يتلخص تاريخنا الحديث بمحاولات تحقيق حلمنا في إقامة دولة مدنية حديثة, ترتبط بتعدد مراحل تاريخها وحضارتها من ناحية, وبعصرها وعالمها من ناحية أخري, حلم كبير جاهد من أجله قادة ومصلحون ومفكرون مصريون عبر الاجيال, وكان همهم الاكبر أن تبحر سفينتنا نحو المستقبل وتلحق بركب التقدم والديمقراطية, ويجد كل إنسان فيها الامان وامكانية الحياة الكريمة والكرامة والحرية له ولأولاده من بعده, إلا أن هذا الحلم قد تعثر في مراحله المختلفة للأسباب التي نعرفها جميعا وتمزق الناس بين قسوة الواقع ومثالية الحلم. وعندما جاء الرئيس السابق حسني مبارك الي الحكم, جاء في وقت صعب بعد اغتيال الرئيس السادات, وورث واقعا محملا بالمشاكل, وعندما أخرج من المعتقل القيادات السياسية والدينية توسمنا خيرا, في بادرة احيت فينا الامل في حلم المستقبل لبلادنا. إلا أنه في النصف الثاني من حكم الرئيس مبارك وسماحه لمجموعة معينة من حوله ان تمسك بمقدرات البلاد وتزاوج السلطة بالثروة ظهرت الطبقية المستفزة, وانتشر الفساد وغابت العدالة الاجتماعية, واتسع الفقر وعمت البطالة بين الشباب وعاني الناس من القهر والفقر والكبت واهدار الكرامة الانسانية, وقمع المواطنين بالاساليب الامنية, وازداد الحديث في وسائل الإعلام المختلفة عن سلبيات الواقع وغياب الحلم المرجو. واكب هذا ثورة تكنولوجية الكترونية هائلة في عالم الاتصال من خلال النت والفيس بوك, حملت الانسان الي الفضاء الواسع ليري ما يحدث في أي بلد في العالم لحظة حدوثه, مما رفع من وعيه وتطلعه, في الوقت الذي زاد الضغط عليه محليا واقتصاديا وسياسيا بصورة غير محتملة. وبسبب تردي نوعية الحياة وتردد المسئولين في اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب, انفجرت الثورة بقيادة الشباب الذين اشعلوا الشرارة وتلقفها كل الشعب وساندتها بقوة وحكمة القوات المسلحة الباسلة, وهنا بدأ الحلم في اقامة دولة مدنية حديثة تتأسس علي مبدأ المواطنة وسيادة القانون والمساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن ديانتهم وانتمائهم الحزبي, وتكريس العدالة الاجتماعية, هذا الحلم الذي تواري كل هذه السنين بدأ يداعب أفكار الكثيرين من شعبنا. لقد حققت هذه الثورة السلمية المباركة بكفاح ودم ابنائها ما لم تحققه اجيال عديدة من قبل, لقد غيرت وجه التاريخ في بلادنا وابرزت قيمة مصر كنموذج يحتذي به في المنطقة والعالم, واعادت الانتماء للوطن الي قلوب الملايين من الشباب, وعبرت بصدق عن وحدة النسيج الوطني, فالكل يتظاهر والكل يحرس المنازل والمصالح والكل يحمي الكنائس والمصلين في العيد, والكل يقفون في دروع بشرية لحماية اخوانهم المصلين صلاة الجمعة في الميادين والكل يدرك بلا افتعال ان مصر فوق الجميع, وهكذا بدأ الناس يتحدثون عن الأمل في امكانية الحياة الافضل التي تنعم فيها بالحرية والديمقراطية والعدالة. إلا أن الثورات في التاريخ لا تحقق مكتسباتها دفعة واحدة, صحيح انها تحدث تغييرا جذريا في علاقات القوي الاجتماعية في المجتمع, لكن هذا يتحقق باشتراك كل أبناء الوطن في اعادة بناء الحاضر وصنع المستقبل, وهذا يستغرق وقتا بشرط أن نعرف تماما الي أين نحن سائرون, ستظل الثورة هي الشرارة الملهمة, والنجم الهادي عبر الطريق والريح القوية التي نولد منها الطاقة الهائلة للتقدم. لذلك من المهم ألا نتوقف طويلا عند الماضي بل نكشف عوراته ونحاسب القيادات التي تلوثت, بشرط أن نفعل ذلك ونحن نتطلع الي المستقبل ونوظف الطاقات الهائلة فينا للبناء, نجمع بين المساءلة والمصالحة بين الحرية والمسئولية بين الفرد أيا كان موقعه وبين الدولة والوطن الذي يحتاج الينا جميعا لنحقق معا حلم المستقبل بعدل وعقل, برؤية واضحة وضمير صالح ونفس سوية. المزيد من مقالات د. القس مكرم نجيب