كان يوم25 يناير هو يوم الثورة, وكان يوم11 فبراير هو يوم انتصارها, وجاء يوم19 مارس ليكون يوم عرسها, حيث تدفق ملايين المصريين للإدلاء بأصواتهم في دلالة لاتقل بحال عن دلالة تدفق الملايين يومي الثورة والانتصار. ولايستطيع أحد أن ينكر أن ثوار يناير وشهداءهم هم الذين أهدوا لشعبهم هذا العرس, لقد كنت احس بأرواح هؤلاء الشهداء بل وأكاد أري صور وجوههم ترفرف علي الملايين المصطفة أمام صناديق التصويت وترسم الابتسامة علي وجوههم. وعلينا لكي نحسن قراءة المشهد وما شابه من غبار, أن نتأمل مقدمات الإعداد ليوم الاستفتاء منذ بداية التفكير في إعادة صياغة الدستور واضعين في الاعتبار أن ثقافة مجتمع ميدان التحرير قد اثارت فزع الكثيرين. طرحت غالبية الأحزاب والتيارات السياسية منذ البداية اجتهادا مؤداه أن القوي السياسية المصرية تحتاج وقتا للاستعداد لخوض الانتخابات ومن ثم فلا مبرر للتسرع, ومع بداية تشكيل لجنة لتعديل عدد محدود من مواد دستور1971 المعطل بقرار من المجلس العسكري, تعالت نغمة التحذير من التسرع وبدأ التلويح بأن الإخوان المسلمين وبقايا الحزب الوطني هما وحدهما القوتان الجاهزتان لكسب أية انتخابات وشيكة, دون التوقف امام حقيقة ان القول بامتلاك بقايا الحزب الوطني جماهيرية تمكنه من المنافسة في انتخابات نزيهة, يقتضي بالضرورة مراجعة شجاعة لما رددناه جميعا من اعتماد الحزب الوطني وهو في عنفوان قوته اعتمادا مطلقا علي تزوير نتائج الانتخابات, وتم دفع الإخوان المسلمين الي خارج معسكر الثورة وكانت صيحة الحرب الأولي هي إثارة رعب المسيحيين المصريين, والنفخ في رماد فزاعة الإخوان التي خبت نارها في غمار الثورة, وازداد خفوتها مع بروز التيارات السلفية والجهادية بل والصوفية وجميعهم ينطلق من خلفيات تتناقض تماما مع منطلقات الإخوان المسلمين, ولم تلبث أن أقحمت المادة الثانية من مواد الدستور والخاصة بالشريعة الإسلامية لنزيد النار اشتعالا, وتعالت الصيحات دفاعا عن بقاء تلك المادة والتحذير من المساس بها, كما لو كانت آية قرآنية وليست مجرد مادة تمت صياغتها بصورتها الراهنة ضمن التعديل الدستوري الذي اصدره السادات وأدخل فيه مادة تأبيد رئاسة الرئيس, وتم اقراره في واحد من الاستفتاءات الشهيرة التي نعرفها, وتصاعدت بالمقابل الدعوة لضرورة الغاء هذه المادة أو تعديلها كما لو كان وجودها هو المصدر الرئيسي لما كان يطلق عليه الفتن الطائفية. وانتهي الامر الي محاولة ترسيخ تصنيف خبيث يقوم علي تبادل الاتهامات بالخيانة, وهي اتهامات تم التعبير عنها عبر القنوات الإعلامية والصحف والملصقات والاعلانات والخطب الدينية: من يقولون نعم يخونون دم الشهداء ويكرسون لقيام دولة دينية, ومن يقولون لا يخونون الإسلام ويكرسون لقيام دولة لا دينية. وتوجست شرا, فقد توقعت بعد ذلك الشحن الطائفي المكثف الذي صاحبه التحذير من مغامرة إجراء التصويت قبل أن تستكمل الشرطة وجودها, ان يصبح المناخ مهيئا لحدوث احتكاكات ومشاجرات عنيفة بين تلك الجماهير المنقسمة والمستعدة لتخوين بعضها البعض, وعزوف قطاعات كبيرة من المواطنين عن المشاركة في انتخابات يتهددها العنف. ولكن روح ثورة52 يناير واطياف شهدائها احبطت كل ذلك, فقد اندفع ملايين المصريين ليدلوا بأصواتهم, ووقفت لساعات طوال تنتظر دورها, وتتناقش وتختلف حول خيارات التصويت, ولكن دون شجار أو تجاوز, لقد فرضت عليهم روح ثورة52 يناير أن يختلفوا ويتحاوروا وأن ينتهي حوارهم بانتظار نتيجة التصويت التي كان يجهلها الجميع للمرة الاولي في تاريخهم منذ ما يزيد علي نصف القرن. كانت النتيجة مفاجئة لي شخصيا, لقد اخترت من البداية ان اقول نعم ولكن غالبية من ناقشتهم من الاصدقاء كان اختيارهم لا وان لم يخل الامر من اعداد قليلة من الاصدقاء اليساريين والعلمانيين فضلوا اختيار نعم, واخيرا ظهرت النتيجة بالامس القريب02 مارس ووافق2.77% من الشعب علي الطريقة والخطة الزمنية التي تطرحها التعديلات لبلوغ نفس الهدف الذي سعي اليه من رفضوا الموافقة وهو اعداد دستور جديد يضمن اقامة حكم مدني, واصبح السؤال الذي ينبغي ان نطرحه علي انفسنا: وماذا بعد؟ تري هل ثمة امل في القبول بما اختاره الشعب والسعي لاستعادة خبرة ايام الثورة والانتصار للمضي في طريق واحد نحو التفعيل الامثل للتعديلات التي تمت الموافقة عليها, علما بأن الطريق محفوف بالمخاطر وأن الخطوات القادمة تتطلب درجة عالية من التوافق الوطني؟ تري هل ثمة أمل في الكف عن تلك النغمة النخبوية المخربة التي تنفر من ممارسة النقد الذاتي مندفعة الي اتهام2.77% من المصريين بالجهل السياسي والتعصب الديني والقابلية للتضليل الي حد خيانة الثورة دون التوقف لحظة للتساؤل عن هوية تلك الثورة التي يخونها شعبها؟ أليس من سبيل للاعتراف بشجاعة أن نخبا نخب سياسية مصرية ثورية اخطأت في قراءة الخريطة السياسية المصرية, كما اخطأت في تقدير قواها النسبية وبناء تحالفاتها؟ أظن أن كل تلك الآمال ممكنة, وليكن رهاننا الأوحد علي أرواح شهداء ثورة يناير التي رعت عملية التصويت, لعلها تذكر الجميع بقيمة التعايش الوطني الثوري, وضرورة اقامة التحالفات الصحيحة. المزيد من مقالات د. قدري حفني