الفتاة الصغيرة الدقيقة الملامح, الذائبة حياء وخجلا, التي صافحتني كلماتها الأولي وهي لما تزل بعد طالبة بقاعة الدرس في الجامعة الأمريكية كبرت وشبت عن الطوق, وأخذ شعرها الجميل, المتوهج بصدقها وبراءتها ودهشتها, ينثال مجموعة بعد مجموعة, حتي إذا ما التقيت بها حيث هي الآن في الدوحة عاصمة قطر, وفي مناسبة الدوحة عاصمة للثقافة العربية لعام 0102, أسعدتني بصدور مجموعتها الجديدة قبلات الصغيرة التي كبرت وشبت عن الطوق, وتقدمت بخطي ثابتة في درب العذابات الشعرية, وأفق معاناة الإبداع هي الشاعرة رنا التونسي, التي تخرجت في الجامعة الأمريكية بالقاهرة, وحين انتقل أبوها الأديب والأستاذ الجامعي عباس التونسي إلي الدوحة, صحبته مع الأسرة, لمواصلة دراساتها العليا, والالتحام بتجربة حياتية جديدة, وفضاء ثقافي وشعري مغاير. تقول رنا التونسي في مستهل مجموعتها الجديدة: إذا مت عاليا في الهواء وارتطمت جمجمتي بألف نجمة إذا انكسرت أفكاري ولم تعد هناك تذكرة الإياب والعودة أرجوكم لا تمصوا دمي لاتكتبوا القصائد عني هناك اتركوني معلقة العابرون فقط الذين قابلتهم للتو هم أفضل من يسكن القصائد والغياب! وتقول رنا: أحيانا يتفتح علي الجنون من كافة الجهات فلا أعرف كيف أغلقه ما الذي آخذه معي؟ وما الذي أتركه هناك ؟ لو كانت ليدي قوة الباب ومصراعيه لكنت فتحت العالم عن آخره اللغة كما ترون منسابة في صحة وعافية, وقدرة ناصعة علي التعبير والتصوير, لا اصطناع فيها لغرابة, أو تقافز في الهواء كما يفعل الحواة بحثا عن الدهشة والإغراب, وكما يفعل كثير ممن يمارسون دون موهبة هذا اللون من الكتابة, المغسول بماء الشعر, والمكتفي بذاته, لأنه يقع في مساحة بين النثر والشعر, وفيه من جلوة الفنين معا, ومن نسجهما بأصالة واقتدار في جدلية هذا العزف الجميل: كيف تصف العراء وأنت ساكن فيه ممرات من الضوء مربوطة بأجنحة بعضها ببعض تربط أختي الضفيرات واحدة فوق أخري بنات صغيرات يعبرن الظل ممسكات بعضهن بأيدي بعض كم أود أن أخرج ذلك الخوف من صدري يا أمي أخرجه شحاذا في ملابس رثة, نائما علي رصيف مسروق أجذبه من شعره الطويل اللانهائي أرميه لصا سرق حواديت عمر أتمني أن أقتله أن أمرغ رأسه في التراب أتركه يبكي كعصفور نواحا صغيرا وهادئا ربما يجبرني أن أسامحه نسيان بدأ يطفو وأنا لم أعد صغيرة لأركض إلي البيت فعلا, لم تعد رنا التونسي صغيرة. إنها الآن ناضجة ومكتنزة بالخبرات والتجارب والرؤي, والتأمل الطويل في الحياة والكائنات, في ملامح الوجوه, في البشر الذين لم يعودوا بشرا, وفي الحياة التي تضيق بالرغم من اتساع الصحراوات والفضاءات. لكنها حريصة علي الا تفارق طفولتها, فهي خزانها الأول وملجؤها الأثير, وحقيبة ذكرياتها وأوراقها الممتلئة بالعطر والدموع وهي حصنها كما تقول في ثنايا بوحها وهي تكتب ببراءة طفلة, لكن عينيها الثاقبتين النفاذتين تلتمعان بوعي العصر, حكمة جيلها الذي شب فجأة فرأي عناقيد الحكمة ونقيع الفكر بين يديه, فكبر سريعا قبل الأوان والذي يعصم رنا من التشتت والوقوع في براثن الوحدة, هو شعرها الذي تبدعه, وشعر الدنيا الذي تتلقفه وتتمثله, ومن شعرها إلي شعر الآخرين, تقفز كالعصفورة المزقزقة, تلتقط وتغتذي, وتهضم وتتمثل, وتصغي لأصوات الكون في داخلها الرحب: كانت السلة التي تتحرك وحدها تشبهني/ الدرجات التي سقطت مع الأسنان تشبه البكاء/ الطفولة هي الحصن/ قرأت آلاف الروايات عن الوحدة/ وكل الأشياء التي لم أحرم منها, بل فاضت عن الكأس/ كان هناك رعب حقيقي يجتاحني/ رعب لايمكن وصفه/ كان الجميع يخاف من الظلمة/ بينما كنت أخاف أنا من الوقت/ أخذني من يدي ليوصلني إلي الضوء/ عبرت أنهارا وسنينا ضوئية/ كلها تختبيء في أذرع من الشعر/ في مئة كلمة وكلمة/ وعندما استيقظت كانت شفتي ترتجف من الخوف/ وآثار الحبر الذي بدأ يسيل منها, ترقص علي الجدران والبيت! وأهلا برنا التونسي وقبلاتها الحميمية!