كان مسلسل الشهد والدموع هو ملخص لفكرة أوسع اعتملت في ذهن الفنان الراحل سرعان ما تحولت إلي موسوعة ضخمة من خمسة أجزاء هي مسلسل ليالي الحلمية هو يسجل ويرصد أحلامهم وانتصاراتهم وانكساراتهم, وفي نفس الوقت يرسم الصورة المقابلة للصوص والقتلة من الداخل والخارج. في بداية ثمانينيات القرن العشرين وبعد سلسلة من الأعمال التمهيدية أطل علينا أسامة أنور عكاشة بمسلسل تليفزيوني بعنوان المشربية, أظنه العمل الأول في مشروعه الكبير لاكتشاف مصر التي يعشقها, وليستمر في عطائه حتي يجود بالنفس الأخير مع خاتمة أعماله المصراوية, فبرحيله وضع الأديب أسامة أنور عكاشة مجمل أعماله بين قوسين هما المشربية والمصراوية. والمشربية هو عنوان واحد من بواكير أعماله التليفزيونية التي عرضها التليفزيون في عام1980, وفي هذا العمل البديع يعرض أديبنا الراحل لحارة في القاهرة الفاطمية يشاع عنها أنها تحتوي علي منزل أثري يعتقد سكان الحارة أن به كنزا مدفونا. ويدور المسلسل حول الصراع الذي ينشب بين حراس الكنز من المصريين البسطاء والشرفاء واللصوص من أهل الحارة ومن الأجانب الذين يترصدون لسرقة الكنز من أهله. هذه الحارة التي تلخص مصر وحضارتها وهذا الصراع بين حراس الحضارة واللصوص شكلا التيمة الرئيسية لمشروع أسامة أنور عكاشة الفكري. فهو يقول باختصار إننا حراس هذا البلد وحضارته ضد كل من يحاول سرقته وسرقة أحلامنا معه. في عمله التالي الشهد والدموع, والذي كان بداية شهرته الحقيقية في الدراما التليفزيونية, يتوسع أسامة أنور عكاشة في رسم صورة المجتمع المصري, ويحاول أن يرسم خريطة وراثية واضحة لمعالم الكنز ولملامح الحراس ومعاناتهم, ولصفات اللصوص وشراستهم, وهو هنا يستعين بالقصة الشهيرة للأخ القاتل الذي يقتل أخيه طمعا في الميراث, هو قابيل الذي يقتل أخيه هابيل, أوست الذي يقتل أخيه أوزوريس. وهنا يسيطر علي المشهد الأم المصرية المضحية زينب, هي إيزيس التي تربي أبناءها, وهي التي تدفع بكرها دون أن تدري إلي الانتقام من السارق القاتل. كان مسلسل الشهد والدموع هو ملخص لفكرة أوسع اعتملت في ذهن الفنان الراحل سرعان ما تحولت إلي موسوعة ضخمة من خمسة أجزاء هي مسلسل ليالي الحلمية, هنا وضع أسامة أنور عكاشة خريطة مصر الاجتماعية والسياسية منذ أواخر العشرينيات من القرن العشرين وحتي الآن علي طاولة الابداع, فنسج وشكل وصور الكنز كما يراه, ونوع وربط بين حراسه من مختلف الطبقات والفئات والأعمار, وهو يسجل ويرصد أحلامهم وانتصاراتهم وانكساراتهم, وفي نفس الوقت يرسم الصورة المقابلة للصوص والقتلة من الداخل والخارج. ويستمر مبدعنا الراحل علي نفس المنوال في أعماله التي تخللت أجزاء ليالي الحلمية وتلك التي تلتها, غير انه اختار أنه يجعل بعض هذه الأعمال يسيطر فيها الحراس علي ذهن المشاهد بدءا من العنوان وحتي أصغر التفاصيل, فقد حملت بعض هذه الأعمال صورة حارس الكنز, الفارس رجلا أو امرأة في صلب العمل, كما قدم أبو العلا البشري, وأبلة حكمت, وامرأة من عابدين, وامرأة من زمن الحب. وفي أعمال أخري اختار العكس, فالمسيطر علي ذهن المشاهد من البداية هم اللصوص, هكذا قدم الراية البيضا, وفضة المعداوي, وهكذا قدم عفاريت السيالة. وفي محاولته الكثيفة لفهم مصر والمجتمع المصري يكتشف مبدعنا الراحل أن كنزه مركب ومتشعب ومتعدد الأوجه, وهو الأمر الذي شكل صعوبة علي التعرف عليه من قبل حراسه, إنه سؤال الهوية الذي يشغل بال الجميع, وهو سؤال المناطق التي سقطت من الذاكرة المصرية, هكذا قدم حسن أرابيسك, وشخصية بشر في زيزينيا. كانت المساحة الزمنية التي غطتها كتابات أديبنا هي المطابقة بالتقريب لسنوات عمره والتي صادفت سنوات عمر أزمة المجتمع المصري مع الحداثة والدولة الحديثة, فلم يكن غريبا أن يعكس وجدانه وعقله الأزمة في الصورة الكثيفة التي أشرنا لها قبلا, لكني أعتقد أن أسامة أنور عكاشة ادرك عمق أزمة المجتمع المصري في العشر سنوات الماضية, وهو ما جعله يسقط آراء كان يعتنقها ويصدم المجتمع بأوهام اكتشفها في بحثه الواعي, والأهم أنه أدرك أن استكمال فهم الكنز يفرض عليه أن يعود أكثر إلي الوراء وأن يبدأ بفهم زمن النهضة التي سبقت الأزمة. في هذا السياق كانت ملحمة المصراوية, عمل أسامة أنور عكاشة الأخير, فهو يعود إلي الوراء في الزمن ويعود بالمكان إلي مسقط رأسه, وهو في الحالين يدرك أن هذا آخر أعماله فلم يكن غريبا أن يكون تصريحه الأخير لصحيفة العربي لقد سددت الفاتورة من صحتي والمصراوية عمل من العيار الثقيل وهو ملحمي الطابع, ورغم شعوري بالتعب إلا انني أشعر بالمتعة في انجازه, وأنوي بعده أن أقوم باستراحة طويلة, فهل كان يعرف أن الاستراحة ستكون بهذا الطول؟