حين نحتفل بمرور مائة عام علي ميلاد نجيب محفوظ فإننا نحتفل أيضا باليوبيل الماسي لإبداعه, الذي هو في نفس الوقت الكتلة الزمنية والابداعية الكبري في مئوية الرواية العربية(2012), اذا اعتمدنا الرؤية التي تؤرخ البداية الرسمية للرواية العربية ب زينب لمحمد حسين هيكل المكتوبة عام1912. وإن كان د. جابر عصفور يشير الي أن البداية الفعلية كانت في الشام في منتصف القرن التاسع عشر. فلا يمكن الفصل بين مئوية ظاهرة روائية شكل ابداعها كما وكيفا الجانب الأكبر من كلاسيكيات الرواية العربية, وبين مئوية هذا الفن, الذي شارك في تأسيسه وتطويره عشرات العقول العربية المبدعة, استنادا الي جهد رجل كان لهذا النوع الأدبي كتف الجبل وقمته معا. فمما لاشك فيه أنه حول منتصف القرن العشرين( بالتحديد في أربعينياته وخمسينياته) كان نجيب محفوظ يبلور الجهود الأولي نحو رواية عربية, فقدم في هذين العقدين عدة اعمال تعد من كلاسيكيات الرواية بشكل عام. ومنها: زقاق المدق- بداية ونهاية- القاهرةالجديدة- والثلاثية, ثم أولاد حارتنا. وتوالت أعماله بعد ذلك من ستينيات القرن الماضي وحتي مطلع الألفية الثالثة جنبا الي جنب مع روائيين مصريين وعرب كثيرين, حيث أسس عدة مدارس تتالت بتوالي العقود. ففي الستينيات ثار علي الواقعية التسجيلية واتجه للواقعية النقدية( او عاد اليها في الواقع, فمعظم روايات الأربعينيات قبل الثلاثية وبالذات القاهرةالجديدة تنتمي لهذا النوع) ولهذا التيار الواقعي النقدي, أي الذي ينقد الواقع ولايكتفي بتسجيله, تنتمي روايات الستينيات كلها حتي ميرامار, التي يري الكثيرون أنها تنبأت بكارثة67( وقد نشرت في ذلك العام). وبعد عام النكسة اتجه نجيب محفوظ الي السيريالية والعبث واللامعقول, تماما كما فعل كتاب المسرح في أوروبا بين أنقاض عواصم بلادهم مع انتهاء الحرب العالمية الثانية, وخير ما يمثل هذا المنحي الجديد المجموعات القصصية تحت المظلة وشهر العسل. وبشكل عام فإن هذه المرحلة الابداعية تجسدت في شكل قصص- وأحيانا مسرحيات- قصيرة, واستمرت من أواخر الستينيات الي أوائل السبعينيات. وفي أواخر السبعينيات عاد محفوظ للحلم الذي راوده من قبل ووأده الغضب في رد فعل القراء, مما أدي الي مصادرة الرواية, وأعني بها أولاد حارتنا(1959) لقد أراد محفوظ في أولاد حارتنا أن يقدم تاريخا رمزيا للانسانية, مستلهما في ذلك قصص الأنبياء, لكن رد الفعل كما قلت كان محبطا. فإذا بمحفوظ يعود بعد عقدين بعمل أجمل وأقل مباشرة يحكي رمزيا تاريخ أشواق وعذابات الانسان وجرائمه, تلك هي الحرافيش. وفي عام1982 قدم نجيب محفوظ تجربة عملاقة في ظني, حيث كثف عالم ألف ليلة وليلة وقطره كله في ثلاثمائة صفحة, بعد أن أعاد تشكيله, وأضاف واستبعد( الكثير بالطبع) ونقي من الشوائب وصهر في بوتقته الخاصة ومرر خلال منشوره الضوئي, مادة استغرقت في الأصل ثلاثة آلاف من الصفحات المنمنمة الكلمات والمتقاربة السطور. هذا العمل متعة خالصة, وأدعو من لم يقرأه إلي قراءته, لأنه قد يفوق أعمالا أخري لمحفوظ تحظي بشهرة أكبر واهتمام نقدي أشد. والباقي معروف. لكني أود, وقد وصفنا محفوظ بأنه هو الذي بلور الرواية, أن أعترض علي نفسي بشدة. ف عودة الروح للحكيم, التي كتبها في باريس في عشرينيات القرن العشرين وصدرت في ثلاثينياته, هي درة عقد أعمال الحكيم الروائية, والرواية الأم التي تعلم منها محفوظ كيف يكتب رواية, وبالتحديد مصرية, وهي الطفرة التي نقلت بدايات الرواية المستحيية إلي قمة النضج, وهي قمة ليس من السهل مطاولتها حتي هذه اللحظة. علي أن الحكيم لم يثنها إلا قليلا وتفرغ لأشكال أخري, خاصة المسرح: المسرح العربي, الذي أسسه ثم طوره وظل يطوره حتي النهاية, وحمل عنه نجيب شعلة الرواية فأقام معبدها وبهو الأعمدة. وتاريخ هذين العملاقين وأعلم أن الاختزال ينطوي علي كثير من الظلم بالنسبة للحالات الفردية يشكل في المجمل العمود الذي تقوم عليه خيمة الابداع العربي في المسرح والرواية. فحين نقرأ أعمالهما نتصفح تاريخ الابداع المسرحي والروائي العربي في القرن العشرين, وهو تاريخ أضاف إليه كثيرون لا شك, من العرب ومن المصريين, لكن الله منح هذا التاريخ روادا ظلوا يرتادون حتي النهاية, يطورون ما أسسوه, ثم يتمردون علي تمردهم, ويقفون علي طرفي الكلاسيكية والحداثة من أعمالهم وأعمال تلاميذهم ومجايليهم ومن سبقوهم, وتميزت أعمال الحكيم ومحفوظ بالغزارة الشديدة أيضا, فمنحا تاريخ الفنيين اللذين قاما علي أكتافهما منحة الكم والكيف معا لتحويلهما الي ظاهرة. لذلك كان تزامن اعلان بداية الاحتفالات بمئوية نجيب محفوظ, ثم إعلان فوز ميرال الطحاوي بجائزة محفوظ, مع مؤتمر الرواية العربية الذي أقامه الاسبوع الماضي المجلس الأعلي للثقافة, كان ذلك التزامن مصادفة بليغة, إن كانت مصادفة أصلا, لأن هذا التزامن علي مستوي أيام يعكس تزامنا أعرض وأبلغ يمكن تلخيصه في كلمتين: مئوية نجيب محفوظ.. مئوية الرواية.