عندما تمر بجوار حرم مجلس الشعب المطل على شارع قصر العينى، قد لا تلتفت لهذا المبنى التاريخى الرائع المعروف باسم الجمعية الجغرافية.. هذا المبنى الذى يحفظ ويحتفظ بتاريخ مصر، وكانت وثائقه السبب الأساسى لفرحة المصريين بعودة طابا من بين أنياب إسرائيل.. هذا المبنى يعيش التوتر الآن، وفقا لكلام مديره د. صفى الدين أبو العز فالجمعية تكافح من أجل البقاء وتجاوز الأزمة المالية الطاحنة التى هبطت عليها مثل الطاعون فى2002 . المذهل أن تداعيات الأزمة التى مازالت صاخبة وعنيفة، لم تمنع الجمعية من تقديم خدماتها.. فهل هى عادتنا المتكررة فى إهمال الكنوز التى لا تقدر بثمن.. أم أننا أصبحنا لا نرى ولا نقدر هذا الجمال الصامت التى يزين ميدان التحرير من فرط الضجيج. فالوقائع تؤكد أن الخديو إسماعيل فطن مبكراً لأهمية أفريقيا بالنسبة لمصر، وعندما أراد أن يضعها فى مصاف الدول المتقدمة علميا وحضاريا فلم يجد أمامه إلا أن ينشئ تاسع جمعية جغرافية على مستوى العالم والتى لعبت دورا مهماً فى صياغة البعد الاستراتيجى لمصر نحو منابع النيل وشاركت الغرب فى التقدم فى علوم الجغرافيا والجيولوجيا والاستكشافات.. فمنذ ما يقرب من 135 عاما وبالتحديد فى 19 مايو 1875 أصدر الخديو إسماعيل باشا مرسوما يقضى بإنشاء الجمعية الجغرافية الخديوية ويكون مقرها القاهرة وقرر لها إعانة سنوية 400 ألف جنيه وحدد للجمعية مهمتين أساسيتين الأولى دراسة علم الجغرافيا بجميع فروعها والثانية إلقاء الضوء على البلدان الأفريقية المجهولة أو التى لا يعرف عنها إلا القليل، وتنظيم الجهود الكشفية بما يعود على مصر بالنفع والفوائد فى المجالات التجارية والصناعية والبلاد المجاورة. وتحقيقا لهذه الأهداف والفرص تعقد الجمعية جلسات شهرية وتصدر مجلة تنشر فيها محاضر الجلسات والأبحاث الأصلية ووصف الرحلات العلمية مشفوعا بالخرائط وملخصات الكتب وجميع الوثائق التى تنم عن تقدم العلوم الجغرافية بالقارة الأفريقية وتعقد الصلات مع الجمعيات المهتمة بهذه الموضوعات وتراسل الرحالة وعلماء الجغرافيا والعلوم الطبيعية كما تستحث على القيام بالرحلات الاستكشافية فى أفريقيا وتساعد على تنفيذها بما تمتلكه من وسائل. تقع الجمعية فى قلب القاهرة ولا تبتعد عن ميدان التحرير إلا ببضعة أمتار حيث يحتضنها حرم مجلسى الشعب والشورى وتجاور العديد من الوزارات المهمة. جغرافية المكان جعلتها فى بؤرة اهتمام الدولة، فموقعها فى كنف مجلسى الشعب والشورى وقبتهما الشهيرتان وإجراءات الأمن التى يجتازها الفرد قبل الدخول إليها تؤكد اهتمام الحكومة المصرية بها. المعلومات والوثائق تؤكد أن الجمعية انتقلت منذ تأسيسها فى عام 1875 لأكثر من مكان إلى أن استقرت فى مكانها الحالى، حيث كان مقرها الأول قاعة فى أحد القصور الملكية الخاص بمحمد بك الدفتردار زوج الأميرة زينب هانم ابنة محمد على باشا الكبير، وكان جزءاً من قصر محمد بك الألفى الذى شغله بعد ذلك ديوان المدارس ثم تحول إلى مدرسة الألسن ثم فندق