تعود علاقة مصر بحلف الناتو إلي لحظة التحول واليقظة المصرية في عصر الرئيسين السادات ومبارك, واكتشافهما طبيعة التغيرات في الجغرافية السياسية المحيطة بمصر, وضرورة توفيق سياسات مصر الخارجية والداخلية وفقا لذلك. والفرق بين الجوار' الجغرافي السياسي' و'الجغرافي الطبيعي' أن الأول مقارنة بالثاني يخلق إدراكا أمنيا وسياسيا لدي الدولة لا يتوقف علي بعد أو قرب المسافة من مصر أو وجود جوار مباشر معها من عدمه. فالولاياتالمتحدة برغم بعدها الجغرافي عن مصر تعتبر' جارا' قريبا من منطق الجغرافية السياسية. ومن قبل نتذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر قد تبني جغرافية سياسية لمصر تقوم علي الدوائر الثلاث الشهيرة: الدائرة العربية والإفريقية والإسلامية, وسياسة عدم الانحياز بين القطبين السوفيتي والأمريكي, وقد حملت هذه الرؤية مصر في فترة معينة مسئوليات وأعباء تجاه هذه الدوائر شملت مساعدة دولها في التخلص من الاستعمار وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي, لكنها بجانب هذه التكلفة خلقت جفوة بين مصر والعالم الغربي بكل قدراته الفكرية والعلمية والتكنولوجية والحضارية والتي مكنته في النهاية من الخروج منتصرا في نهاية الحرب الباردة وما ترتب علي ذلك من انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه. ولاشك أن دولا كثيرة في دوائر عبد الناصر الثلاث قد أضيرت بشدة من جراء انهيار الاتحاد السوفيتي, لكن من حسن حظ مصر أن السادات انتبه مبكرا في السنوات الأولي من السبعينيات إلي أن أحوال الاتحاد السوفيتي وأسلوب إدارته للسياسة والاقتصاد لن تقوده إلي الفوز في الحرب الباردة وأن النصر في النهاية سيكون من نصيب حلف الناتو وليس حلف وارسو الذي اختفي تماما ولم يعد له وجود. وخلال عشر سنوات فقط خرجت من جعبة السادات ثلاث مبادرات تاريخية شكلت جغرافية مصر السياسية الجديدة بدأها بالخلاص من مراكز القوي أصحاب الجغرافية القديمة, وشن حرب أكتوبر المجيدة بدون إذن من الاتحاد السوفيتي وفي وجه تردد من بعض الفئات في الداخل, ثم رمي سهمه الثالث بالذهاب إلي إسرائيل والحديث في الكنيست ووقع معاهدة سلام معها استرد بها سيناء برغم استقالة ثلاثة وزراء خارجية صعب عليهم إدراك التحول في جغرافية مصر وجوارها الخارجي. وتلا ذلك مشاركة مصر في عهد الرئيس مبارك عسكريا في حرب الخليج1991 بجانب الولاياتالمتحدة والتحالف الغربي الواسع, الأمر الذي عزز دور مصر من منظور جغرافيتها السياسية الجديدة ومهد لها الطريق بعد ذلك إلي مؤتمر مدريد, واتفاقيات أوسلو, وعودة عرفات التاريخية وإخوانه من الشتات إلي فلسطين( غزة) في معية الرئيس مبارك, الذي صاحب عرفات حتي الحدود المصرية الفلسطينية. وترجمت علاقة مصر مع الشمال والغرب في مبادرتين الأولي ما عرفت باسم عملية برشلونة, والثانية في حوار متوسطي مع حلف الناتو كانت مصر من المبادرين للانضمام إليه في1994, وشاركها في نفس المبادرة موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس والأردن وإسرائيل. وكان من الطبيعي وجود إسرائيل في المبادرتين الغربيتين من منظور ما تحقق مع مصر في كامب ديفيد وما تحقق مع عرفات في أوسلو. لكن التعنت الإسرائيلي, والتأني المصري الأكثر من اللازم أحيانا, والتردد العربي, كلها قادت الجميع إلي خسارة معركة الزمن الذي حرص السادات دائما علي ألا يدهمه, حتي دخلت المنطقة كلها بعد أحداث11 سبتمبر2001 في نفق مظلم طويل. نعود إلي علاقة مصر بحلف الناتو وتطورها منذ بداية الحوار المتوسطي ونقول إن مصر كان لها رصيد عسكري وسياسي متميز مقارنة بالدول الأخري المشاركة في الحوار آخذين في الاعتبار أن حلف الناتو في الأساس حلف عسكري وسياسي في نفس الوقت. لقد تراكم رصيد مصر بداية من نصر أكتوبر1973, ثم مشاركتها الكبيرة والجريئة في حرب الخليج1991_ ثم انتشار قواتها لحفظ السلام في البوسنة والهرسك لفترة طويلة بعد إعداد متميز لهذه القوات, منحها كفاءة ليس فقط في العمل العسكري, ولكن أيضا في مهام إعادة البناء في مناطق عانت كثيرا من ويلات الحرب الأهلية. وبرغم هذا الرصيد المعتبر اختارت