يتساءل أبناء محافظة الدقهلية في شيء من تعجب: كيف تنسب محافظتهم الي قرية صغيرة( مجهولة) في محافظة دمياط هي قرية( دقهلية) ولا تنسب الي مدينة المنصورة التي لها بالقطع من اسمها نصيب. فقد أسسها الملك الكامل لتكون مقرا له ولجيوشه الذين يحاربون جنود الحملة الصليبية( الخامسة) ونجحوا فعلا لا قولا في صد هؤلاء الغزاة الذين كانوا يستهدفون القاهرة لاقتناعهم بأن مفاتيح بيت المقدس الذي يقصدونه موجودة في القاهرة.. كما كانت المنصورة أيضا مقبرة للغزاة من جنود الحملة السابعة التي كان يقودها ملك فرنسا لويس التاسع وهذا معناه أن المنصورة ولدت من رحم المقاومة الشعبية. وهنا لابد أن نسجل للواء سمير سلام محافظ الدقهلية هذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ محافظة الدقهلية, وهي أن ينبع الاحتفال بالعيد القومي للمحافظة من بين الناس, وأن يشارك فيه شعب الدقهلية بجميع فئاته وطوائفه.. وكنا اعتدنا أن يتم الاحتفال بهذه المناسبة البطولية داخل مبني المحافظة وتحديدا بين موظفي المحافظة من معاوني وسكرتارية المحافظ لا أكثر ولا أقل.. .. والأهم أن القائمين علي أمر هذا الاحتفال الذي شاركت فيه جموع أبناء الدقهلية يؤكدون( وعيهم) بالبعد الحضاري لهذا الاحتفال, فلئن كانت المنصورة قد أنشئت لتكون حاضنة للمقاومة الشعبية ضد الصليبيين, وأصحاب الانتصار الحقيقيين هم أفراد الشعب( شيوخا ورجالا ونساء وأطفالا).. فمن الطبيعي أن يحتفل المنتصرون بانتصارهم.. يضاف الي ذلك أن الاهتمام بخصوصية كل منطقة داخل مصر, هو شكل من أشكال الفهم الحضاري لحركة التاريخ, فليس عيبا أن يحتفل النوبيون بعيدهم وكذلك الدمايطة بتواريخهم التي انتصروا فيها( وهي كثيرة).. وأبناء الشرقية, والمنوفية, والغربية.. وكلهم يتذكرون( محطات) وطنية لصيقة بهم وتخصهم دون غيرهم.. لذلك أري ضروريا في إطار هذه الاحتفالات التي تعيشها محافظة الدقهلية في هذه الأيام بمناسبة عيدها القومي8 فبراير وهو التاريخ الذي أسر فيه شعب الدقهلية ملك فرنسا( لويس التاسع) أن ننادي بأن يكون( إجازة) في كل أنحاء المحافظة( في المدارس والجامعات والمصانع والمصالح الحكومية).. علي أن يعمم علي جميع محافظات مصر بحيث تأخذ كل محافظة( اجازة) في عيدها القومي.. وليس من شك أن مثل هذا الصنيع سوف يعيد الي الذاكرة مواقف وانتصارات حققها الأجداد والأسلاف في هذه المحافظة.. بهذا تأخذ مقاطعات وولايات ومدن كبري في بلاد الغرب, نحن إذن أمام إحدي آليات ايقاظ الشعور الوطني, الذي يجب أن يبدأ بالدائرة الصغري( وهي المحافظة) ليمتد لاحقا الي الدائرة الكبري وهي مصر كلها.. واذا علمنا أن عهد العولمة الذي يظللنا منذ ما يقرب من عقدين من الزمان, يستهدف تحطيم الخصوصيات لحساب خصوصية واحدة هي أعم وأشمل وأعني بها خصوصية العولمة التي تري نفسها سماء يعيش تحتها الجميع, فالمؤكد أن تكريس الخصوصيات الصغيرة, وضخ دماء الانتماء والولاء في عروق الصغار عبر احتفالات قروية أو محلية يعتبر شكلا دفاعيا عن هوية نأبي لها أن تندثر أو تموت.. ولقد أثلج صدري أن اللواء سمير سلام انتهز فرصة هذا العيد القومي في تاريخ المحافظة ليعيد اكتشاف( وافتتاح) دار القاضي فخرالدين بن لقمان الذي كان مستقرا( وسجنا) لملك فرنسا عندما ألقي أبناء الشعب القبض عليه في كوخ صغير بقرية ميت الخولي عبدالله مسقط رأس أحد