الحياة هبة من الله وهي مكفولة لكل إنسان, وعلي الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من أي اعتداء عليه, والنفس الإنسانية موضع اعتبار في شريعة الإسلام. وقد جاء في سورة المائدة ما يفيد أن من يعتدي علي نفس إنسانية واحدة فكأنما اعتدي علي المجتمع الإنساني كله, وأن من يحافظ عليها فكأنما حافظ علي المجتمع الإنساني كله, قال تعالي' من أجل ذلك كتبنا علي بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا'[ سورة المائدة/ آية32] وقد عنيت السنة النبوية الشريفة بحق الإنسان في الحياة عناية بالغة فأكثرت من النهي عن الاعتداء علي النفس الإنسانية, وحذرت من الإقدام علي ذلك صيانة للأرواح, وحفاظا علي الحياة. وترقي حرمة النفس الإنسانية في بعض روايات السنة النبوية رقيا يجعلها أعظم عند الله من حرمة الكعبة المشرفة نفسها, فقد جاء أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يطوف بالكعبة ويقول:' ما أطيبك وأطيب ريحك, ما أعظمك وأعظم حرمتك, والذي نفس محمد بيده, لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك: ماله ودمه, وإن نظن به إلا خيرا'. وإذا كانت هذه الرواية تشير إلي حرمة النفس المؤمنة علي وجه الخصوص, فإن هناك رواية أخري في صحيح البخاري تشير إلي حرمة قتل النفس المعاهدة, ذلك أن صيانة النفس البشرية والمحافظة عليها يتساوي أمامها كل البشر. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:'من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما. والمعاهد أكثر ما يطلق في الحديث علي أهل الكتاب, وإنما سموا بذلك; لأن لهم عهد الله وعهد الرسول وعهد جماعة المسلمين: أن يعيشوا آمنين مطمئنين علي أرواحهم وأموالهم وأعراضهم. فالأصل العام في تقرير وضع غير المسلمين مقارنا بوضع المسلمين, هو أن لهم ما للمسلمين من حقوق, وعليهم ما علي المسلمين من واجبات. والشريعة الإسلامية تؤكد وضع المواطنة الذي يستوي فيه المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات القانونية أمام الدولة وأمام قضائها وأمام سلطاتها كافة, فغير المسلمين هم شركاء المسلمين في الوطن, وهم والمسلمون سواسية في حقوق المواطنة وواجباتها. ومن ثم فالشريعة الإسلامية تؤكد في هذا الصدد أمرين مهمين, هما: الأمر الأول: تحكيم نصوص الشريعة الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية التي تبين أساس ودستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم, في إطار العلاقات الإنسانية بين بني الإنسان, وفي إطار حقوق المواطنة التي ينبغي أن تكفل لكل مواطن في المجتمع. الأمر الثاني: الرجوع إلي شواهد التاريخ الإسلامي التي تجسد الأخوة الإنسانية التي عاش في ظلها المسلمون وغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية, والتي تبين إسهام أهل الكتاب في العديد من مواقع المسئولية في هذه المجتمعات, وتفصيل ذلك علي النحو التالي: بالنسبة للأمر الأول: فإن أساس العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين يرتكز علي المساواة بين الناس في القيمة الإنسانية المشتركة وأمام القانون, هذه المساواة التي قررتها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية. كما يرتكز أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم علي مقتضي الأخوة الإنسانية, فإن من سنة الله في الاجتماع البشري ذ كما يذكر العلماء- أن يتجاور فيه أهل مختلف الملل والنحل, كما يتجاور أهل مختلف الألسنة والألوان, وهم جميعا أخوة لأب وأم, تربطهم هذه الأخوة الإنسانية, وإن تباعد طول الأمد بين الأصول والفروع, وقد أكدت النصوص القرآنية والنبوية علي هذه الحقيقة, فقال تعالي:[ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم]( سورة الحجرات/ آية13) وخاطب رسول الله صلي الله عليه وسلم الناس جميعا يوم حجة الوداع بقوله:( أيها الناس: إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, كلكم لآدم, وآدم من تراب). وأما دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم فقد بينه القرآن الكريم في قوله تعالي: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون[ سورة الممتحنة/ الآيتان9,8] ف( البر) وهو الفضل والخير, و( القسط) هو العدل مطلوبان من المسلمين لغير المسلمين, الذين لم يقاتلوهم في دينهم, ولم يخرجوهم من ديارهم. ولأهل الكتاب من بين غير المسلمين منزلة خاصة في المعاملة والتشريع, فالقرآن ينهي عن مجادلتهم في دينهم إلا بالتي هي أحسن, قال تعالي: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم[ سورة العنكبوت/ آية46] وأباح القرآن الكريم للمسلمين طعام أهل الكتاب, كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات, قال تعالي: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان[ سورة المائدة/ آية5] وتقرر الوسطية الإسلامية أنه إذا كان المسلم ملتزما ديانة بما أمرته به نصوص القرآن والسنة من البر والقسط حين معاملته لمواطنيه من غير المسلمين, ولا سيما أهل الكتاب منهم, فإن الالتزام الديني كما يقول العلماء والباحثون سيجعل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين قائمة في ظلال الأخوة في الوطن والإنسانية فوق قيامها وقبل قيامها علي الالتزام بحدود القانون والدستور. وبالنسبة للأمر الثاني: فإن شواهد التاريخ الإسلامي تؤكد في جملتها أن روح الاخوة الإنسانية كانت هي الإطار العام الذي ظل يحكم علاقة المسلمين بغيرهم في المجتمعات الإسلامية, لا سيما أهل الكتاب. ففي مأثور السنة الصحيحة عن النبي صلي الله عليه وسلم قيامه لجنازة يهودي, وعندما قال له بعض الصحابة. إنها جنازة يهودي, قال صلي الله عليه وسلم:( أليست نفسا ؟!). وفي مأثور السنة الصحيحة أن النبي عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودي, وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه, ولكنه أراد أن يشرع لأمته, ويعلمها حسن التعامل مع الآخرين. وفي الصحيح من المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يسأل القادمين من الأمصار عن أحوال أهل الكتاب, ويشدد في المسألة, خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضي إليهم بأذي, فيقولون له: ما نعلم إلا وفاء وبرا محضا, ومات وهو يوصي الخليفة بعده خيرا بأهل الكتاب, وأن يقاتل من ورائهم يعني يحميهم ولا يكلفهم فوق طاقتهم. ومن كل ما سبق فإن الحادث الإرهابي الذي وقع في كنيسة القديسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية والذي أوجع قلوب المصريين جميعا هو فعلة إجرامية نكراء لا يقرها شرع ولا دين ولا عرف مستقيم.