا إلي مطالب طائفية. فقدت الثورة براءتها الأولي, وأصيب شبابها بأول صدمة عندما ظهرت نتيجة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية وظهر أن من فجروا الثورة كانوا علي جانب بينما بقية الشعب أو من شاركوا في الاستفتاء كانوا علي جانب آخر. والحقيقة أن ذلك لم يكن رفضا للثورة بحال, ففي النهاية فإن من شاركوا في الاستفتاء لم يزيدوا علي41% ممن هم في سن التصويت, ولكن الواقع كشف عن سؤال للثورة لم يجب عليه أحد وهو ثم ماذا بعد؟ وتاريخيا فإنه لم تفلح ثورة لأنها استعذبت إدانة النظام القديم, أو أنها وجدت سعادة في إزالة آثاره وأسمائه من علي المكتبات والمدارس ومترو الأنفاق والبنية الأساسية والمدن الجديدة, فالأمر في النهاية لا يزيد علي تأصيل عادة فرعونية قديمة كان فيها الفراعنة الجدد يزيلون أسماء من سبقوهم من علي المعابد والقصور. الثورات في العالم كله لا تنجح لأنها أطاحت بنظام قديم فقط, لكن لأنها أقامت نظاما جديا أفضل منه, ولأنها لم تقم بحل مشكلات النظام الذي راح فحسب, بل إنها فتحت آفاقا جديدة للتقدم والانطلاق كان النظام الذاهب يكبلها بقيود الاستبداد والعنف أو المراوغة والمناورة. وربما لخصت سيدة الحال كلها عندما عبرت عن ساعدتها بثورة يناير; ولكنها أضافت ببساطة صافية ولكننا ما زلنا فقراء!. وللحق فإن الثورة حققت مجموعة من الإنجازات الكبري التي لعلها تكون المقدمة الطبيعية لكل ما سوف يأتي. فهي من ناحية أعلنت عن شباب مصر الجديد ووجوده في الساحة السياسية والاقتصادية معلنة عن فاعل حقيقي وجاد لم تكن مصر تعرفه من قبل اللهم من إعلانات وطنية ساعة مباريات الفريق القومي لكرة القدم. هذه المرة كان شبابا مضحيا وملهما ليس فقط لبقية المصريين بل إنه تعدي ذلك إلي وراء الحدود حتي وصلت بالفعل إلي موسكو في روسيا وماديسون/ ويسكونسن بالولايات المتحدةالأمريكية. انتهي العصر الذي كان فيه فاعلان أساسيان فقط في الساحة السياسية المصرية: الحزب الوطني الديمقراطي, والإخوان المسلمين. وما بقي بعد ذلك من أحزاب وحركات سياسية كان محض تفاصيل تعطي للصورة ألوانا بعضها يثير البهجة والآخر الحزن الشديد. الآن جاء الشباب, وظهرت القوة الثالثة التي ظل البحث عنها طويلا, وادعت أحزاب أن هذا مكانها, ولكن ذلك لم يثبت أبدا ساعة الاختبار. التغير الثاني الذي انتهت إليه مصر بعد الثورة هو أن عصر الجرعات الصغيرة في الإصلاح لم يعد كافيا للتعامل مع تحديات مصر المختلفة التي ليس أقلها أنها تزيد سنويا بنحو مليون و800 ألف نسمة يطلبون المسكن والغذاء والوظيفة, ولهم حاجات متزايدة إلي نظم تعليمية وصحية قادرة علي المنافسة إقليميا وعالميا. التغير الثالث, الذي ذهب فيه الأمر إلي غير رجعة, هو مكانة رئيس الجمهورية. ورغم أن الأغلب هو أن المصريين سوف يستمرون علي تقديم الاحترام الواجب لرئيس البلاد, إلا أن النظر للرئيس باعتباره امتدادا لملوك الفراعنة قد وصل إلي نهايته. لقد كان الرئيس السادات هو الذي قال إنه سوف يكون آخر الفراعنة, ولكن ثورة الشباب هي التي جعلت الرئيس مبارك آخر الفراعنة بالفعل. هذه منجزات مهمة, ولكن الثورة لا تصل إلي نجاحها ما لم تحقق منجزات أخري تعيد تشكيل البلاد مرة أخري. وأول ما هو مطلوب منها أن نعيد الدولة المصرية إلي الحالة العادية والطبيعية للدولة بإلغاء أوضاع كل ما هو شاذ فيها وتنفرد به بين الأمم في العالم وتجعل بلادنا تقع في ناحية وبقية دول العالم في ناحية أخري. فلا يوجد في أنحاء الدنيا علي رحبها واتساع بقاعها من يتبني دستوريا فكرة أن يكون للعمال والفلاحين نسبة50% علي الأقل في المجالس المنتخبة; ولا يوجد من يجعل الصحف القومية تابعة لمجلس الشوري الذي يكبلها بما يريده حزب الأغلبية. وثاني ما هو مطلوب من الثورة هو أن تدفع القوي السياسية المختلفة للتخلص من أمراضها التي جعلت أحوالنا تحتاج ثورة عارمة. وفي الماضي كتبت مرارا وتكرارا أن الديمقراطية لن تأتي إلي البلاد ما لم ينجح الحزب الوطني الديمقراطي في التخلص من تراث الاتحاد الاشتراكي العربي داخله, وتنجح جماعة الإخوان المسلمين في التخلص من ميراث كامن ومتأصل ينحو نحو الدولة الدينية, وما لم تنجح جماعات وأحزاب المعارضة الأخري في التخلص من حالة الضجيج والصراخ في الفضائيات التليفزيونية والعمل وسط الجماهير وتنظيمها بطريقة محترفة فاعلة. كان ذلك قبل الثورة, وربما لم يعد الحديث عن الحزب الوطني الديمقراطي له مكان, ولكن شباب الثورة آن لهم أن يسمعوا الحاجة إلي أن إشعال الثورة عن طريق الفيس بوك كان ممكنا, والآن ربما نحتاج وسائل أخري تصل إلي الناس وتنقل لهم ما تم التبادل حوله بديمقراطية كاملة داخل الفضاء الرقمي. وثالث ما هو مطلوب هو تغيير النظرة فيما يتعلق بالتحديث, والثورة في جوهرها ليست نبشا للماضي بقدر ما هي اتجاه نحو المستقبل, وما تحتاجه مصر أن تغير كل الأمور المتعلقة بالعالم المعاصر في كل ما يتعلق بالتحديث السياسي والاقتصادي في العالم المعاصر, وبشكل جذري وخلال فترة زمنية معقولة. ولا ينفع كثيرا تخيل أن العالم سوف يتوقف حتي نأخذ وقتنا في التغيير الذي يجري علي مستوي العالم كما يجري علي مستوي الدول العربية والشرق أوسطية أيضا. وحتي تفعل مصر ذلك فإنه ليس بوسعها إعادة اختراع العجلة كما يقال, ليس فقط لأننا عرفنا العجلة منذ آلاف السنين عندما كنا رواد التحديث في العالم, وإنما لأن لكل عصر قوانينه الخاصة بالتقدم. وأهم هذه القوانين, ودون الدخول في كثير من التفاصيل, هو أن تنتقل الدولة من الحالة التعبوية المستنفرة دائما, إلي الدولة التنموية التي تسعي إلي تحقيق مكانتها بين الأمم. ففي الحالة الأولي فإن الدوافع الأمنية تكون محددة للنظام السياسي; أما في الثانية فإن شروط التنمية هي التي توجه حتي تحدث تحولا كيفيا في عناصر القوة الاقتصادية يكون هو في النهاية الضامن للأمن القومي. ورابع ما يجب تغييره هو ضرورة الاستعداد لتحمل تبعات عمليات التغيير الجذري في البلاد, فالثورة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لا تختلف كثيرا عن العمليات الجراحية العظمي لأنها تقطع وتجرح وتترك آثارا وندوبا لا تخفيها عمليات التجميل إلا عندما تنجح الثورات فتصير جزءا من تاريخ نبيل للتغيير والإصلاح. وربما كانت أكثر الصعوبات التي تواجه ذلك هي القدرة علي خلق التوافق المجتمعي حول ما يجب تحقيقه ليس فقط في صورة أهداف عامة مثل محاربة الفساد أو تحقيق الديمقراطية, ولكن عن طريق تطوير النموذج الذي نريد الوصول إليه. وفي وقت من الأوقات قبل الثورة كانت النماذج التركية والماليزية رائجة للاقتداء بها; فلماذا لا نعرف ماهيتها ونطرحها علي الرأي العام خاصة في الأحزاب والقوي السياسية المختلفة؟. المهمة الخامسة للثورة حتي تصل إلي غاياتها ولا تصير محض مظاهرات ملهمة في ميدان التحرير أن تجد طريقة للتعامل مع البيروقراطية المصرية لأنها هي في النهاية التي سوف تنجح أو تجهض الثورة كلها. فلعل أسوأ ما في التجربة المصرية خلال العقود الستة الماضية هو التضخم السرطاني في البيروقراطية; فعندما قامت ثورة يوليو1952 كان عدد موظفي الحكومة350 ألف موظف, وبعد عقد من الثورة صاروا770312, وعند وفاة الرئيس جمال عبد الناصر كانوا قد أصبحوا1290538, وبعد عقد من الوفاة صاروا2474459, وهؤلاء تضاعفوا بعد عشر سنوات, وعندما دخلنا الألفية الثالثة كانوا قد تخطوا الخمسة ملايين نسمة, ولو أضيف لهم موظفو القطاع العام والقوي الأمنية المختلفة لوصل الرقم إلي ستة ملايين ونصف مليون أو ما هو أكثر ويقترب من ثلث القوي العاملة في البلاد, ويشكلون أكبر حزب سياسي, وأكبر جماعة اقتصادية, وأقل البيروقراطيات إنتاجية في العالم الثالث حيث لا تزيد إنتاجيتها مقابل الدولار عن ثلث إنتاجية العامل الصيني. الثورة إذا هي التعامل مع مهام جسام, ولكن ماذا تكون الثورة إذا إن لم تكن للقيام بالمهام التي عجزت عنها أنظمة لم يفلح المصلحون في حفزها علي التغيير والتقدم وبقيت علي حالها تحافظ علي الجمود وتقف إلي جوار الأمر الواقع مهما كان مؤلما وبائسا. فهل تنجح الثورة في التعامل مع هذه المهام, بل هل هي علي استعداد لفتح ملفاتها المعقدة؟ المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد