كشفت ثورة 25 يناير عن مدي الأوضاع الرديئة التي وصلت إليها الصحافة القومية في ظل قيادات عمدت إلي إضعافها أمام جمهور الرأي العام.. سيقول أحدهم إن الديمقراطيات العريقة لا تعرف نمط الصحافة القومية.. وهذا صحيح.. ولكننا في مصر لانزال في مرحلة الديمقراطية الناشئة, حيث الطريق طويل أمام تكوين قيم إعلامية جديدة قادرة علي المزج بين الحق المطلق في المعرفة والنشر, وبين المسئولية القومية والمجتمعية التي تشكل في النهاية الإدراك الحقيقي لمفهوم الأمن القومي.. وفي مرحلة مفصلية كهذه لا تستطيع الدولة أن تمارس ترف إضعاف أو تصفية الصحافة القومية. كانت هذه الفقرة خلاصة لسلسلة من المقالات كتبتها في شهر يوليو7002, محذرا من موجة كانت قد سرت حول بيع وتصفية الصحافة القومية بعد تعمد إضعافها أمام موجات الصحافة الخاصة التي تمكنت من كسب مساحات واسعة من الرأي العام. ففي عام5002, ومع التعيينات الجديدة للقيادات الصحفية, بدا أن الأمر مدهشا, وأن ثمة مخططا شاملا يتعلق بتصفية المؤسسات الصحفية عن بكرة أبيها قد دخل إلي حيز التنفيذ, حيث كان من السهل علي جمهور القراء عامة والصحفيين خاصة, ملاحظة أن أسوأ العناصر ذمة وأخلاقا وأقلهم خبرة ومهنية هي التي فازت بهذه المواقع المهمة التي ستكون مسئولة عن تشكيل وجدان الرأي العام مع بداية الفترة الخامسة من حكم الرئيس المخلوع مبارك, مع التمهيد لمشروع التوريث الذي ذاع صيته في هذه الأيام إلي الدرجة التي راهن فيها الكثيرون علي أن الحكم قد انتقل بالفعل إلي مبارك الابن منذ أوائل الألفية الثالثة. ولم يتبق سوي المراسم الرسمية التي حددتها التعديلات الدستورية المعيبة في المادة(67) والتي كان مقررا تفعيلها في الانتخابات الرئاسية المقبلة, لولا أن تداركتنا رحمة الله بثورة شعبية لم تكن علي البال ولا الخاطر رغم بعض المخاوف التي أطلقها شرفاء الوطن من إمكانية انطلاق الفوضي الخلاقة, وأن الظروف مهيأة والمناخ فاسد, ولكن شاءت الأقدار أن تعمي البصائر عن كل مسببات الثورة, وأمد الله الطغاة في عميانهم. ومنذ عام5002, بدا أن المنحني قد أخذ في هبوط شديد لمسار الصحافة القومية التي وصل حال القائمين عليها كانوا يلجأون إلي شتائم قذرة إلي جمهور القراء إذا ما تطوع أحد من الصحفيين بتذكيرهم بأن الناس لهم حق في المعرفة وفي أن يجدوا أنفسهم علي صفحات صحفهم القومية, بدلا من سهام التجريح والشتائم والدخول إلي المناطق المحرمة في حياة رموز العمل السياسي المعارض. ومع بدايات عام7002, وفي ظل موجات الهجرة للصحفيين الأكفاء من الصحافة القومية إلي الصحافة الخاصة والفضائيات الجديدة, وفي رعاية من أوضاع مالية متردية عانت منها الأغلبية العظمي من الصحفيين الشرفاء وتراجع معدلات المهنية والمصداقية وتراكم الديون والخسائر, سرت همهمات بأن الصحافة القومية باتت عبئا علي الدولة, وأن النوايا تتجه إلي التخلص منها بالبيع, كما هو الواقع مع الصروح الاقتصادية العملاقة التي بيعت لتحقيق أهداف خبيثة في تجريف البنية الأساسية للمجتمع المصري.. والمدهش أن إحدي القيادات الصحفية إياها كانت تروج مع ادعائها بمعرفة بواطن الأمور, لفكرة أن الصحافة القومية زائلة في القريب العاجل. وفي الفترة من9 يوليو وحتي03 يوليو من عام7002 كان لي شرف المبادرة إلي التحذير من الأزمة التي تمر بها الصحافة القومية.. ومن خلال أربع مقالات متتالية حاولت التنبيه إلي خطورة طرح خيار الخصخصة الذي يمس بالضرر أهم مقومات الأمن القومي المصري, باعتبار أن هذه الصحافة القومية مازالت قادرة, برغم الخراب الذي أصابها, علي الحفاظ علي الحد الأدني من الوعي المجتمعي بقضايا الأمة وثوابتها الاستراتيجية. وفي هذا الصدد, فقد سبق أن قلت بالنص: لانريد لعدوي الخصخصة المريرة لقطاعات الإنتاج الذراع الاقتصادية للدولة أن تنتقل إلي الصحافة القومية.. ولا نريد للوصفة ذاتها التي أضعفت القطاع العام وكبلته بسوء الإدارة والقيود والديون والبيروقراطية والفساد, أن يجري تطبيقها قسرا علي ذراع الدولة الإعلامي فيجري وصمها بغير حق بالتخلف وتحقيق الخسائر, ومن ثم ضرورة التخلص منها..! والآن أصبح في حكم اليقين أن الصحافة الحزبية والخاصة برغم تجاوزاتها في كثير من الأحيان تمثل مع الصحافة القومية جناحي طائر المنظومة الصحفية المصرية الجديدة.. وإذا كانت أجواء الديمقراطية الناشئة قد أتاحت للجناح الأول أن يضرب بعنف في الهواء الطلق, فإن منطق المسئولية الوطنية يقتضي عدم تكتيف وإضعاف جناح الصحافة القومية حتي لا يتخبط الطائر ويتهاوي.. وهو ما كان يسعي إليه قادة العمل الصحفي مع طغمة من مسئولي الحزب الوطني الذين كانوا يتطلعون إلي نسبة السمسرة التي ستؤول إليهم في حال بيع المؤسسات الصحفية إلي أذنابهم من رجال الأعمال. وفي ظل ثورة52 يناير التي أطاحت بعدد كبير من رموز الفساد, ومازالت تعمل بكفاءة في الإيقاع بكل من له صلة بهذه الشبكة المعقدة.. نتوقع أن تنال الصحافة القومية جانبا كبيرا من حملة التطهير التي تعيدها إلي القدرة علي التعامل الصادق مع نبض المجتمع, بحيث يكون ولاؤها الأول هو للشعب والمجتمع, ولا أتوقع أن تزيد الفترة الزمنية المطلوبة لاستعادة ثقة القارئ سوي أسابيع معدودة من العمل الجاد الذي سيؤدي حتما إلي استعادة القدرة علي العمل بفاعلية في تكوين الوجدان المصري. وضمن أهم متطلبات إعادة التأهيل, أن تتوصل الدولة مع مجلس الشوري إلي حل نهائي لأزمة المديونيات من خلال قرار جريء بشطب جميع الديون, علي أن تبدأ صفحة جديدة من النظام المحاسبي الصارم مع نظام من الإدارة الرشيدة يضمن سلامة الأداء المالي وإعادة توزيع الدخول بالعدل داخل المؤسسات الصحفية مع الوضع في الاعتبار أن أجهزة التحرير لابد أن تأتي في المقدمة. وأذكر أنني قبل نحو تسعة أشهر ومن خلال عدة اجتماعات مع زملاء أفاضل في الأهرام حذرت مرارا وتكرارا من مخاطر أن تتفوق أي من الصحف الخاصة علي توزيع الأهرام بنسخة واحدة, الأمر الذي يعني أن تنتقل مصادر الدخل من الإعلانات إلي هذه الصحيفة الخاصة مع الانهيار التام لأكبر المؤسسات الصحفية المصرية. وليس خافيا أن الانتصارات التي حققتها الصحافة الخاصة في الآونة الأخيرة, إنما كانت حصيلة سلسلة من الإخفاقات والممارسات الفاسدة في الصحافة القومية, ومن أهمها عدم الاهتمام بتحقيق زيادات حقيقية في دخول الصحفيين, بما يتناسب مع اقرانهم الأقل منهم خبرة ودراية في الصحف الخاصة, ولا يخفي أنه مع سيطرة رجال الأعمال المصريين والأجانب علي الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي أصبح من المحتم أن يكون للصحفيين عيون مليانة حتي لا يقعوا تحت تأثير أي اغراءات مادية, والمؤكد في هذه القضية أن قدرا يسيرا من الجهد الذي يبذل لإفشال الصحافة القومية, إذا تم توجيهه لوجهة الإصلاح والتطوير.. لجاءت النتائج مبهرة! وعودة إلي قضيتنا الأهم في كيفية تقوية الصحافة القومية, لابد من تأصيل مفهوم أنها تمثل المجتمع الذي هو أصل الدولة بجميع أطيافه الفكرية والفئوية وتياراته السياسية, بحيث تصبح ملاذا حقيقيا للجميع في إطار من الشفافية والموضوعية وبما يضمن قيامها بمسئولياتها ودورها كصمام أمان.. ولا يتعارض كل ذلك مع كونها الصحافة المنوط بها إبراز الإيجابيات, والمناقشة الموضوعية للسلبيات في مواجهة هذا الطوفان العارم من الصحافة الغاضبة التي نثق بأن فيضانها الهائج سوف ينتظم في المسار الهادئ والموضوعي عندما تصبح الديمقراطية جزءا من الثقافة المصرية العامة.. وعند هذه اللحظة يمكن إعادة النظر في وضعية الصحافة القومية. المزيد من مقالات محمد السعدنى