فلاسفتنا وهو الراحل الدكتور زكي نجيب محمود. وأشهد أن هذا المكان الذي يجب أن يكون أثيرا الي نفس أبناء الدقهلية( وكل شعب مصر) قد جني عليه الجناة في غياب المحافظين السابقين إلا من رحم ربك وعدد من الإداريين في المحليات الذين تركوا مسجدا مجاورا يزحف ويزحف علي هذا الأثر النادر في تاريخ مدينة المنصورة حتي التهم أكثر من نصفه.. ولم يتبق منه إلا مساحة تذكر زائرها بأمرين, الأول أن أبناء الدقهلية السابقين قد حققوا انتصارا غير مسبوق وأجبروا ملك فرنسا علي توقيع الصلح واطلاق صراحه مقابل الانسحاب من كل الأراضي المصرية.. الأمر الثاني, أن أبناء الدقهلية الحاليين انحازوا عن جهل وضيق أفق لتوسيع مسجد يمكن أن يبني في أي مكان آخر, علي حساب أثر لا يمكن تعويضه لأنه تاريخ تعلن عنه جدران منزل لايمكن في حال هدمه استبداله أو تعويضه مهما كان الثمن.. ويبدو لي أن القائمين علي الاداريات في المنصورةوالدقهلية بشكل عام قد انتقلت إليهم عدوي الحماسة التي عهدناها في سمير سلام منذ اللحظة التي جاء فيها الي المنصورة, فبدأ التفكير في إعادة النظر في أسماء الميادين والشوارع بحيث تنتشر أسماء القادة العسكريين والشعبيين الذين حققوا الانتصار علي ملك فرنسا, مثل الأمير فخرالدين والملك الكامل, والملك الصالح, وشجرة الدر, وتوارنشاه, وموقعة جديلة التي يعتبرها أستاذ التاريخ د. عبدالغني محمود صفحة من صفحات الفخار الدقهلاوي.. ثم تسمية شوارع أخري بأسماء قادة الحملتين الصليبيتين الخامسة والسابعة لإنعاش ذاكرة الأجيال المختلفة عندما يطرحون السؤال عن: لويس التاسع, وروبرت كونت أرتو, الي جانب أسماء مصرية لامعة مثل: ركن الدين بيبرس, والطواشي الذي عهد إليه رعاية ملك فرنسا في سجنه, فضلا عن أماكن لعبت دورا في المعركة مثل البرامون, وبحر اشموم, والبحر الصغير وجديلة.. .. ويجب ألا ننسي أن هذه الاحتفالية الجماهيرية والشعبية شهدت لأول مرة أيضا مهرجانا للفن والابداع والثقافة باعتبار أن محافظة الدقهلية تعرف بأنها مستودع للمثقفين.. والمبدعين, ويحسب لمحافظ الدقهلية أن أبرز هذه الخصلة التي تعرف بها المنصورة بين سائر المدن المصرية.. كما تم الإعلان عن إنشاء مدينة المنصورةالجديدة علي مساحة21 ألف فدان وتطوير مصيف جمصة ليحتل موقعه علي خريطة السياحة المصرية, وانشاء مناطق صناعية في أربع مدن و3400 وحدة سكنية, والأهم هو تخليص محافظة الدقهلية من الصفة التي التصقت بها في زمن المحافظ السابق وهي أنها محافظة الجراكن! بمعني ضعف وصول المياه الصالحة للشرب مما كان يضطر الأهالي الي حمل الجراكن البلاستيكية بحثا عن ماء, فقد تم بناء محطتي مياه الأولي في المطرية والثانية في ميت فارس.. وفي سياق الآثار, ولأن الدقهلية مظلومة في هذا الجانب برغم ثرائها بالتاريخ الذي يتراكم كطبقات الأرض, تقرر إنشاء متحف كبير يضم آلاف التماثيل التي تملأ المخازن وتم جمعها من تلال لها تاريخ يعود الي عصور الرومان واليونان والفراعنة هي: تل البلمون, وتل الربع, وتل المقدام.. وكان لابد من وجهة نظري أن ينتهي هذا الاحتفال بالدعوة الي إعادة ترميم مسرح المنصورة الذي صدر عشرات الفنانين والمبدعين منذ زكي طليمات الي الفنان الرائع( الراحل) إبراهيم عبدالرازق.. وأشهد أن سمير سلام يضع هذه الأجندة المثقلة نصب عينيه لكي تعود كما يقول للمنصورة رونقها الذي كان.