شبرد الذى احترق عام .1952 وفى عام 1878 أى بعد ثلاث سنوات على تأسيسها انتقلت إلى مقر جديد حلت فيه محل المحكمة القديمة ولاتزال أطلاله باقية حتى الآن فى آخر حارة العسيلى فيما بين ميدان الخازندار وشارع الجيش الحاليين، وفى عام 1895 انتقلت إلى مقر ثالث يقع عند ناصية التقاء شارع قصر العينى، ومجلس الشعب وقد تم هدم هذا المبنى ليحل محله المبنى الملحق بمجلس الشعب. وفى عام 1925 انتقلت الجمعية إلى مقرها الحالى وهو مبنى تاريخى يعود للقرن التاسع عشر وكانت تشغله وكالة الحكومة السودانية قبل أن تنتقل لمكان آخر فى منطقة التوفيقية، ويقع مبناها داخل سور يضم عددا من الأبنية الحكومية والسياسية الفخمة ومن بينها مقار مجلسى الشعب والشورى ووزارات الرى والشئون الاجتماعية والنقل - قبل انتقالها - وبعض دواوين محافظة القاهرة وقد سجل هذا المبنى ضمن الآثار المصرية لروعته المعمارية وزخارفه الفنية المميزة. تم افتتاح هذا المقر يوم الجمعة الموافق 3 أبريل سنة 1925 حيث احتفل رسميا بالعيد الخمسين لإنشاء الجمعية الجغرافية الملكية المصرية، فى البهو الكبير بمقرها الجديد، وحضرت هذا الحفل وفود الجمعيات الجغرافية المشاركة فى المؤتمر الجغرافى الدولى الثانى عشر، الذى احتضنته مصر لأول مرة، وافتتحه الملك فؤاد الأول يوم الخميس 2 أبريل، فى دار الأوبرا القديمة التى أنشأها الخديوى إسماعيل وقد سجل أعضاء الوفود أسماءهم فى سجل خاص بمقر الجمعية، ثم قاموا بزيارة معرض الجمعية. ويتكون مبنى المقر من جناحين وطابقين، وبكل جناح منهما حجرات وصالات استخدمت مكاتب أو مكتبات أو صالات عرض، وفيما بين الجناحين بهو تم إعداده على هيئة قاعة محاضرات، طوله 35 مترا وعرضه 24 مترا وارتفاعه 10 أمتار ونصف المتر، وسقفه محمول على 12 عمودا وقام بزخرفة سقفه براندانى الذى استخدم نماذجه من الزخرفة العربية فى القرن الثانى عشر الميلادى وهى تتألف من أشكال هندسية زخرفية يغلب عليها اللون الأزرق الداكن. وقد تغير اسم الجمعية أكثر من مرة وفقا للتغيير السياسى فى مسمى الدولة بمصر، حيث تغير من الجمعية الجغرافية الخديوية ليصبح الجمعية الجغرافية السلطانية، ثم صدر مرسوم سلطانى أصدره السلطان حسين كامل فى 30 أكتوبر 1915 بقصر التين بالإسكندرية، بتعيين الأمير أحمد فؤاد رئيساً للجمعية بدلا من د. أبات باشا، ومع التغير التالى فى المسمى السياسى لنظام الدولة من سلطنة إلى مملكة فى سنة 1922 تغير مسمى الجمعية إلى الجمعية الجغرافية الملكية المصرية، حتى كان التحول إلى النظام الجمهورى فى مصر فى عام 1952 فأخذت الجمعية اسمها الحالى، وفى أكتوبر سنة 1958 صدر قانون جديد للجمعية تم التنويه فيه إلى البعد العربى فى رسالة الجمعية، حيث جاء فى المادة الأولى أن غرض الجمعية تشجيع وتنشيط الدراسات الجغرافية والعلوم المتصلة بها، وبوجه خاص ما كان متعلقا بجغرافيا أفريقيا ومصر والعالم العربى. وبعد صدور قانون الجمعيات الأهلية رقم 32 لسنة 1954 تعدل النظام الأساسى