مصر أن يكون حوارها مع الناتو خافتا مقارنة بدول الجوار الأخري لأسباب تقوم في الأساس علي أن مصر منذ عصر عبد الناصر وحتي الآن ضد منطق الأحلاف العسكرية. وبطبيعة الحال لم يكن مطلوبا من مصر أن تصبح عضوا في الحلف, ولكن كان المطلوب أن تقيم مع الناتو حوارا بناء خاصة أن الحلف يمثل أكبر واجهة عسكرية وسياسية في عالم اليوم. وبالإضافة إلي ما سبق, أثر التعثر في حل القضية الفلسطينية علي الحوار مع الناتو, كما أثر أيضا علي عملية برشلونة في جانبها الأمني, ولم ينظر للأسف إلي المنطق المضاد الذي يري في تقوية الحوار مع تلك المؤسسات مددا لتنشيط عملية السلام ودفعها إلي الأمام وليس العكس. لكن ذلك لم يمنع مصر من المشاركة في فعاليات هذا الحوار وبعض أنشطته العملية متجنبة أن يسلط عليه كثير من الضوء الإعلامي. وفي عام2004 حدثت أزمة بين مصر وعدد من المؤسسات الغربية ومن بينها حلف الناتو ارتبطت بدعوات الإصلاح التي خرجت من هذه المؤسسات, وكان رد مصر واضحا وحاسما أن الإصلاح سيكون مصريا خالصا, ورفضت مصر استقبال مبعوث من حلف الناتو في إطار جولة له في المنطقة للحديث في الموضوع. لكن العلاقات تحسنت بعد ذلك واستقبل أحمد أبو الغيط وزير خارجية مصر نائب السكرتير العام للحلف في ذلك الوقت, وأعقبه في أكتوبر2005 استقبال جاب دي هوب شيفر سكرتير عام الحلف السابق في زيارة تاريخية قابل فيها أيضا المشير طنطاوي وزير الدفاع والإنتاج الحربي. ومؤخرا في30 نوفمبر2009 قابل أحمد أبو الغيط في بروكسل أندرز فوغ راسموسين السكرتير العام الجديد للحلف وناقش معه علاقة مصر بالحلف والأوضاع في إقليم المتوسط والشرق الأوسط. وكثيرا ما يؤكد أبو الغيط أن التقدم في العلاقات مع حلف الناتو مشروط بأثر هذا التقدم علي مسيرة السلام بين العرب وإسرائيل, وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة, وإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. وفي يناير2007 زار مصر الجنرال راي هينوت رئيس اللجنة العسكرية لحلف الناتو وقابل الفريق أول سامي عنان رئيس الأركان وكذلك الوزير أحمد أبو الغيط وصرح بأن مصر دولة لها نفوذ قوي في منطقة الشرق الوسط ولها طريقتها الخاصة في التعامل مع الحلف وهي تميل في كل الأحوال إلي توسيع مجالات التعاون معه. وقد وقعت مصر في2007 في إطار حوارها مع الحلف بروتوكولا للتعاون الثنائي في أنشطة مختلفة; كما قام السيد عمرو موسي الأمين العام للجامعة العربية لأول مرة بزيارة القيادة العامة للحلف في بروكسل في6 نوفمبر2008 وقابل السكرتير العام للحلف. وعمرو موسي من الحريصين علي التواصل الدائم والنشيط مع المؤسسات الأوروبية والدولية ما قد يفتح الطريق إلي زيارات مماثلة من جانب الحلف إلي الجامعة وتوسيع الحوار ليشمل دولا عربية أخري في المستقبل. الحوار مع حلف الناتو والتعاون معه أصبح قدرا لا مناص منه بالنسبة لمصر لأسباب كثيرة تزيد أهميتها مع الزمن ولا تقل. فلم يعد الحلف قابعا داخل القارة الأوروبية كما كان في الماضي بل اتسع حضوره في كل مكان يعكس مصلحة للجماعة الأوروبية-الأطلسية بعد اتساع رقعتها الجغرافية شرقا حتي حدود العراق. وعلي نفس المنوال, وبسبب النمو السكاني في دول جنوب وشرق المتوسط وتصاعد حجم التجارة والسياحة والنقل البحري والجوي عبر هذا الممر الإستراتيجي, تراكمت مشاكل وتهديدات أمنية لا يمكن حلها بدون تعاون وثيق مع حلف الناتو. ولاشك أن وجود قوات للناتو في أفغانستان ودوره في العراق وإفريقيا قد فرض علي الدول العربية والإفريقية وكذلك دول مثل الهند والصين واليابان أن تبادر بإقامة حوار مستدام مع تلك المؤسسة الكبيرة التي يراها البعض مؤسسة عالميةGlobalNATO وليست فقط أوروبية أطلسية. ومن هذه الزاوية لن يتحقق أمن البحر الأبيض والأحمر بدون وجود إستراتيجية عسكرية مشتركة بين مصر ودول الحلف بهدف تأمين الممرات البحرية. لذلك دعا حلف الناتو دول الحوار بما في ذلك مصر إلي المشاركة في عملية' السعي النشيط' للحد من تهريب الأسلحة والمواد الممنوعة وإجهاض عمليات القرصنة والإرهاب. المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد