الجولة الاخيرة من المحادثات النووية بين ايران والدول الكبري في جنيف تلخص دراما مملة تبعث علي السأم من طول وتكرار مشاهدها التي تصل الي الذروة في احيان وسرعان ما تخبو جذوتها. لتعود الي مربعها رقم واحد, للدرجة التي بدا معها الصراع وكأنه مشاهد متفق عليها بين اللاعبين الرئيسيين, حتي ان المراقب خلال العقد الاخير لم يعد بحاجة لقدرة علي الاستقراء لتوقع ان يخلف حالة اقتراب الصراع بقوة من شفا الحرب, اتفاق مفاجئ علي العودة لمائدة التفاوض, لتبدأ مشاهد جديدة مملة من الصراع. لكن من الصعب تجاهل قدرة الدبلوماسية الايرانية علي التكيف مع سياسات الادارات الامريكية المتعاقبة, فإذا كانت ايران قد نجحت في الصمود امام جبهة دولية عريضة معادية لها وضعت اساسها الحرب العالمية علي الإرهاب وهو ما اتاح للولايات المتحدة فرصة إعادة ضبط إيقاع النظام السياسي الدولي وشحن أوروبا خلفها من جديد ضد الدول المارقة وعلي رأسها ايران, الا انه يحسب لطهران قدرتها الفائقة علي انتهاج سياسة متوازنة فتواصل تحديها الهادئ للغرب, وفي صخبها ضد وجود إسرائيل, وفي دعمها العلني لحركات المقاومة بخاصة في لبنان وفلسطين. لكن إيران بتطلعاتها الاقليمية ومشروعها التوسعي في المنطقة دخلت المخطط الامريكي لصناعة العدو ولن تستطيع الإفلات من هذا الفخ رغم مناوراتها ومحاولاتها تحسين شروط تفاوضها عبر امتلاكها أوراقا في العراق ولبنان وأفغانستان. الصراع القائم بين طهران والغرب من السهل ان نستخلص منه انه لم يعد يتعلق بمدي التزام إيران بالقانون الدولي, وإنما بمدي مطابقتها كهدف جديد ونموذج مثالي يفي بمتطلبات وقوانين نظريات صناعة العدو في دوائر التخطيط الأمريكية وهو الامر الذي تنجح ايران احيانا في التعامل مع معطياته دون ان تحرم نفسها من الفشل في احيان اخري كثيرة في تطويعه. فكل المؤشرات تشير الي أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها قطعوا مرحلة متقدمة من استهداف ايران بالتطويع عبر آليتي الضغط والحصار والحملات الإعلامية, وصولا إلي التفجير الداخلي أوالتهديد بتعجيزها عسكريا عبر حملات جوية تستهدف منشآتها النوويه والامنيه والبنيه الاساسيه الحيويه. من السهل القول ان حزم العقوبات المتواليه التي فرضت علي ايران منذ مطلع الالفية الحالية, سواء التي فرضتها الاممالمتحدة او الولاياتالمتحدة ومن بعدها الاتحاد الاوروبي, قد انهكت الاقتصاد الايراني وكبحت جماح عناد سياسات ايران الي حد كبير وجعلت من العودة الي طاولة الحوار طوق نجاة دائما تتوق اليه طهران, لكن لا يزال حاجز الثقة بينها وبين الغرب يحول دون انفراجه حقيقية تنزع فتيل الصراع للابد ايران من الداخل كان الهدف المعلن من حزم العقوبات المتدرجة علي ايران خلال ال10 سنوات الاخيرة عبر تقييد ادواتها الدبلوماسية وفرض العزلة علي مسئوليها وحرمانها من التعامل مع المصارف الدوليه وخنق قطاع البترول, كان الهدف رفع درجة المعاناة اليوميه للمواطن الايراني وتأليبه علي قيادته علي امل ان يؤدي السخط الشعبي الي الاطاحه بنظام الملالي, لكن الجبهة الداخليه الايرانيه لم تكن بحاجه للمزيد من الزيت علي النار,فوصول الرئيس محمود احمدي نجاد الي السلطة ايذانا بعهد جديد من التشدد وفوزه بفترتين رئاسيتين انهي بجدارة الهدوء الذي شاب الجبهتين الداخليه والخارجيه خلال عهد سلفه محمد خاتمي. وكانت الانتخابات الرئاسية الايرانية الاخيرة في يونيو2009 بمثابة استفتاء شعبي علي كيفية التجاوب مع سياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي اعلن فتح صفحه جديده مع ايران تختلف عن تلك الصفحة العاصفة لسلفة بوش, ورأي المراقبون أن الانتخابات الرئاسية الاخيرة في إيران اتسمت بحساسية خاصة عن أي انتخابات إيرانية سابقة منذ وقوع الثورة عام1979 وذلك بسبب اليد الممدودة علانية لاول مرة من رئيس امريكي لاقامة علاقات دبلوماسية حقيقية, والتوقف عن حصر التعاون الأمريكي الإيراني في الخفاء كما كان هو الحال علي مدي السنوات الطويلة الماضية والحقيقة ان الانتخابات الايرانية شهدت صخبا داخليا غير مسبوق بلغت معها المواجهة بين انصار الاصلاح وتيار التشدد الاقوي نفوذا سخونة لم يسبق لها مثيل غذاها نجاد باتهامات لابرز منافسيه الاصلاحيين مير حسين موسوي و مهدي كروبي ومحسن رضا باستخدام وسائل دعائية تشبه وسائل استعملها الزعيم النازي السابق أدولف هتلر, وذلك علي الرغم من أنه دأب هو نفسه علي إنكار المحرقة التي يقول اليهود إنهم تعرضوا لها علي يد النازية وهي تصريحات لجأ اليها نجاد كثيرا لاستمالة الجبهة الداخلية.واظهرت الانتخابات مدي الانقسام الشديد والحاد في ميول الشعب الإيراني حيث كانت هناك مقاطعات ومناطق بكاملها تميل إلي تفضيل نجاد خاصة في القري والأقاليم الريفية, بينما يميل الشباب والنساء في المدن الكبري لتفضيل المرشح حسين موسوي. صدام أركان النظام لكن اخطر ما افرزته الانتخابات ذلك التراشق النادر والصدام العنيف بين اقطاب التشدد في النظام وبلغ ذروته حين طالب رئيس مجلس خبراء القيادة هاشمي رافسنجاني في رسالة مفتوحة إلي مرشد الثورة علي خامنئي بمعاقبة نجاد, محذرا إياه بطريقة غير مباشرة من دعم نجاد في الانتخابات الرئاسية ردا علي الاتهامات التي وجهها الاخير للعديد من اركان النظام وذهبت بعض وسائل الإعلام إلي التعبير عن رسالة رافسنجاني برسم كاريكاتوري يظهره وهو يمسك نجاد من أذنيه, معتبرة أنها بمثابة تلويح بمعاقبة الرئيس الحالي. احتمالات الضربه العسكريه استراتيجيا تبدو الكفة متزنة نوعا ما ازاء اقدام الولاياتالمتحدة بدعم اسرائيلي علي توجيه ضربة اجهاضية لايران, أو ان تظل حالة اللاسلم واللا حرب الراهنة مع نظام طهران واستمرار المراهنة علي تغيير ثوري من الداخل, فبينما تدور الاتهامات الاسرائيلية لايران حول التواري خلف مبادرات غير حقيقية للحوار مع الغرب للتسويف لاستكمال انتاج السلاح النووي, تبدو ايران اكثر اصرارا علي المراهنة علي ان الادارة الامريكيه الحالية لن تغامر بفتح جبهة قتال جديدة في ظل اشتعال الاوضاع في العراق وأفغانستان, كما لم تخف واشنطن حاجتها للتعاون مع ايران لاعادة الاستقرار للنقطتين الساخنتين السابقتين مقابل احتفاظ طهران ببرنامج نووي سلمي يخضع للرقابة الدولية, ولا تستبعد واشنطن تعرض قواعدها العسكرية في الخليج لانتقام ايراني لن يتورع ايضا عن اغلاق مضيق هرمز امام حركة التجارة الدولية وناقلات البترول مما يعزز المخاوف من انفجار اسعار البترول العالمية. وربما يجدر توقع ارجاء سيناريوهات المواجهة العسكرية المقبلة مع ايران مؤقتا دون استبعادها تماما_ خاصة اذا ما وضعنا في اعتبارنا التقارير الامريكية التي تحدثت عن خطط ادارة بوش لضرب ايران لولا الازمات التي عصفت بها في توقيت دقيق بسبب تداعيات حربي العراق وافغانستان ثم الازمة المالية العميقة, فربما يتم تأجيل التنفيذ الذي قطعت اسرائيل في سبيله شوطا طويلا استعدادا للحظة الصفر تحت ضغط امريكي يحاول تهيئة الاجواء لاعادة عملية السلام بين الفلسطينيين واسرائيل الي مسارها, لأن ضرب ايران في الوقت الحالي سيلقي بظلاله القاتمة علي مسارات السلام وسيدفع الشعوب العربية للتضامن مع دولة اسلامية في ظرف دولي لا يتحمل مثل هذه المهاترات. لكن ذلك لا ينفي ان اسرائيل لا تعنيها في كثير من الاحيان اعتبارات الظرف الدولي, فقد اجرت اسرائيل قبل شهور مناورات عسكرية بمفردها او بالاشتراك مع الولاياتالمتحدة تزامنت مع تدريبات قام بها سلاح الجو الاسرائيلي شملت رحلات طويلة علي طول البحر المتوسط مع تزود بالوقود في الجو لقياس القدرة علي ضرب عشرات المواقع الايرانية والعودة الي اسرائيل فضلا عن تكرار تدريبات الدفاع المدني لتأهيل الاسرائيليين لأي مواجهة محتملة, وشهد الصراع تحولا استراتيجيا مع توجيه اصابع الاتهام لاسرائيل بالتورط في اغتيال علماء ايرانيين واستهداف البرنامج النووي الايراني بحرب اليكترونية إيذانا بتحول جديد في المواجهات الدولية بعيدا عن صخب آلة الحرب العسكرية التقليدية.