للجمعية وجاء فى البند الثانى من لائحته أن غرض الجمعية يقع فى مجال البحث الجغرافى من خلال تنظيم محاضرات، ونشر مؤلفات، وإصدار مجلات، وتشجيع البحث الجغرافى، وكذلك تنظيم رحلات علمية فى الوطن العربى والعالم الخارجى، وتنظيم مؤتمرات ومعارض، والاشتراك فيما يقام منها فى مجالات الجغرافيا مع الجمعيات العلمية المماثلة فى الخارج. وقد شهدت الجمعية الجغرافية تطورا مستمرا من أبرز ملامحه: الصيانة المتلاحقة لمقرها العتيد، والتدعيم المتواصل لمقتنياتها العلمية ومكتبتها، وإعادة تنظيم متحفها، والتطور الإدارى والتنظيمى، وتوسيع دائرة الاهتمام العلمى الجغرافى سواء بالنشر أو المحاضرات والندوات، أو المشاركات الجغرافية المصرية داخل الوطن وخارجه، كما تزايد عدد أعضاء الجمعية تزايدا مستمرا ويربو عددهم الآن على سبعمائة عضو ما بين عامل ومراسل ويشكل أعضاء هيئة التدريس بأقسام الجغرافيا فى الجامعات المصرية والعربية نحو ثلث هذا العدد. حدثان مهمان مرا على الجمعية كادا أن يغيرا من تاريخها وملامحها، ووصلت إلى حد القضاء عليها تماما وضياع ما بها من تراث ومحتويات أثرية ومعرفية ثمينة لا تقدر بثمن.. الحدث الأول عندما صمدت الجمعية بمبناها التاريخى وقبته أمام زلزال 1992 والثانى عندما نجت بأعجوبة من حريق مجلس الشورى المتاخم لها فى عام .2008 تولى رئاسة الجمعية عدد من الرموز السياسية والشخصيات العامة والأمراء والعلماء وجاءوا جميعا بعد العالم النمساوى جورج شفاينفورت الذى كان له الفضل فى وضع الأسس العلمية للمهام التى توافرت للجمعية حيث تولى جورج رئاسة الجمعية من عام 1875 وحتى 1879 ثم خلفه الجنرال ستون باشا من 1879 وحتى .1882 وإسماعيل أيوب باشا فى الفترة من «1882 - 1883»، ومحمود الفلكى باشا «1883 - 1889»، والأمير عباس حلمى الذى أصبح فيما بعد الخديو عباس حلمى الثانى «1889 - 1890»، والدكتور و. أبات باشا «1890 - 1915»، والأمير أحمد فؤاد - الملك فؤاد الأول «1915 - 1918»، وإسماعيل صدقى باشا رئيس وزراء لأقل من عام، وبعده تولى المسيوج. فوكار «1918 - 1926»، والدكتور و.ف. هيوم «1926 - 1946»، وشريف صبرى باشا «1946 - 1995»، ومصطفى عامر «1955 - 1965»، والدكتور سليمان حزين «1965 - 1993»، وأخيرا رئيسها الحالى الدكتور محمد صفى الدين أبوالعز وزير الشباب الأسبق. وإذا كانت الجمعية الجغرافية تعد واحدة من أقدم 9 جمعيات مماثلة على مستوى العالم، حيث تأسست الأولى فى باريس عام 1821 ، والثانية فى برلين عام 1828م، ثم تأسست فى لندن عام 1830م، والمكسيكية سنة 1833م، وفرانكفورت سنة 1836م، والروسية سنة 1845م، والأمريكية سنة 1851م، وبرنامبوكو بالبرازيل 1863م، ثم الجمعية الجغرافية المصرية سنة 1875م، التى تعد بهذا تاسع جمعية جغرافية متخصصة فى العالم، كما أنها أقدم جمعية خارج أوروبا والأمريكتين.. فإن الدكتور محمد صفى الدين أبوالعز رئيس الجمعية ووزير الشباب الأسبق يوضح أنه يكفى الجمعية المصرية فخرا أنها الوحيدة من التسعة التى استمرت فى العطاء العلمى وتقديم خدماتها دون توقف الممثل فى الكشوف الجغرافية وساهمت فى الكشف عن أسرار وخبايا نهر النيل ومنابعه باستثناء ما حدث من توقف لمجلتها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهى التى نشرت جميع أعمال الرحالة والعلماء الذين ارتادوا الصحارى المصرية وتناولت بحوثهم كل سمات وخصائص هذه الصحارى من حيث طبوغرافيتها ومياهها والنبات الذى يوجد فى بعض بقاعها بخلاف دراسة الظروف المناخية المحيطة، وتتميز أروقة الجمعية بأنها تحتضن في جنباتها ذاكرة مصر حيث إنها تحتفظ فى متاحفها. مفردات الحياة الشعبية فى قاعة القاهرة والتى تضم المحمل النبوى والتختروان وصندوق الدنيا العجيب ومنتجات الحرف والصناعات التقليدية والألعاب والحلى والآلات الموسيقية الشعبية، كما تحوى قاعة قناة السويس مجسمات تذكارية للقناة ومدنها وطريقة حفرها وخرائطها، بالإضافة لما تحويه مكتبة الخرائط بالجمعية من أطالس نادرة كأطلس أسفل الأرض للأمير عمر طوسون وأطلس الأمير يوسف كمال لأفريقيا، وخرائط نادرة رسمها جوردون وبوردى ومحمود باشا الفلكى، وقد قام بعض أعضاء الجمعية برحلات علمية وكشفية داخل مصر ومنهم الملك فؤاد الذى قام برحلة علمية إلى واحة سيوة وما حولها عام 1928 وأحمد حسنين بك الذى قام برحلة فى الصحراء الغربية عام 1922 كشف فيها واحات أركنو والعوينات، وكذلك رحلات الأمير كمال الدين حسين فى الصحراء الليبية والبعثة العلمية التى أوفدتها الجمعية عام 1946 إلى شبه جزيرة سيناء. وكشف الدكتور صفى الدين عن أن الجمعية مشتركة فى نحو 300 من الدوريات، كما أن أرففها تضم 40 ألف كتاب ويرتادها من 50 إلى 80 طالبا يوميا للاطلاع، ومع كل هذا الجهد المبذول والدور الذى تلعبه الجمعية الجغرافية وخرائطها النادرة التى حفظت حدود مصر وتم استخدامها فى التحكيم الدولى لحل مشكلة طابا وأسهمت فى عودتها للسيادة المصرية مع كل هذا فإن الجمعية تكافح للبقاء وتجاوز الأزمة المالية الطاحنة التى نزلت بنا منذ عام 2002 نتيجة للسطو الذى وقع على ريع الوقف الذى تركه راتب باشا الشركسى وهو عبارة عن 680 فدانا بمركز بسيون فى محافظة الغربية للإنفاق على الأنشطة العلمية من قبل عصابات ومافيا الاستيلاء على الأراضى بالتزوير بزعم أنهم ورثة راتب باشا الأمر الذى جعلنا ندخل فى نزاع قانونى ولاتزال القضية تنظر حتى الآن رغم صدور أحكام بحبس هذه العصابة، ومع هذا مازلنا نجاهد من أجل تقديم الخدمات رغم معاناتنا من قلة الموارد المالية للصرف والإنفاق على كل مناحى التشغيل من خدمات وأجور ومرتبات، وقد بح صوتنا مع وزارة التضامن والوزير الدكتور على المصيلحى لكى يدعمونا فالجمعية تتبع الوزارة لكن لا حياة لمن تنادى، وعندما عرضنا الأمر على وزارة الثقافة فما كان من فاروق حسنى إلا أن بادر وقام بدعمنا وهو ما جعلنا نتمكن من دفع رواتب العاملين، ولذلك فنحن نطالب بأن تتبع الجمعيات العلمية وزارة التعليم العالى والبحث العلمى أو وزارة الثقافة.